بشرى للأيتام

د. عائض القرني

TT

قبل ثلاثة أيام دعاني الشيخ خالد البراهيم لإلقاء محاضرة للأيتام بمخيم بالثمامة شمال الرياض، وكان الجو شديد البرودة والرياح هوجاء عاتية، وكنت في الطريق أحدث نفسي عن مسار الحديث مع الأيتام واختيار حديث المواساة وجبر القلوب والتفاؤل، ولكن لما وصلت استقبلني هؤلاء الشباب ضاحكين مستبشرين، الخيام مجهزة دافئة، الطعام متوفر، الرعاية الطبية والإشراف التربوي والثقافي مع ثلة من الأساتذة الأخيار، المكتبة وملعب الكرة والنادي الرياضي وكل ما يلزم للراحة، وبعدما صلينا المغرب معهم قام طالب من هؤلاء الأيتام فألقى كلمته ارتجالا بلا تلكؤ ولا تلعثم عن الطريق إلى الجنة، ثم بدأت أتحدث لهم فغيرت مسار الحديث الذي أعددته وبدأت أهنئهم وأغبطهم على سعادتهم وراحتهم، ثم وجهت لهم سؤالا يقول: من هو أعظم يتيم في التاريخ فقد أباه وأمه ومع ذلك ملأ العالم نورا وعلما وهداية؟ فردوا جميعا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد شعرت وأنا في المخيم أن كل أستاذ ومشرف صار أبا لهؤلاء الأيتام، وقبل ذلك رعاية الله، حتى قال الشعراوي: الطفل لا يخاف إذا كان له أب فكيف يخاف من له رب، وإذا كان اليتيم مع رعاية الله يخرج لنا مثل الإمام مالك والشافعي وأحمد وقد عاشوا أيتاما ثم صاروا أعلاما فمرحبا باليتم، ولقد كانت جمعية (إنسان) سباقة لهذا المشروع الرباني الإنساني العظيم، حتى إنها تتولى الأيتام غذاء وكساء وسكنا ودواء وتعليما وتربية وإعانة على الزواج، حتى قلت لهم ممازحا: من يداخلكم ويرى حياتكم الراقية يتمنى أنه يتيم، وأريد أن أقول هنا: أبشركم أن الدنيا بخير وأن في الناس رحماء كرماء وأن في القلوب برا وصلة ورقة، ألا فليهنأ الأيتام بتواصل أبناء الإسلام ورحمة عباد الله الكرام، ويا أيها اليتيم اعتبر كل رجل منا أبا لك وكل امرأة أما لك، وقريبا تعرض جمعية (إنسان) إن شاء الله لافتة «لا يتيم بعد اليوم»، ومن لم يحدّث نفسه من الأغنياء بكفالة الأيتام فإني أذكره بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه»، كان الأيتام الذين حاضرت فيهم قرابة تسعين يتيما، وكل واحد منهم قصة من الأمل والنجاح والتفاؤل، فسبحان من عنده العوض عن كل فاقد والخلف من كل ذاهب والعزاء عن كل راحل، واليتيم حقيقة هو من عنده أب مهمل فاشل جاهل فلا حصل على رعاية أب ولا على كفالة يتيم، فلو أن له أبا راشدا كفؤا لرعاه وكان في ذمة رجال، ولو كان يتيما لآواه أهل الفضل والإحسان، وأنا في الثمامة بالمخيم داخل الخيام الدافئة مع الأيتام تذكرت أبياتا رائعة استشهد بها أبو بكر الصديق يوم السقيفة يثني على الأنصار يقول: نحن وإياكم كما قال طفيل الغنوي:

هم خلطونا بالنفوس وألجؤوا إلى غرفات أدفأت وأظلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت أيها الإنسان تذكر أن عندك أبناء فإن أردت حفظ الله لهم فاحفظ الله في أيتام لا آباء لهم ولا أمهات، قبل سنة زرت ولاية كجيرات بالهند وهي ولاية غاندي فوجدت جمعيات تنصيرية تقوم على الأيتام الهنود طبعا لا يرجون ثوابا في الآخرة لكنه عندهم عمل إنساني نبيل، ثم إنهم يعالجون به أنفسهم هم من القلق والاضطراب كما قال عالم النفس وليم جيمس: إن الإحسان إلى الغير صيدلية متنقلة يعالج بها الإنسان نفسه، شكرا للمحسنين وبشرى للأيتام وما عند الله خير وأبقى.

أيها الإنسان يقول ربنا تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) بل اجبر قلبه وامسح رأسه وجفف دموعه وأدخل السرور على روحه وتذكر أن ابنك يتيم فقد أباه وأمه وهو يلتمس القلوب الحانية والنفوس الدافئة والرعاية والكفالة، إذن فأنت مسؤول عن الأيتام وانظر إلى ذكر الله نعمته على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ألم يجدك يتيما فآوى) فإيواء اليتيم من أجلّ القربات وأفضل الحسنات وأرفع الدرجات، وأقول للذين يكدسون المال ويعبدون الدرهم والدينار وينسون المنكسرة قلوبهم: غدا أيها الجفاة القساة تسحبون إلى القبور مجردين بلا أموال ولا دور ولا سيارات ولا حدائق ويحرق أموالكم غيركم من ذرية وأقارب وأصهار لم يتعبوا على جمعها ولم يسهروا على تكديسها فصار لهم المغنم وصار عليكم المغرم، تحاسبون أنتم عليها ويتنعمون هم بها، وغدا إن شاء الله تنتشر فروع جمعية (إنسان) الرائدة في كل مدينة ومحافظة وقرية في السعودية بل في العالم الإسلامي، وما ذلك على الله بعزيز.