إسلاميات عصر النهضة العربية في السياق الجديد

رضوان السيد

TT

أعلنت مكتبة الإسكندرية في معرض الكتاب بالقاهرة عن صدور اثنين وعشرين كتابا من سلسلة التراث النهضوي الإسلامي. والمعني بذلك المؤلفات ذات الطابع «النهضوي» التي صدرت منذ كتاب رفاعة رافع الطهطاوي: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» (1834). والواقع أن هذا المفرد أو الوصف: نهضوي، يظل غامضا، وبخاصة أن المشرفين على السلسلة أزالوا حدوده عندما أدخلوا فيه مؤلفات تحمل إشكاليات مختلفة بل جديدة، وبعد منتصف القرن العشرين. ولأن «النهضة» ترجمة لمصطلح enlightenment فيحسن أن نعرض للمصطلح في بيئاته الأصلية معنى ودلالات وآثارا، فقد شاع هذا المفرد في القرن الثامن عشر بين الشعراء والأدباء والمفكرين بأوروبا، وبخاصة ألمانيا وفرنسا، مما دفع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1804) – وإجابة على سؤال، إلى كتابة رسالة فيه. وبمقتضى تحديد كانط الذي تابعه عليه كثيرون وأضافوا إليه دون أن ينقضوه؛ فإن التنوير أو النهوض يعني اعتبار العقل مرجعية نهائية للإنسان، وتأسيس حقوقه وحرياته وإرادته على الطبيعة الإنسانية التي ولد مزودا بها. ويذهب كانط إلى أن الإنسانية كانت تستطيع الوصول إلى هذه المقولة وهذا الوعي، لولا الجبن والكسل. والجبن ناجم عن الخوف من تحدي المرجعيات الأخرى، والكسل ناجم عن الميل للراحة، بالبقاء تحت سن الرشد، والعهد للآخرين (الكتاب أو العادات) بتحمل عبء اتخاذ القرار عنك في حياتك وبعد مماتك! وهكذا ومن دون المضي في سرد تفاصيل رسالة كانط؛ فإن الرجل كان يعتبر «السلطات» الجاثمة على الأخلاد والأجساد حائلا دون استعمال الإنسان لعقله، والحرية هي أول دوافع أو نتاجات ذلك العقل. والواضح أن كانط اعتبر الدين إحدى تلك المرجعيات التي يعني النهوض الخروج منها أو عليها. وقد فهم الطهطاوي الذي قضى بباريس خمس سنوات (1826 - 1831) شيئا من ذلك عندما ترجم ونشر ملخصا لإعلانات الثورة الفرنسية، كما نشر تلخيصا لدستور عام 1830 هناك. بيد أن الذي لفت انتباه الذين سموا بالإصلاحيين فيما بعد، كان مسألة الحرية السياسية والمرتبطة بالدستور الذي يقيد سلطات الحاكم أو ينظمها. ولذا ما بدا بالنسبة للطهطاوي والإصلاحيين الأوائل (حتى جمال الدين الأفغاني) أن هناك حاجة لما عرف في أوروبا بالإصلاح الديني. فالإسلام لا يعاني من المشكلات التي عانت منها الكاثوليكية لجهتين: لجهة أن المؤسسة الدينية البابوية هي سلطة مقدسة معصومة تختص بإدارة الخلاص، وبالتالي لا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بها، وهذا أمر لا يعرفه الإسلام - ولجهة أن البابا يريد أن يكون خليفة المسيح وإمبراطورا في الوقت نفسه، وهذا أمر ما عرفه الإسلام في تجربته التاريخية الوسيطة أيضا. لقد اقتصر الأمر في البداية إذن على الإفادة من التجربة الأوروبية في التجديد السياسي والاجتماعي. وقد أدخل الطهطاوي على المشهد فكرة المنافع العمومية، بينما أدخل خير الدين التونسي في مقدمته على كتابه: «أقوم المسالك» فكرة المؤسسات التي تتولى الدولة الجديدة بواسطتها ومن خلالها إدارة الشأن العام والنهوض بالمجتمع. إنما مع خير الدين التونسي بالذات بدأ الحديث عن الحاجة للدين في النهوضين الاجتماعي والسياسي. فقد وجد التونسي أنه لا بد من الاستعانة بجوانب من الفكر الفقهي الإسلامي في دعم فكرتي المنافع العمومية (المصالح العامة)، والمؤسسات الجديدة الضرورية لإدارة الشأن العام. ونحن نعرف الآن أنه استعان بالفقيه محمد بيرم الخامس (صاحب رسالة في السياسة الشرعية) لإدخال دليل المصالح والمقاصد تسويغا لاستحداث مؤسسات جديدة (مثل الجيش الوطني، والتعليم العام، وتعليم المرأة، والقوانين التنظيمية) تحقق ما اعتبره الشرع وعرفه الفقهاء المالكية والحنابلة في المصالح الضرورية للإنسان: الدين والنفس والعقل والنسل والملك. وصدر كتاب خير الدين عام 1867. وعندما نفي محمد عبده من مصر على أثر الاحتلال البريطاني عام 1882 بدأ رحلته في المنفى بالذهاب إلى تونس، حيث وجد إلى جانب كتاب التونسي أن كتاب الشاطبي: الموافقات الذي ينظر للمقاصد الشرعية الضرورية هو قيد الطبع بمطبعة الدولة التونسية التي صدر فيها عام 1884. والمهم هنا أن فكرة الإصلاح والنهوض واشتراع الجديد استنادا إلى الدين، تطورت لدى محمد عبده باتجاه آخر ما لبث أن ساد لأكثر من ستين عاما. فقد اعتبر عبده وزملاؤه وتلامذته أن المسلمين يعانون - مقارنة بأوروبا - من تخلف وانحطاط سببهما انتشار الظلم والاستبداد، إنما سببهما أيضا انتشار الكثير من العادات والأعراف السيئة باسم الدين. ولذا لكي ينهض المسلمون من وهدة التخلف يكون من الضروري العودة إلى قيم الإسلام الأصيلة التي تتلاقى وقيم المدنية الحديثة. وهكذا فقد هاجم الإصلاحيون الطرقية الصوفية، ودعوا لفتح باب الاجتهاد، واستعادوا مجريات الحكم الرشيد، ودعوة الإسلام للعلم والتعليم وحرية المرأة، ونبذ التقليد والأعراف التواكلية. وتطرق الحديث لديهم إلى قضية الأسباب أو السنن بحسب القرآن، والتي لا بد من اتباعها لبلوغ التقدم، وأن السلوك بخلافها هو الذي قضى على الأمم العابرة. وقد سيطرت هذه الفكرة على دروس محمد عبده في تفسير القرآن، كما ظهرت أفكار مشابهة لديه في رسائله في إصلاح التعليم والقضاء والفتوى والأوقاف والأزهر. وقد وصلت هذه المساعي سريعا إلى تحد بارز في الجدال الذي دار بين محمد عبده وفرح أنطون في مطلع القرن العشرين بشأن علاقة الدين بالدولة. ففي تعليق فرح أنطون على كتاب إرنست رينان عن ابن رشد والرشدية اللاتينية، رأى ضرورة فصل الدين عن الدولة من أجل نهوض الدولة والمجتمع، ومن أجل تحقيق التقدم. وفي رد محمد عبده عليه رأى أن تلك مشكلة خاصة بالمسيحية وبأوروبا، والتي كان الفصل علاجا لها، ولا علاقة للإسلام والتجربة الإسلامية بها. وباختصار واستخلاص؛ فإن المراد في الفكر الإصلاحي النهضوي كان - إذا صح التعبير - أسلحة الحداثة أو الاستدلال على ضرورة التقدم بالطريقة الأوروبية بأدلة من تجربة الإسلام التاريخية ونصوصه ونصوص وآراء الفقهاء. وقد عنى ذلك فتح باب الاجتهاد، وتفسير القرآن بمناهج جديدة، ومحاولة المطابقة بين التجربة الأوروبية الحديثة في النهوض، والتجربة الإسلامية القديمة، مع إبراز الفروق التي تتركز في: أن النهوض عندنا قام على أساس الإسلام، ولا خصومة بين الدين والعلم والدين والدولة، وأن الانتشار الإسلامي في العالم انتشار حضاري ومنفتح ولا علاقة له بالسيف، بينما جاء الانتشار الأوروبي استعماريا مستخدما الدين ومستخدما القوة المسلحة.

ولهذه الناحية؛ فإن «التراث النهضوي» الذي نشرت مكتبة الإسكندرية بعضا منه - وهي ماضية في نشر ذخائر أخرى - واضح لجهة إرادة النهوض والتقدم، وبالتقابس بين الإسلام والحضارة الأوروبية وفي التجديد السياسي، والإصلاح الديني؛ ومن ذلك - كما سبق القول - كتب خير الدين التونسي، والطهطاوي، ومحمد عبده، والكواكبي، وعبد العزيز جاويش، وعلي عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق.. إلخ. لكن المشرفين على السلسلة النهضوية ما اقتصروا على ذلك، بل مدوا الأفق النهضوي - أو ما اعتبروه نهضويا - إلى حدود تسعينات القرن العشرين، ليشمل مؤلفات لمحمد باقر الصدر ومحمد الغزالي وعلي شريعتي وآخرين. ولا حرج في نشر تلك الكتب بالطبع، لكنها في الواقع تنتمي إلى حقبة أخرى، وإشكالية أخرى، فقد كانت إشكالية كتاب الإصلاح والنهوض: كيف نحقق التقدم؟ أما إشكالية كتاب الإحياء الإسلامي فكانت ولا تزال: كيف نحفظ أصالة الهوية الإسلامية، ونحقق الاستقلال الذاتي بعيدا عن الغرب إن لم يكن في مواجهته؟ وهذه في الواقع هي إشكالية محمد باقر الصدر في «فلسفتنا» وكتابه الآخر: اقتصادنا، كما أنها إشكالية شيخنا محمد الغزالي في سائر كتبه، وهي إشكالية علي شريعتي في سائر كتبه، كما أنها موضوع سيد قطب ومحمد قطب والعلامة القرضاوي، على اختلاف - بالطبع - وتفاوت بسبب اختلاف المكان والزمان والظروف. إن المقصود من هذه الملاحظة لفت الانتباه إلى أهمية المرحلة التي يمر بها الفكر الإسلامي والسلوك الإسلامي اليوم، بل ومنذ عدة عقود. أما السلسلة نفسها فأراها شديدة الإفادة. فقد كان الليبراليون يشيدون بهذه الكتب «النهضوية» باعتبارها تطرح فكرا تقدميا مناقضا للفكر السائد اليوم. أما الواقع فإنه عندما نتأمل هذه الكتب في سياق واحد؛ فإننا نجدها عميقة الاقتناع بإمكان التقدم في ظل الإسلام، لأنه ليس عقبة بل إنه دافع رئيسي في النهوض.