قطة فوق الشجرة!

موئل يوسف عز الدين*

TT

كنت قد انتهيت من محاضرة الصباح حين رأيت الطلبة والطالبات ملتفين حول شجرة الصنوبر العالية في وسط الجامعة ومعهم أستاذ إنجليزي صديق لي وهم في هرج ومرج.. وعندما سألت عن الأمر قيل لي: قطة علقت فوق الشجرة ونريد إنقاذها، فابتسمت وقلت بطريقة مسرحية: يا للهول!.. ولزمت الصمت.. وفوجئت وأنا أرى سيارة المطافي تأتي لتنقذ حضرة القطة ثم تحتضنها شرطية المطافي بكل عناية وعطف لتنزلها من الشجرة إلى الأرض وسط تصفيق وهتاف الطلبة. فقلت لزميلي: إنهم يضيعون أموال دافعي الضريبة التي تصرف على سيارة الحريق من أجل إنقاذ قطة كانت ستجد طريقها إلى الأرض بنفسها! فقال لي: أخطأت هذه المرة. فقلت كيف؟ قال: إن المجتمعات تبقى قوية ما دام ضعيفهم يشعر بالأمان. فضحكت وقلت له: أمان القطة لا يعني أمان المجتمع. فردني قائلا: أمان الضعيف هو الحد الأدنى لأمان المجتمع. وقفز هذا الحوار إلى ذهني وأنا أفكر بعتب بعض المسلمين على إكثاري من الحديث في موضوع البيئة ومشاكلها.. لأني أكتب عن موضوع تحسيني كما يقول علماء الأصول في حين أن عالمنا الإسلامي تملأه الجروح وهموم الجوع والفقر والمرض، وهذه أمور حاجية يأتي الحديث عنها قبل كل أمر تحسيني مترف كموضوع البيئة. تذكرت هذه الحادثة لأن الحديث عن البيئة لا ينفصل أبدا عن هموم أمتنا هذه، بل هو محور أساسي لها ولو أدركنا أهميته لانحلت الكثير من العقد التي تحيط بنا. فالبيئة هي محضن الإنسان ودمارها يؤدي إلى دمار المجتمع وسريان المرض يؤدي إلى الفقر والفقر يؤدي إلى دمار آخر، وهكذا تكون دورة الضياع في عالمنا الإسلامي المحزن. إنه عالم تعاني فيه بيئته فيشقى بها كل شيء.. عالم يبكي فيه دجلة والفرات من جفاف مياههما وسوء توزيعها وهوانها على صناع القرار حين يعقدون - أو لا يعقدون - لها معاهدات تحميها من أيدي العابثين.. وحين تجف مياه الأنهار بفعل الإنسان تطفح مجاري المدن فتنشر الأمراض بين الصغار الرضع والبهائم الرتع والشيوخ الركع الذين لولاهم لصب العذاب على الناس صبا.

والحديث عن قطة الشجرة يذكرني بأحاديث نبوية شريفة كثيرة تعكس اهتمام رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - بكل ما قد خلق الله من مخلوقات.. منها الحديث الذي ورد في الصحيحين عن أبي هريرة «دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض». ورغم أن أم المؤمنين عائشة ردت أبا هريرة ومعنى الحديث لأن المرأة كانت كافرة، فإن المعنى العام يتقوى بنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي منع تصبير البهائم واتخاذ الطيور أهدافا واتخاذ الدواب كراسيا. وحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - عن أبيه هو من أكثر الأحاديث وقعا على النفس لأن الرسول فيه يبين أن مخلوقات كالطيور تفجع بصغارها كما تفجع الأم بفقد فلذة كبدها.. قال: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، قال: فجاءت الحمرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تعرض، فقال: من فجع هذه بفرخيها؟ قال: فقلنا: نحن، قال: ردوهما، قال: فرددناهما إلى مواضعهما»، رواه البيهقي مرفوعا.

والعناية بالبيئة في الإسلام تنطلق من مفهوم رائع ركز عليه القرآن الكريم وأمر به في آية كلنا يحفظها: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون» (النحل: 90).

إن هذه الآية تمثل مرتكزا رئيسيا لفهم نهج الإسلام في الحياة. وقد وصفها عبد الله بن مسعود بأنها «أجمع آية في القرآن»، وأحسب أنه قال ذلك لأنها جدلت أطراف الحياة مع ستة من خيوط الشريعة الأساسية التي تسير عليها أمور الدنيا.. فأمرت بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهت عن الفحشاء، والمنكر، والبغي. وكانت النتيجة حبلا متين الفتل يعتصم به من أراد بناء مجتمع حضاري سليم راشد، ومجتمعنا البيئي المعاصر بحاجة إلى مثل هذه المعاني لتشد أزره وتذهب ضعفه.

والإحسان هو مفهوم محوري في الاقتصاد الإسلامي البيئي يمكن أن يستنتج من حديث رواه شداد بن أوس، عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنه قال «إن الله قد كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته».. هذا الحديث يعلمنا أن الإحسان لا يكون فقط وقت الحياة ومنحها بل هو إحسان في كل شيء.. حتى عندما تؤخذ الحياة من مخلوق آخر أودعه الله بين يدي الإنسان.

والكوارث البيئية هي من أكثر المخاطر التي يواجهها إنسان اليوم، وهي تنشأ غالبا عن كوارث اقتصادية عندما يقوم الإنسان بسد حاجاته الاقتصادية عن طريق إرهاق عناصر البيئة وتدميرها كما يحصل مع الغابات الاستوائية التي يعتبرها العلماء بمثابة الجهاز التنفسي لحياة هذه الأرض، لأنها تحافظ على التوازن بين الأكسجين وثاني أكسيد الكربون وتمنع تربة الأرض من التدهور، بالإضافة إلى كونها محضنا للآلاف مما خلق الله من المخلوقات التي نعرفها وبعضها لا نعرفه.

ويعزو علماء البيئة هذا النوع من الكوارث إلى انعدام مفهوم «الإحسان التجاري» عند الجهات التي تقوم بتدمير بيئتها - كغابات الأمطار الاستوائية - بحثا عن الربح الوفير، وغالبا ما تكون هذه الجهات هي حكومات المنطقة التي تنتشر فيها هذه الغابات التي يقع ثلثاها في بلاد المسلمين، وهم حين يقطعون أشجارهم من أجل خشبها فإن حالهم كحال من يذبح دجاجة تبيض ذهبا من أجل لحمها. ومفهوم الإحسان إذا قرن بالعدل يمكن أن يمثل منطلقا أخلاقيا تقوم عليه فلسفة الاقتصاد البيئي الإسلامي فتحل الكثير من المشاكل البيئية في العالم الإسلامي.

وكثيرا ما ينتقد علماء البيئة السياسات التجارية اللاأخلاقية التي انتشرت في الربع الأخير من هذا القرن فخربت البيئة ودمرتها تدميرا. ومن أمثلة ذلك ما حل بمراعي المناطق الوسطى من الولايات المتحدة التي كانت مشاعا للناس فأساءوا استغلالها كما تفعل الدابة إذا انحلت وانفردت بمعلفها فأخذت تنثره ذات اليمين وذات الشمال. وأدى سوء استغلال المراعي إلى تدميرها عن طريق المبالغة بالرعي فيها، فهلك الزرع وجفت الأرض. وحصل أمر مثله في روسيا حين أدى انخفاض أسعار مياه الري إلى إساءة استعمال الناس لها فأغرقوا بها الأراضي، مما أدى إلى إحداث تغيرات مناخية خطيرة بالإضافة إلى فقدان الناس لعملهم بسبب سياسة إغراق الأراضي. يقول جيليس: إن مثل هذه الكوارث لا يمكن إغفالها ولا بد من مساءلة السياسيين والإداريين عن إهمالهم لقيمة المصادر البيئية وتركيزهم على القيمة الاقتصادية فحسب. وقد قدم جيليس حلا لهذه المشكلة عن طريق تدخل السلطات لفرض ما يسمى بضريبة المصادر البيئية لتمنع إساءة التجار من استغلال الأرض أو استخدامها بالكلية، وهي سياسة تأخذ بها الكثير من الدول المتقدمة اليوم. والإسلام قد سبق غيره في سن السياسات البيئية وإيجاد أنظمة الحماية لعناصر الحياة متمثلة في ما يسمى بأنظمة حمى الأرض وحريم النهر وإحياء الموات. وهي أنظمة تعكس الوجه الإسلامي المشرق نحو البيئة، لأنها تحميها وترعاها في وقت واحد. ولعل لي عودة حول هذه الأنظمة المهمة التي ما زالت جامعات الغرب عاكفة على دراستها.

* أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ويلز البريطانية