المؤسسات الدينية وصرخة في وجه الرأسمالية

إميل أمين

TT

مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بدا وكأن المؤسسة الدينية هناك لم تعد قادرة على الصمت إزاء ما يجري، لا سيما أن الذي يدفع الثمن الباهظ لهذه الأزمات هم الفقراء والمهمشون من العامة، في حين تظل الطبقات البرجوازية بعيدة عن أن تطالها يد العوز أو الفقر، ناهيك عن التشرد والبطالة، وأخيرا الجوع والضياع.

في هذه الأجواء الخانقة روحيا رأينا وعبر التصريحات الأخيرة الصادرة في أوروبا وأميركا، حراكا كنسيا كاثوليكيا وإنجليكانيا واضحا، ومن قبلهما كذلك كانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي عانت في فترة واضحة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي من هجمة الأوليجاركية، لا سيما الصهيونية منها، ما دعاها بدورها للحديث علانية وبصوت صارخ في برية الرأسمالية الموحشة.

في تصريحاته الأخيرة كان البابا بنديكتوس السادس عشر يؤكد أن ما تشهده أوروبا عامة وإيطاليا خاصة، هو أزمة أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية، بل يشعر المرء بأن البابا شبه متشائم وفي أحسن الأحوال غير متفائل بالنسبة لأزمة إيطاليا، وخصوصا تلك التي تحتاج إلى 400 مليار يورو لانتشالها من الإفلاس.

ولعله يعن لنا في البداية أن نتساءل هل للكنسية أن تتناول الشأن الاقتصادي للإنسانية أم تبقى منغلقة في إطار الطقوس والشعائر الروحية للمؤمنين وليس أكثر من ذلك؟

الجواب يعود بنا إلى وثيقة فاتيكانية قديمة صدرت في 15 مايو (أيار) 1891 تحت عنوان «الشؤون الحديثة»، (RERUM NOVARUM) عن سعيد الذكر البابا لاون الثالث عشر. وباختصار غير مخل تركز الوثيقة على ثلاثة اتجاهات:

1 - تركيز المجتمع على العادلة القائمة على الدين.

2 - جعل العدالة والدين سندا قويا للإنسان في سعيه إلى بلوغ غايته.

3 - إظهار دور الكنيسة كحامية للطبقات العاملة، ومدافعة عن حقوقها باستمرار.

والشاهد أن هذه المحاور الثلاثة لا تزال تمثل ركائز استراتيجية رئيسية في توجهات حاضرة الفاتيكان كما تبدى مؤخرا في مناسبتين مهمتين مؤخرا.. ماذا عن ذلك؟

في أوائل شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي عقد في دار الصحافة الفاتيكانية مؤتمر صحافي لتقديم مذكرة أصدرها المجلس البابوي «عدالة وسلام» حول إصلاح النظام المالي العالمي، ولعل أهم ما ورد في المذكرة هو الإشارة بأصابع الاتهام إلى اللامساواة على المستوى العالمي، تلك التي تخلق توترات وموجات هجرة كبيرة. وهناك كذلك «نظام السوق الحر الخالي من القواعد ومن الرقابة» والنظام الاقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه مفاهيم الاستغلال والمادية.

أضف إلى ذلك الإدانة الواضحة والصريحة التي وجهتها المذكرة لما سمته «الآيديولوجيات الضارة» وفي مقدمتها «الفردية الأنانية» مما يؤكد كون الأزمة الاقتصادية والمالية نتاج أزمة أخلاقية وبالأساس.

المناسبة الثانية جاءت خلال مؤتمر لمؤسسة «كاريتاس الخيرية» في مدينة فيوجي الإيطالية، وهناك تحدث الكاردينال روبرت سارة، رئيس المجلس البابوي قلب واحد، مؤكدا بدوره أن: «الأزمة الاقتصادية في الغرب تتجذر في الأزمة الثقافية والأخلاقية والروحية، وأن علينا أن نساعد غربنا على إيجاد الإلهام الذي يساعده في تخطي المادية والانفتاح على نظرة أشمل للإنسان». لم تنقطع البيانات والتصريحات الفاتيكانية التي يشعر معها المرء بأن خطرا جسيما بات محدقا بالإنسانية، فمع الأسبوع الأول من الشهر الحالي وعلى هامش تعليقه على رسالة البابا لليوم العالمي للسلام 2012، والتي حملت عنوان «تربية الشباب على العدالة والسلام»، كان الكاردينال بيتر توركسون، رئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام، يشدد على أن «عالم اليوم ليس مطبوعا بأزمة اقتصادية ومالية وحسب، مع ما تحمله من تبعات مأساوية على عالم العمل بالدرجة الأولى، وإنما أيضا بانتشار ذهنية تضع الإنسان في أفق من العزلة والمادية والأنانية واليأس، وأن عمل الكنيسة الهام في الحق التربوي ينبغي أن يأخذ في الاعتبار ضرورة الإصغاء للشباب وعدم تهميشهم».

أما مجلس الكنائس الأوروبية فمن جهته وجه نداء للقادة السياسيين الأوروبيين الذين اجتمعوا مؤخرا في بروكسل من أجل تبني إجراءات فاعلة لمواجهة الأزمة المالية، وجعل حاجات الناس محور اهتمامهم في البحث عن حلول، مؤكدين أنه على الاتحاد الأوروبي إظهار قدرته على العمل استنادا لقيمه الخاصة والمبادئ الأخلاقية التي زخمت نشأته منذ البداية.. هل كان للمؤسسة الدينية في الولايات المتحدة الأميركية، بلد ومنشأ الأزمة المالية العالمية، ورمز الهيمنة الرأسمالية المتوحشة أن تغيب عن المتشهد؟ حكما، إن الحديث عن الكاثوليكية الأميركية تحديدا أمر بتطلب حديثا قائما بذاته، وسيكون موضع قراءة لاحقة بإذن الله، غير أنه حتى تكتمل الصورة في هذا المقال، نتوقف هناك مع مشهدين: المشهد الأول يتعلق بحالة الفقر، ويا للعجب، فقر في الولايات المتحدة، شاغلة الناس، ومالئة العصر، ومركز الإمبراطورية العالمية الحديثة، وفقراء يعيشون أزمة وفي حاجة إلى حملة للتضامن معهم.

مهما يكن من أمر فقد أطلق أساقفة الولايات المتحدة الأميركية الكاثوليك حملة في الإيبارشيات الكاثوليكية لتنمية حس التضامن مع الفقراء والمحتاجين، لا سيما بعد أن بلغ نحو 15 في المائة من سكان البلاد حالة الفقر وبينهم عدد كبير من الأطفال.

وقد شدد الأساقفة الأميركيون الكاثوليك على موقعهم الإلكتروني على أهمية تعزيز ثقافة الحياة والتضامن مع المعوزين، وأعلنوا نشر إحصاءات حول أوضاع الفقر في الولايات المتحدة، وحثوا الرعايا والعائلات على الانضمام لهذه المبادرة والمشاركة في مختلف النشاطات الرامية لتعزيز حس التضامن مع الفقراء على صعيد محلي بالتعاون مع المسؤولين عن الرعوية الاجتماعية. ومن المفيد هنا التذكير بأن أساقفة الولايات المتحدة الكاثوليك قد ذكروا غير مرة بأن الاقتصاد حين يعجز عن توفر فرص عمل كافية، فهناك واجب أخلاقي يحتم حماية حياة وكرامة العاطلين عن العمل وعائلاتهم.

المشهد الثاني يتعلق بالدفاع عن المهاجرين إلى الولايات المتحدة، والذين يلاقون شكلا من أشكال العنصرية، في حين أن غالبية الأميركيين من المهاجرين، على حد تصريح قال به رئيس مجلس الأساقفة الأميركيين في 2006، المطران ويليام سكايلستاد، واصفا هؤلاء المهاجرين بأنهم إخوة لنا في المسيح، يستحقون كل احترام ومساعدة ممكنة.

والحديث عن الهجرة لا يتوقف عند الولايات المتحدة فقط، بل ينسحب على كافة الدول الأوروبية، لا سيما في زمن الأزمنة المالية، مما يؤكد أن زمن الصمت تجاه ما يتعلق بكرامة الإنسان قد ولى الأدبار.

وقد بلغ الأمر مؤخرا أن أطلق أساقفة أميركا الكاثوليك نداء جديدا لئلا تؤثر الاقتطاعات في الميزانية الفيدرالية على حياة الأشد فقرا، ليجددوا هكذا دعوتهم إلى الحكومة لتسليط الضوء، وفي إطار الخيارات المتعلقة بالسياسة والاقتصاد، على عدم نسيان أهمية البرامج الدولية لمساعدة الإنسانية.. هل الأمر قاصر على الكنيسة الكاثوليكية وحسب؟

قطعا لا، ذلك أن ما جرى في لندن مؤخرا وعلى هامش المظاهرات التي حملت عنوان «احتلوا لندن»، أكدت أن المؤسسة الدينية الإنجليكانية بدورها، تعيش حالة من الحراك الإنساني واللاهوتي الرافض لتسليع البشر أو امتهان كرامتهم. ولعل الموقف الذي أخذته كاتدرائية «سان بول» في قلب لندن برفضها الانضمام إلى السلطات المحلية ضد المحتجين والمتظاهرين الشباب، أكدت التعاطف الكنسي، وإن بشكل غير مباشر، مع تلك المظاهرات المطالبة بالعدالة الاجتماعية وبالعيش الكريم، وبفرص العمل، والرعاية الصحية، والتعليم الراقي.

هذا التصرف من قبل القائمين على الكاتدرائية التاريخية من رجال دين لم يكن بعيدا ولا شك عن رؤى وطروحات كثيرة وتصريحات صادمة لرأس الكنيسة الإنجليكانية الأسقف روان ويليامز الذي أشار مؤخرا إلى أن «السبب الرئيسي فيما جرى ويجري من حركات احتجاجية، هو فقدان الشباب الأمل في تحسن الظروف الاقتصادية».

وحال وضع موقف رعاة «سان بول» وتصريحات روان ويليامز جنبا إلى جنب يخلص المرء إلى القول إن رجال الكنيسة الإنجليكانية هناك بات لهم وبدورهم ومثل كرادلة الفاتيكان صوت مرتفع تجاه القضايا الوطنية المؤثرة على حياة الإنسان واحتياجاته اليومية.

ومن الكاثوليكية والإنجليكانية إلى الأرثوذكسية الروسية فقبل بضع فترات أصدرت الكنيسة الروسية من منطلق اهتمامها بكل فئات المجتمع الروسي في حياته الجديدة بعد انتهاء الحكم الشيوعي، وثيقتين الأولى لرجال الأعمال الروس لكي ترسخ فيهم القيم الروحية وسط خضم اهتماماتهم وحياتهم اليومية، والثانية موجهة إلى الشعب الروسي بتحذيرهم من دفع الرشى.

والقراءة المعمقة للوثيقتين تقودنا إلى رؤية المؤسسة الدينية الروسية الأرثوذكسية التي تتمحور حول حق الغني والفقير في أن يعيشا معا، وأن رجال الأعمال مفروض عليهم أن يتبعوا هذه المبادئ الأخلاقية الأساسية في حياتهم اليومية وفي أنشطة أعمالهم وأن الهدف الرئيسي لهاتين الوثيقتين بحسب جريدة «البرافدا» الروسية هو تقديم قواعد الأخلاق لقطاع الأعمال على المستوى العام، بحيث لا يكون الذي يحكم رجال الأعمال هو قوانين الدولة، لكن رجال الأعمال يحكمون ضمائرهم، لذلك كان من بين الوصايا تحذير لرجال الأعمال من أن الثروة ليست هدفا في حد ذاتها، بل يجب أن تكون من أجل حياة كريمة لكل فرد ولكل الوطن.

أما بخصوص الضرائب فيوضح مؤلفو الوثيقتين أن التهرب الضريبي بمثابة «سلب لليتامى والمسنين المعوقين وكل باقي الفئات غير المستورة».

وتقول الوثيقة الأولى إن دفع الضرائب من أجل سد احتياجات المجتمع لا يجب فيما بعد أن يعتبر عبئا أو واجبا إلزاميا، بل إنه يعتبر عملا يتسم بالشرف وواجبا يستحق الشكر من المجتمع. وتوضح تعليمات الوثيقتين أيضا كيف أن الفقير يجب أن يعيش «الفقراء يجب أن يسلكوا بكرامة، طالبين العمل المتكافئ وأن يكونوا دائمي التحسين لمهاراتهم المهنية لمقاومة الفقر».

والشاهد أن الحراك الروسي الديني، كما الكاثوليكية والإنجليكانية، في حاجة إلى رؤية مطولة، وبخاصة مع الانتخابات الروسية الرئاسية المقبلة، والدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المؤسسة العريقة في غمار الحملات الانتخابية هناك، لا سيما إذا حل الربيع الروسي السياسي كما يتوقع كثير من الخبراء.

لم تعد قضية المؤسسات الدينية الغربية إذن طقوسية شعائرية بالأكثر في الأعوام الأخيرة، بل بات الإنسان هو القضية، والإنسان هو الحل، وهذا أمر يدعونا لإقامة المقاربات المعرفية والسيسيولوجية بين ما يجري هناك وبين عالمنا العربي والإسلامي.

هل نحن على عتبات لاهوت تحرير أوروبي مشابه لذاك الذي طفا على سطح أميركا اللاتينية في ثمانينات القرن الماضي؟

ربما يكون ذلك كذلك بالفعل.

* كاتب مصري