المواطنة وتحولاتها في سياق تاريخي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على العكس من ندرة الحصول على مفهوم للمواطنة في المعاجم العربية؛ تحضر اللفظة، وبقوة، ضمن تضاعيف قواميس اللغات الأجنبية، فيذكر معجم «لاروس» الفرنسي، على سبيل المثال، لفظة المواطنة بمعنى: المساهمة في حكم دولة ما على نحو مباشر أو غير مباشر، ويصف «المواطن» بأنه الشخص الذي يتمتع بعضوية بلد معين ويستحق بالتالي ما ترتبهُ هذه العضوية من امتيازات. أما معجم «لونجمان» الإنجليزي؛ فيستخدم الكلمة للدلالة على تلك الحالة التي يُعد الفرد فيها مواطنا؛ كونه يعيش في رحاب دولة معينة، وينتمي إليها، ويُخلِصُ لها، ومن ثم يحظى بحمايتها، ويتمتع بعضويتها، سواء بحكم المولد أو بحكم اكتساب الجنسية.

على أن المفارقة الواقعة هنا بين غياب لفظة المواطنة في قواميس اللغة العربية من جهة وحضورها في قواميس اللغات الأجنبية من جهة أخرى، لا تقتصر على المعنى اللغوي فقط للكلمة؛ وإنما تتعداها لتصل إلى مستوى التعريف الاصطلاحي أيضا!! ففيما عدا «موسوعة السياسة الدولية» لعبد الوهاب الكيالي، والتي عرّفت المواطنة بأنها صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه للوطن، اختفى مفهوم المواطنة تماما من «الموسوعة الإسلامية» الصادرة عن وزارة الأوقاف المصرية، و«موسوعة العلوم السياسية» الصادرة عن جامعة الكويت، و«معجم المصطلحات السياسية» الصادر عن مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وغيرها. فيما تزخر عشرات المعاجم والموسوعات الأجنبية بمئات التعريفات الاصطلاحية المتعلقة بالمفهوم: نشأة، وسيرورة، ومآلا!! وبطبيعة الحال؛ يختلف تعريف المواطنة من علم إلى آخر استنادا لتعدد المداخل التي يُدرَس من خلالها، فتعني عند غالب فقهاء القانون: توافر شروط قانونية معينة للشخص حتى يعد مواطنا؛ وفي معناها السياسي قد تشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمَن يحمل جنسيتها والالتزامات التي تفرضها عليه، وقد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه بما يُشعره بالانتماء إليه، ومن المنظور الاقتصادي الاجتماعي يُقصد بها: إما إشباع الحاجات الأساسية للأفراد؛ بحيث لا تشغلهم أمور الذات عن أمور الخير العام، أو التفاف الناس حول مصالح وغايات مشتركة بما يؤسس التعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك.

وإذا انتقلنا من سياق الفكر العربي إلى دائرة أوسع هي الفكر الإسلامي، سنصادف برنارد لويس - ومن هم على شاكلته - يثيرون إشكالية من نوع آخر تماما تقضي بتعارض مفاهيم الإسلام مع المواطنة! وفي هذا الإطار يؤكد لويس أن مفهوم المواطنة غريب تماما عن الإسلام ويمثل هذا الغياب بالنسبة له حقيقة تاريخية وثقافية مميزة في الفكر الإسلامي!! وبحسبه أيضا، فإنه لا توجد كلمة ترادف Citizen بمعنى «مواطن» في اللغات العربية والفارسية والتركية، وإنما يوجد مصطلح مقابل لها يُستخدم في كل منها بمعنى: ابن البلد، وهي كلمة تخلو بدرجة كبيرة من أية مضامين أو إيحاءات للكلمة الغربية التي تنحدر من أصول لاتينية وإغريقية، بمعنى: الفرد الذي يشارك في الشؤون العامة (المدنية).

وفي السياق ذاته؛ يعبر محمد أركون عن رأي مماثل مفاده أن مفهوم الجماعة السياسية في الإسلام يخلو من أية محاولة لتطوير سياق للمواطنة، كشرط ضروري، ليس لنشوء حكم القانون فحسب، بل لظهور المجتمع المدني الذي يستطيع السيطرة على سلطات الدولة! وهو ما أكده أيضا سمير أمين بالقول: إن المساواة القانونية لم تكن سمة من سمات الأنظمة التقليدية العربية أو الشرقية!! في المقابل من ذلك؛ يؤكد عبد الوهاب الأفندي أن ثمة مصطلحا يمكن اعتباره معادلا دقيقا للمصطلح الغربي «المواطن»، بمعني الفرد الكامل العضوية في المجتمع السياسي والذي له حقوق وعليه واجبات تُحتم عليه المشاركة في الحياة العامة، ألا وهو: مصطلح «المسلم». وهو يُرجع ذلك إلى أن هوية المجتمع الديني والسياسي، في بدايات المجتمع الإسلامي، كانت من المسلمات بحيث يتمتع الفرد - بحكم كونه مسلما - بعضوية فورية وكاملة في المجتمع السياسي، وبالمعني الإيجابي، بل «والجمهوري للمواطنة النشطة»! ويستدل على ذلك بما ورد في الحديث الشريف: «المسلمون ذمتهم واحدة، ويسعى بذمتهم أدناهم، ومن حقر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»!! أما المستشار طارق البشري؛ فيؤكد أن المفهوم الإسلامي للجماعة السياسية إنما يقوم على الدين، ولأجل أن يتمتع الفرد بكامل شروط المواطنة عليه أن يكون مسلما وهذا هو الشرط الكافي والضروري لحالة المواطنة، بينما تعتمد مكانة غير الأعضاء على صلتهم التعاقدية مع المجموعة الأصلية.

وبهذا لا يختلف الإطار الفكري لمفاهيم المواطنة التي تبناها النظام العالمي بعد عام 1948 من حيث المبدأ عما سبق ذكره، وإنما يكمن الفارق الوحيد في أساس المواطنة ليس إلا، حيث تعتمد الجماعات السياسية الحديثة الترابط التاريخي القائم بين الفرد ووجود إقليمي معين كأساس للعضوية فيها، مع استثناء مَن لا ينطبق عليهم هذا الشرط من حقوق المواطنة الكاملة.

والواقع أنه على الرغم من الصحة الجزئية لملاحظات لويس وأركون - خاصة ما يتعلق بمجال الاشتقاق اللغوي لمصطلح المواطنة في العربية وعدم وفائه بالمضامين السياسية والفكرية له في دائرة الحضارة الغربية - فإن المصطلح يُستخدم بالفعل من قبل عدد كبير من المفكرين المعاصرين بالمعنى الغربي له، بل ويتم توظيفه توظيفا جيدا للتأكيد على مضمونه الحقوقي والسياسي، كما في كتاب خالد محمد خالد «مواطنون لا رعايا»، وكتاب فهمي هويدي «موطنون لا ذميّون»، حيث يستخدمه هؤلاء الكتاب استخداما مقرونا بالسعي إلى العدل والمساواة بالنسبة لجميع من يحمل جنسية الدولة، ومن ثم فإن دعوة طرح المصطلح جانبا والبحث عن بديل له لا تكتسب برأينا الجدارة المطلوبة. أما عن مفهوم المواطنة في السياق الغربيّ؛ فمن المعلوم أنه مرَ بمراحل متعددة وتطور تاريخيا منذ الإغريق القدامى الذين يرجع إليهم الفضل في وضع المفاهيم الأولى للفكر السياسي الحديث والمعاصر، بخاصة ما يتعلق بتأمل نظم دولة المدينة The city State وغيرها. على أن أهم ما ميّز تجربة اليونان عامة أنهم بلغوا درجة من الوعي الاجتماعي، وحققوا نوعا من الثقافة السياسية، مكّنت العقل الأثيني من أن يقف من تجاربه السياسية السابقة موقفا ناقدا، وأن يدرك أن النظم السياسية أكثر فعالية من الأشخاص. ولذلك كانوا كلما ضاقوا بوضعٍ عام لم يقتنعوا بتغيير أشخاص الحكم - كما كان الحال عليه في الأمم الشرقية الأخرى - وإنما قاموا بتعديل الدستور، وإحداث ما يلزم من تغيير في القانون.

ومما يلفت النظر في سياق تراتبية الطبقات داخل دولة المدينة هو سيطرة المدينة/ الدولة ذاتها - مهما كان شكلها ونظامها- على المواطنين، فقد كان الإغريقي يؤمن قبل كل شيء بأنه مواطن، وسلوك أفلاطون Plato (427 – 347 ق.م). وهو يحاول بناء مدينة عادلة، للحصول على رجال عدول، يبدو كدليل على هذه الحالة الفكرية، حيث المدينة/ الدولة هي محور حياة المواطن برمتها! وقد قدمت أثينا للعالم في عصر بركليزPericles ( 495 – 429ق. م). مثلا للمدينة التي يتمتع فيها المواطنون بالحرية والمساواة؛ الحرية بمعنى أنه لا يمكن أن يُسْترقّ أحدٌ منهم لأي سبب من الأسباب، والمساواة بمعنى أنّ لهم جميعا الحقوق نفسها سواء كانوا فقراء أم أغنياء، نابهين أم خاملين. ونتيجة لذلك؛ كان لهم جميعا حق الكلام في الجمعية The Assembly وحق الترشح للوظائف العامة، وحق تولي منصب القضاء، ولم يكن لأحد على آخر حق الصدارة في الأعياد العامة؛ باستثناء الحكام.

وتبعا لذلك؛ عرّف أرسطو «المواطن» بأنه: مَن يكون له حق الاقتراع في مجالس الدولة، والاشتراك في ممارسة السلطة. أما نقيضه؛ فهو الساكن أو المقيم! وبطبيعة الحال؛ يعكس هذا التعريف مدى اهتمام المواطن الأثيني بممارسة حقه السياسي؛ سواء بصفته عضوا في جمعية المواطنين Ekklaisa، أو بمساهمته في إقرار العدالة Justice من خلال اشتراكه محلفا أو قاضيا في المحاكم.

لكن لم يترتب على ذلك، كما يُخيل للبعض، إقرار مبدأ المساواة الكاملة لجميع مواطني الدولة!! بل لعلَّنا نُفاجأ إذا علِمنَا أنَّ أرسطُو نفسه لم يَجِد أدْنَى غَضاضةً في أنْ يُصرّحَ في كتابِهِ «السيّاسة» بأنَّ الفِطرَة هي التي أرَادتْ أنْ يكُونَ البرابِرةُ عبيدا لليونان، وأنَّ الآلهةَ قد خلقَتْ نوعينِ منَ البَشرْ؛ نوعا رفيع المقامِ زوّدَتهُ بالإرادةِ والعقل، وهم اليونانُ بطبيعةِ الحال، وآخر لمْ تُزوّده إلا بالقوةِ الجُسمانيَّةِ فقط، وهُم غيرُ اليونانيين!! وحتى عندما استخدم اليونانيون عِبَارة Demokratia، بحدودِ مُنتصفِّ القرنِ الخَامِس قبلَ المِيلادِ، للدّلالَةِ على «حُكم الشَّعب»؛ فإن ذلكَ لم يكن يعْني بحال من الأحوال اشتراك جميعِ طوائِفِ وطبقاتِ الشَّعب في الحُكم، وإنما النخبة!! ونتيجة لذلك؛ فإن المواطنة الإغريقية لم تكن مواطنة كاملة بالمعنى المتعارف عليه في الدول الديمقراطية المعاصرة؛ وإنما كانت منقوصة إلى حد كبير.

* كاتب مصري