الشريعة والشرعية في المجتمع والدولة

رضوان السيد

TT

أصر بعض النواب السلفيين في مجلس الشعب المصري الجديد أثناء أداء القسم على إضافة: وبما يوافق الشريعة أو لا يخالفها. وقد طلب إليهم رئيس السن أن يتوقفوا عن ذلك، لأنه مخالف للقسم المنصوص عليه، ولأن المادة الثانية في الدستور تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؛ فمن يقسم على الوفاء للدستور، فهو يقسم تبعا على الوفاء بالشريعة! والواقع أن مسألة التوافق مع الشريعة في الدستور والدولة لا تحدث للمرة الأولى، بل كانت مطروحة منذ مطالع القرن العشرين، ففي حين اختار الدستور العثماني عام 1876 ألا يذكر شيئا عن الشريعة، ما دام رئيس الدولة هو أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين؛ فإن الملالي الداعمين للدستور في إيران عام 1905 - 1906 اختاروا أن تكون هناك لجنة شرعية من كبار العلماء تُحال إليها القوانين التي يوافق عليها مجلس النواب للنظر في مدى موافقتها للشريعة قبل أن تذهب إلى الشاه لتوقيعها وإصدارها. وقد تسربت الفكرة منذ ذلك الحين إلى عدة بلدان عربية وإسلامية خلال القرن العشرين، لكنها كانت تغلف أحيانا بالنظر في دستورية هذا القانون أو ذاك، ويكون الدستور قد نص على الشريعة بوصفها مصدرا للتشريع، أو على الإسلام بوصفه دينا للدولة. ففي عهد بورقيبة وعند النقاش بشأن الزواج المدني، كان هناك من اشتكى إلى المجلس الدستوري أو المحكمة الدستورية مخاصما بعدم دستورية قانون الأحوال الشخصية الذي يبيح أمورا كثيرة تخالف ما قال به فقهاء المالكية، بل سائر الفقهاء، لكن المحكمة أجابت بأن الإسلام بنص الدستور هو دين الدولة بالفعل، إنما الاجتهادات الجزئية هذه مشروعة بمقتضى الاجتهاد وموافقة مصالح الدولة والمجتمع، وسمعة تونس في العالم. ومع أن الشريعة ما كان منصوصا عليها بوصفها مصدرا للتشريع في دستور مصر العام 1922 - 1923، لكن فقهاء مصر الدستوريين والقانونيين، عند وضع القانون المدني المصري، أفادوا إفادات كبيرة من الفقه الإسلامي، ونصوا على ذلك في المذكرات التفسيرية. وهذا كله يعني أمرين: أن مسألة الهوية والخصوصية كانت ملحوظة منذ البدء في تدوين النصوص التي تتعلق بأمرين: تحديد سلطات الحاكم ونوعية نظام الحكم، ووضع القوانين التي سُميت «مدنية» وجرى اقتباسها من قوانين أوروبية مشابهة، بيد أن هذا الأمر أو ذاك ما كانا يؤثران – سواء تحققت الجهة الرقابية الشرعية أو الدينية أم لا - على شرعية نظام الحكم، إذ كانت الفكرة السائدة أن المجلس المنتخَب من الشعب - كما في أوروبا - يملك صلاحية تبني القوانين أو اشتراعها، ولا يمكن لأناس مسلمين أن يتعمدوا إصدار قانون يخالف شرع الله أو حتى إجماع الفقهاء! بيد أن حقبة ما بين الحربين (1920 - 1945) شهدت تطورات سلبية لهذه الناحية، فقد ازداد العداء للتغريب مع استعمار كل ديار الإسلام تقريبا، وظهرت سلطات وطنية أو محلية مُخامرة للاستعمار، وانتشرت مدارس وبرامج على الشكل الحديث، بحيث ما عاد المتدينون يأمنون على تربية أولادهم وسط سيول وأمواج التبشير، كما ذكر مصطفى الخالدي وعمر فروخ في كتابهما: «التبشير والاستعمار»! وقتها قال حسن البنا، زعيم الإخوان المسلمين: الإسلام دين ودنيا، مصحف وسيف! وعمد مريده وزميله من مكتب إرشاد الإخوان، عبد القادر عودة، إلى تأليف كتابه عن الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الوضعي، وفيه يُثبت بالتفصيل أن الأول أفضل لأنه موحى، ولأنه يتضمن القدرة على إصلاح الأحوال، في حين لا يستطيع ذلك القانون الأوروبي! وهنا بدأ سؤال الشرعية يرتبط بالقانون وهل هو مدني (أي علماني) أو شرعي (أي إسلامي)، ففي أحسن الأحوال، تصبح شرعية النظام السياسي ناقصة إذا تبنى القوانين المدنية بدلا من القوانين التي يمكن استنباطها وصوغها في صورة قوانين على شاكلة ما فعله العثمانيون في «مجلة الأحكام العدلية» في ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادي! ومع الاصطدام بالضباط وأنظمتهم واشتراكيتهم في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، تبلورت أربعة أمور: أن الإسلام نظام كامل للحياة (دين ودنيا)، ولذلك فهو يتضمن كل ما هو ضروري للمجتمع والدولة في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية - وأن الإسلام كما يمتلك ثروة من التشريعات ينبغي الأخذ بها منفردة؛ فإنه يشترع نظاما سياسيا تحقق في التاريخ، ولا بد من العودة إلى تقاليد الإسلام التشريعية والسياسية - وأن المجتمعات الإسلامية توشك أن تفقد «الشرعية» التأسيسية لأنها غفلت عن تطبيق الإسلام في المجتمع، وتساهلت في خروج الإسلام من الدولة تماما - وأن المسلمين مكلفون من الله بإعادة الشريعة إلى المجتمع والدولة من خلال الاستيلاء على إدارة الشأن العام، ومكافحة التغريب والعلمنة والاشتراكية وحكم الطاغوت.. إلخ. وهكذا انسحب البساط من تحت الأنظمة السائدة بشأن شرعيتها وسواء أكان وجودها يستند إلى الغلبة العسكرية أو إلى صناديق الاقتراع. وهذا توجه أهل التيار الرئيسي في جماعات الإسلام الإحيائي، الذي سُمّي إسلاميا في السبعينات وما بعد. أما في أوساط المتطرفين؛ فإن الشرعية التأسيسية، أي الشرعية التي يهبها الإسلام نفسه (حيث يكون المسلم آمنا بالأمان الأول)؛ سُحبت من المجتمع نفسه، ولذلك استحل المتطرفون مجاهدة الحكام وإيقاع العنف بالمجتمعات أيضا من دون وازع! لقد اختار التيار الرئيسي في الحركات الإسلامية (مثل الجماعة الإسلامية بباكستان، والإخوان المسلمين بمصر)، على الرغم من عدم اطمئنانه إلى شرعية الأنظمة السائدة، أن يناضلها أو يناضل ضدها من تحت سقف الترتيبات السائدة ومن دون عنف. وفي الثمانينات والتسعينات ما تطور فقه الجماعة الإسلامية بباكستان بسبب موت أبي الأعلى المودودي عام 1979، إنما بقيت ضد العنف، ولذلك تجاوزها كل العنيفين. أما الإخوان المسلمون فإنهم دأبوا على مدى عشرين عاما (1985 - 2007) على إصدار بيانات متناقضة مرة تقول بالدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة، ومرة تقول بالشعب مصدر السلطات، ومرة تقول ما وافق العقل حقا وافق الشرع! لكنها في العمليات دخلت في الانتخابات من خلال التحالف مع أحزاب قائمة، وقالت بالتعددية الحزبية، ورفعت مع ذلك يافطات: الإسلام هو الحل! لقد فاز الإسلاميون بأكثرية الثلثين في البرلمان أو مجلس الشعب المصري، وأكثرهم من الإخوان المسلمين، لكن بينهم أيضا نسبة 25 في المائة من السلفيين، والسلفيون هم الذين يقودون الآن الحملة من أجل تطبيق الشريعة، لكن «الإخوان» في الأصل أصحاب المقولة، ولسنا ندري كيف سيتطور تفكيرهم، وهل سيقتصر على القول بالتوفيق بين الشريعة والقوانين الوضعية، أم أنهم سيدعمون مشاريع سبق الحديث عنها تحت عنوان: الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع، والشريعة الإسلامية واجبة التطبيق، وإن لم يذكروا شيئا عمن يجب أن يقوم بالواجب الشرعي هذا! وهكذا فهم من الناحية العملية البراغماتية شديدو الحرص على إظهار الاعتدال، وعلى إظهار التلاؤم. إنما هناك ظاهرة الازدواج في خطابهم بين الحديث مع الجمهور وإليه، وبين الحديث مع الجهات الليبرالية الداخلية، والجهات الخارجية الإقليمية والدولية.

والذي ينبغي المصير إليه أنه لا بد من نقاش مبدئي وأساسي يمضي فيما وراء البراغماتيات والمصالح الانتخابية والسياسية الآنية، وهو يتناول ثلاثة أمور: طبيعة النظام السياسي في الإسلام، والعلاقة بين الدين والدولة في المبدأ وفي التجربة التاريخية للأمة، وما معنى تطبيق الشريعة بعد هذا وذاك، ومَن هو المكلَّف بذلك؟ ففي ما يتعلق بالنظام السياسي أو طبيعته، هل هو نظام ديني، أي منصوص عليه في شريعتنا، وبالتالي فإن تطبيقه واجب؟ مفكرو «الإخوان» وغيرهم من الإسلاميين يقولون إن الإسلام لا يقول بالنظام الثيوقراطي، لكنهم يفسرون الثيوقراطية بأنها مثل البابوية التي كانت في القرون الوسطى الأوروبية، وهذا الأمر ليس شافيا وفيه تهرُّب، لأن الشريعة معصومة وإذا قام عليها النظام السياسي يكون معصوما أيضا، ولو كان الذي يتولَّى تطبيقه غير معصوم. ومن ناحية ثانية فإن مذهب أهل السنة والجماعة ينص على أن الشأن السياسي (الإمامة) ليس شأنا دينيا أو تعبديا بل هو شأن مصلحي واجتهادي، ولذلك فليس هناك واجب ديني لإقامة دولة باسم الدين مثل أداء الصلاة أو الزكاة.. إلخ. وهذا يترتب عليه السؤال الثاني بشأن العلاقة بين الدين والدولة. فلا شك أن هناك تداخلا في عدة أمور في التجربة التاريخية الإسلامية، والماوردي على سبيل المثال (وتبعه الجميع) أعطى الإمامة أو النظام السياسي وظيفتين: حراسة الدين وسياسة الدنيا. وهذا التداخل يحتاج إلى حل إذا كانت المهام السياسية مهام مصلحية وغير دينية. فإدخال الدين أو الحديث باسمه في الشأن العام، يدخل الدين في بطن الدولة فتطحنه، مثل الجاري اليوم بين «الإخوان» والسلفيين من التنافس والمزايدة باسم الإسلام، مما يبعث على الانقسام، ويجعل الدين عرضة للخيبة والفشل إذا ظل شعار: الإسلام هو الحل، مطروحا. فإذا وصلنا إلى السؤال الثالث: الشريعة والقوانين؛ فإن الأمور تصبح أقل وضوحا وأكثر إشكالا، لأن الشريعة غير الفقه، والفقه هو المعروض للتطبيق وليس الشريعة. إنما من ناحية ثانية هناك ثوابت ومحرمات في الشريعة بنص القرآن، فكيف نتصرف إزاءها؟ هل نعود للطبائع المختلفة للشريعة والقانون؟ أم نكتفي بما اكتفى به الدستوريون الأوائل من تعيين لجنة أو مجلس للنظر في شرعية القوانين أو تلاؤمها مع الشريعة؟

إن الشرعية في الإسلام كامنة وباقية في المجتمع، ولا يملك النظام السياسي أن يثبتها أو ينزعها لأنها تأسيسية، ولذا فكل النقاشات ينبغي أن تجري في ظل هذه الشرعية، ولا يجوز التلاعب بها إحلالا أو تحريما أو إثباتا أو نزعا. أما النظام السياسي فينشئه الناس بأصواتهم واختيارهم، لأن الشعب مصدر السلطات، وهو إنما يختار النواب والحكام ليس لإدارة الشأن الديني، بل الشأن السياسي والعام.