هل تضيق سوريا عن المستعرب باولو دالوليو؟

إميل أمين

TT

هل مقولة الضيق في الصدور وليس في الأمكنة صحيحة؟

يبدو أن ما جرى في سوريا أوائل شهر ديسمبر (كانون الأول) المنصرم يؤكد ذلك، إذ لم تعد بلاد الشام المضيافة تتسع لأهلها، فكيف لها أن تتسع لراهب صوفي عاشق لها وللعالم العربي، ومستعرب يمثل علامة مثيرة جدا في تاريخ المنطقة العربية المعاصرة، أعاد للأذهان ذكريات المستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينيون في بدايات القرن العشرين؟

من هو باولو دالوليو، ذاك الذي وصفه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ريجيس دوبريه بأنه مسيحي استثنائي، وذلك في المقدمة التي كتبها لكتاب الأب باولو أو الراهب بولس باللغة العربية، كما يحب أن ينادى، وعنوان الكتاب «عاشق للإسلام... مؤمن بعيسى»، وما قصته في سوريا مع دير مار موسى الحبشي، ولماذا طلبت إليه الحكومة السورية مغادرة أراضيها الأيام الماضية.. هل لأنه صوت صارخ في البرية السورية؟

ولد باولو دالوليو في العاصمة الإيطالية روما لأسرة كاثوليكية متدينة رغم أن والده شغل مناصب سياسية متقدمة في الحزب المسيحي الديمقراطي، لكن الابن انخرط في بدايات حياته داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي، ومنه إلى الاتجاه الاشتراكي المسيحي.

بدأ باولو سلك حياته الرهبانية ضمن الرهبنة اليسوعية، حيث درس الفلسفة في جامعة نابولي. وفي أوائل الثمانينات زار منطقة الشرق الأوسط لدراسة اللغة العربية، وتسجل في جامعة دمشق كلية الشريعة كمستمع، وفي صيف عام 1982 ذهب إلى دير مار موسى الحبشي الذي كان مهجورا وقتها، والواقع على بعد ثمانين كيلومترا عن دمشق باتجاه الشمال، ويبعد عن مدينة النبك نحو 5 كيلومترات باتجاه الشرق عن طريق العرقوب، وهو دير سرياني قديم يعود تاريخه إلى منتصف القرن الحادي عشر.

كان مقصد باولو الدخول في خلوة روحية لمدة عشرة أيام، غير أنه هناك اكتشف ثلاث أولويات وأفقا لحياته، وشعر بارتباط وجداني بهذا المكان، فبدأ على هذا الأساس بتنظيم عملية ترميم الدير في صيف عام 1984، ولم تشغله إعادة البناء والترميم عن متابعة دراسته، ليحصل من كلية «البروباغندا فيدا» في روما سنة 1989 على درجة الدكتوراه عن رسالة بعنوان «مفهوم الرجاء في الإسلام»، تلك المفاهيم التي ستقوده لاحقا إلى محكمة عقائدية في حاضرة الفاتيكان.

نجح الأب باولو في ترميم الدير وأعاد إليه نسق الحياة الرهبانية المسيحية الأولى، وجعل منه واحدا من أهم مراكز حوار الأديان في المنطقة وموضع جذب سياحي ديني منقطع النظير.

ماذا عن الأولويات التي اكتشفها الأب باولو في دير مار موسى؟ أولى الأولويات الثلاث في هذا التأسيس المتجدد هي استعادة اختبار المعنى المطلق للحياة الروحية في حياة الصلاة بتمام المجانية، حيث شكل هذا الدير السرياني القديم شهادة فعالة لقيمة الحياة الروحية في ماضي هذه المنطقة، كما أن حالة الخراب التي وصل إليها الدير قد تشير إلى خطر فقدان هذه القيمة.

ومن الجدير بالذكر أن الحياة الرهبانية النسكية كانت تشكل دائما عنصرا جوهريا من عناصر تكوين الشخصية الروحية المسيحية في الشرق، كذلك شكلت الحياة الرهبانية النسكية المسيحية قيمة هامة في العالم الإسلامي ثقافيا ورمزيا وصوفيا.

أما الأولوية الثانية فهي الحاجة إلى خلق نوع من حياة رهبانية تعبر عن البساطة الإنجيلية التي يتجسد فيها التناغم مع البيئة الطبيعية من جهة، والمسؤولية تجاهها وتجاه المجتمع المحيط بها من جهة أخرى، مما يدعو إلى إعادة اكتشاف قيمة العمل اليدوي مع قيمة الجسد والأشياء في سبيل إظهار جمالية ملؤها الإنصاف والمجانية.

وأما الأولوية الثالثة فهي الضيافة، فقد كان لممارسة الضيافة معنى مقدس لدى الرهبان القدماء، بناء على قيمة اعتبرت ربانية في هذه المنطقة عبر العصور، فالدير مكان لقاء لتعميق تقدير خصوصيات العمومية الثقافية لا لنسيانها، وعلى هذا فالأمر إلا يتم في جو من تكريس الانغلاقيات المذهبية، بل يساهم في التحرر من مجتمع التقسيمات في سبيل بناء تدريجي لحضارة الشركة والتضامن.

هذه الأولويات جسدها الأب باولو عبر العقود الثلاثة المنصرمة تجسيدا حيا بأفعال ومؤتمرات وندوات ولقاءات وضيافة، كلها أضافت إلى سوريا بعدا حضاريا وإنسانيا عربيا وعالميا، لا سيما وأنها جرت في ظل أفق مهم للغاية هو أفق العلاقة الإسلامية المسيحية، الذي اعتبره الأب باولو ورهبان الدير جزءا لا يتجزأ من دعوتهم.

هذا الأفق جعل اللغة العربية الفصحى لغة القرآن هي لغة الجماعة الرهبانية هناك في حياتها الاجتماعية والتعبدية، رغم وجود رهبان من جنسيات غربية متعددة، وقد أدى هذا الخيار إلى إنشاء مكتبة متخصصة لخدمة الباحثين والمدرسين في ميدان الحوار بمساعدة عدد من الأصدقاء، ولا تقتصر مواضيع الكتب المقتناة على المجالات التقليدية في العلوم الدينية المسيحية أو الإسلامية، بل تشمل العلوم الإنسانية أيضا، أي «العلوم الجسر»، وذلك في سبيل المزيد من الاستيعاب للظاهرة الدينية كعلم الإنسان «إنثروبولوجيا» مثلا، والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع... إلخ.

كما أولى الأب باولو وجماعته اهتماما خاصا لدراسة فكر الباحث الكبير في العلوم الإسلامية والتصوف لويس ماسينيون، الذي يعد منبع إلهام لجماعة الدير، بسبب التزامه الفكري وأسلوب حياته كتلميذ للسيد المسيح.

في مقدمة دوبريه لكتاب الأب باولو يقول: «لو أن شخصا غيره تصدى للدفاع عن هذه الأطروحة بهذا العنوان (مسيحي يحب الإسلام) لوجد نفسه في موقف المتحدي المستفز للهامش والاستثنائي أو موقف السذاجة التي تثير الشفقة».

وقد يعن لنا أن نتساءل مع دوبريه، ما الذي مثله للإسلام الأب باولو الذي حصل على سيامته الكهنوتية بحسب الطقس السرياني لا اللاتيني؟

عنده أن الأمر ليس دراسة جامعية، وليس افتنانا عاطفيا، إنه علاقة انثقاف حي مع هذا الدين، بكل ما يكتنفه من حركية وصعوبات، منطلقا من رفضه للمواقف المسبقة والجاهزة التي تحشر الإسلام في خيار من اثنين حديين، إما النموذج الأندلسي القديم في صورته المثالية، أو الصورة الأفغانية السوداء والمقاتلة والإرهابية.

والشاهد أن الحديث عن الأب باولو وفكره في حاجة إلى كتاب مفصل لراهب مسيحي عمل على تحويل محبته للإسلام والمسلمين عبر واقع حي في عيون الغربيين إلى أفعال حية، تكسر حدة الخوف من الإسلام وظاهرة الإسلاموفوبيا (Islamophobie) إلى اتجاه معكوس لتحبيب وتقريب الإسلام من الغربيين عبر الـ«Islamophilie» ودفعهم لوضع التصورات الصحيحة في نصابها القانوني، بحسب الفيلسوف الفرنسي الثائر.

على أن ما جرى ويجري في سوريا من بحور وأنهار ودماء زكية كان لا بد أن يستصرخ الأب باولو كصوت صارخ في البرية السورية، ولهذا أعلن مع جماعة ديره وعدد من الأصدقاء والزوار عن أسبوع للجهاد الروحي من أجل المصالحة بين أبناء سوريا الأم في أواخر شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، وفي الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الفائت أُصدر بيان صحافي في هذا الشأن.

لم يكن الجهاد الذي دعا إليه الأب باولو سوى صوم وصلاة وقراءة في الإنجيل المقدس، وتلاوة القرآن الكريم، والتأمل في نصوص مختارة عن السعي اللاعنفي لأجل الإصلاح، عبر الغفران والحوار الأخوي المصغي وتقبل الاختلاف غير المشروط.

يؤكد نص البيان على أن «الخوف دخل قلب البيت الواحد، والدير الواحد، لكن أسبوع الجهاد الروحي أثبت إمكانية النجاح والتواصل، عندما نتنازل عن احتكار الرأي والوطنية».

ولعل الجريمة التي لم يغتفرها النظام السوري للأب باولو هي تأكيده وجماعته الرهبانية على «العطش إلى الحقيقة والرغبة في التخلص من الأكاذيب، ورفضهم لمنطق الحرب الأهلية الطائفية والنزاع المسلح على أشكاله».

والشاهد أن ما أفقد القائمين على الأمر في سوريا توازنهم إزاء راهب مجرد من ممتلكات الدنيا ومباهج الحياة كشفه لحقيقة مؤكدة، «لا حوار ولا إصلاح دون توفير صادق لحرية الرأي والتعبير، في تعددية تخدم الموضوعية، وتضامن معنوي من العائلة العالمية، دون مثالية تكاد تتجاهل خطر التآمرات، وأن لا إصلاح دون احترام سلامة المواطنين سواسية، وذلك بمساعدة هيئات مشرفة مدنية ومستقلة».

على أن قضية الأب باولو ازدادت سخونة في الأول من الشهر الماضي عندما أشار في تصريحات إعلامية إلى ضرورة حماية المدنيين، واستخدام مصطلح «مناطق آمنة»، لا سيما المستشفيات والحرم الجامعي، وفي نظره لا بد من المحافظة على إنسانية كل مواطن وكرامة الميدان الأكاديمي بإبعاد التصادم العنيف عن قدس أقداس الإنسانية.

هذا الحديث اعتبرته القيادة السورية دعوة للتدخل الخارجي ضد سوريا، مع أن الراهب المستعرب يؤكد في بيان لاحق له بتاريخ الثالث من ديسمبر تحت عنوان «التباسات وتوضيحات» أن الأمر لا يحتاج إلى تدخل خارجي، ولا يتطلب حماية من الجو، ولا إنشاء مناطق عازلة، بل يكفي أن تطلب سوريا حضور منظمات إنسانية سلمية لا عنفية، تأتي لتساهم مع هذا الشعب الكريم عبر حماية المواطنين على كل انتماءاتهم في بناء المجتمع التعددي الديمقراطي الناضج، الذي تشتاق إليه حسب ما يرى في حركة الجماهير الساحقة.

كان ما تقدم ومعه عدة مقابلات صحافية أجنبية أساء البعض ترجمتها، وحور البعض الآخر مضامينها لدغدغة مشاعر القراء الغربيين، لا سيما الفرنسيين منهم، كافية لأن تتخذ وزارة الخارجية السورية قرارا بطرد الأب باولو خارج سوريا، بوصفه متعاطفا مع الثوار، ولم يخلُ الأمر من تضامن بعض مسيحيي سوريا الذين يرون أن خلاصهم مع نظام الأسد وضياعهم في غيابه، وهي قضية جدلية قائمة بذاتها. ومن أسف استخدم هؤلاء روايات تعود بنا إلى «الشماعة التقليدية»، العلاقة مع إسرائيل واختراق الصراع العربي الإسرائيلي السوري منه تحديدا، في حين أن القضية عن بكرة أبيها سورية داخلية.

غير أن الإيجابي في المشهد هو ذلك التضامن الشعبي السوري مع الراهب اليسوعي، فقد أصدر ناشطون سوريون بيانا أعربوا فيه عن قناعاتهم بأن الأب باولو اتخذ موقفا أساسه ضرورة معالجة الأزمة بالاستناد إلى فكرة الديمقراطية التوافقية، التي يمكن العمل بها عبر مرحلة انتقالية على أساس الحوار البناء من أجل النجاة من منطق سفك الدماء، وبناء نظام ديمقراطي، وشددوا على ضرورة عدم إبعاد الأب باولو عن سوريا، بل وطالبوا بتكريمه «إلى أقصى حدود التكريم»، مؤكدين أنه «يستحق لقب المواطن السوري عن جدارة».

يكتب مراسل «نيويورك تايمز» معلقا بالقول: «اتخاذ قرار طرد الأب باولو يرسل رسالة واضحة إلى الجميع بأن دعم النظام للمسيحيين ليس غير مشروط، وهؤلاء الذين يجرؤون على معارضه الأسد أو الذين يدعون إلى حوار لتغيير الدولة، سيتم اعتبارهم من المعارضة، وهذا سيضع المسيحيين الحاليين في مأزق. إن سعيهم للتغيير يعني تعرضهم للخطر، والتزام الصمت إزاء الظلم الحاصل يعني اختصار المسيحية إلى ديانة، ويلغي اعتبارهم مؤمنين يسعون لتحقيق رسالة الإنجيل في العدل والمحبة والسلام». إكراما لسوريا ومسلمي الشرق الذين أحبهم اختار الأب باولو الصمت قائلا: «أرحب بتهدئة الأجواء والانسحاب من الخوض بالتحليل السياسي، لأن لي واجبا غاليا وجوهريا في هذا الوطن، هو واجب ديني وروحي، لذلك أفضل الصمت الملتزم داخل البلد على الكلام غير المسؤول في المنفى».

هل ستنجح سوريا في اجتياز محنة طرد الأب باولو، أم ستزيد خطاياها المميتة في حق شعب قبل حق المستعرب الأجنبي؟

* كاتب مصري