المواطنة موضوعا للجدل السياسي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لا شك أنَّ ثمة أبعادًا نظريًّة ومنهجيًّة تتّصِلُ اتصالا وثيقا بمفهوم «المواطنة» لدى التيارات المصرية المعاصرة، بمُختلفِ أطيافِها الدينيةِ والفكريةِ والسياسيّة. ومن أهم هذه الأبعاد ذلك البعد الخاص بإشكالية «المُحتوى القِيمي الحَضاري لمفهوم المواطنة»، حيث نواجه بهذا الصدد شبكةً كبيرةً من المفاهيم المُتصلة بها، وفي مقدمتها مفاهيمُ: الهُويَّة، والانتماء، والتعدُّدية، والمُشاركة، والحقوق، والواجبات، والعدالة، والمُساواة، والحرية، والمُجتمع المدني.. إلخ.

وبطبيعة الحال؛ فإنَّ ترتيبَ هذه المفاهيم يخضعُ في الأساس لاختلافاتٍ شديدة التعقيد بين منظومةٍ وأخرى من منظومات القيم التي تستندُ بطبعها إلى أُطُرٍ مرجعيةٍ مُتباينة: قومية، ماركسية، إسلامية، ليبرالية، دينية، علمانية، أو تنْبُعُ من أُطُرٍ حضاريةٍ مُتنوعة: عُروبة، إسلام، فرعونية، قبطية، أورومتوسطية.. إلخ.

ضمن هذا السياق، تطفو على سطح إشكاليةِ المُواطنة مجموعةٌ مهمةٌ من التساؤلات، في مقدمتها: ما وضعيَّةُ مفهوم المواطنةِ في اللغة العربية؟! وما وضعُ مَضامين المفهوم أيضا في الخبرةِ الإسلاميَّةِ التاريخية والمُعاصِرة؟! وما العلاقةُ الحاكمةُ لكلٍ مِن: الدِّين والمُواطنة؟! وإذا كانت هذه العلاقة قد تمَّ استبعادُها في إطار التجربةِ الغربيةِ الحديثة من منظومةِ المُواطنة، فهل يعني ذلك بالضرورةِ استبعادُ الدِّين من منظومةِ المُواطنة في إطارنا الحضاري العربي والإسلاميّ؟! أم أنهُ لا تعارض مُطلقًا بينَ الدّين والمُواطنة؛ خاصًّة بعد أن أفسَحتِ المُراجعاتُ المعرفيةُ والنظريةُ للعلمانيةِ وللمُواطنةِ في الغرب من جديد مكانا لاستدعاءِ الدِّين؟! وتجرُنا هذه التساؤلات إلى بحث «مناطِ الاتفاق العَام» استنادًا لاختلافِ الأطر المَرجعية، واستنادًا أيضا لتعدُّد مفاهيم المُواطنة واختلاف مَدَاخلها، سواء ما يتّصِلُ بتحديد المضمون وأساليبِ التحقُّق والحماية، أو ما يتّصِلُ بتشخيص أسبابِ وعواقبِ الانتقاص منها! ويُفضي ذلك كلُّه إلى نتيجةٍ أوليّة مفادُها أنَّ قضيَّة المُواطنة في مصر ليْسَتْ محلَ اتفاق عام؛ إلا فيما يتّصِلُ بأنَّ الحقوقَ المُترتبة عليها هي حقوقٌ منقوصةٌ قبلَ وبعدَ الثورة!! ومن ثم، فإنهُ على الرُغم من الاختلافِ بين مُدركاتِ كلٍّ من التياراتِ: القوميةِ، والليبراليةِ، والإسلاميةِ، واليساريةِ، والقبطيةِ، للمُواطنة؛ فإنها جميعا تتفِقُ على أنَّ حقوقَ المُواطنةِ لا تزالُ منقوصًّة - إن لم تكن مفقودة بالأساس - وأنَّ هذا الانتقاص يُعدُّ بمثابةِ القنبلةِ المَوقوتةِ التي تهدّدُ وحْدَة المجتمع في الداخل (الفتن الطائفية)، وتسمحُ في الوقتِ نفسهِ بتدخُلاتِ الخارج (الولايات المتحدة الأميركية خصوصا بحجةِ الدّفاع عن حقوق الأقباطِ في مصر باعتبارهم أقليّة دينيّة مُضْطهدة).

البعد الثالث، والأهم، هو ذلك المُتعلِقُ بارتباطِ المُواطنةِ بالديمقراطيةِ ودراسةِ «إشكالية المُتغير التابِع والمُتغير المُسْتقل». وهذا البُعد بالذات يطرحُ بدورهِ تساؤلاتٍ شائكةٍ مثل: هل نبدأ بتحقيق المُواطنةِ قانونيًّا وسياسيًّا ومدنيًّا فنمضي بذلك في اتجاه التحرُّك نحوَ الديمقراطية؟! أم أنَّ إقرارَ الديمقراطيةِ هو السبيلُ الوحيد لدعم وحمايةِ حقوق المُواطنة؟! وهل التحوُّل الديمقراطي في مصر يحتاجُ إلى إعمال مبدأ «التدرجية» إلى أن تتدعمَ «الجماعةُ المدنيةُ» وتقوى بدورها على المُشاركة الفعالة في الحكم؟! أم أنَّ الأزمة السياسية والمجتمعية التي تعيشُها مصرُ حاليا، والتي تُنْتَهَكُ فيها أبسطُ حقوق المُواطنةِ، في أمسِّ حاجةٍ إلى حُلولٍ جذريّةٍ نهائية؟! نصلُ في مقاربتنا هذه إلى بحث مفهوم المواطنة لدى التيارات الفكرية الرئيسيةِ في مصر، لا لنكشِفَ عن أوجهِ التباين فيما بينها: سواءٌ على مستوى المَرجعيات الدينية (إسلامية ومسيحية)، أو الفكرية (ليبرالية وماركسية)، أو الهُويّاتيّةِ (فرعونية وعربية وإسلامية وأورومتوسطية)؛ وإنما لنكشف عن حجم الزخم الذي يتمتعُ به مفهومُ المُواطنةِ لدى التياراتِ المصريةِ المُعاصرة من جهة، ولنكشِفَ أيضا عن مدى التطوُّر والتقدُّم الذي لحق برؤية بعضِ الإسلاميينَ للمفهوم من جهةٍ ثانية. وقبل هذا وذاك لنوضِّحَ القواسمَ المُشتركةَ بين هذه التياراتِ جميعًا، والتي تسْمَحُ بإرساءِ قاعدةٍ نظريةٍ وعمليةٍ للمُواطنةِ في مصر الثورة، لو قُدِّرَ لها أنْ تحْظى ذات يوم بنظامٍ سياسي «مُحْترم»!! وأولُ ما نبدأُ به هنا هو إلقاءُ الضوء على مفهوم المُواطنة وسياقاته في الفكر القومي العربيّ. وللأسف الشديد، ما احتاجَ القوميونَ العرب - طوال القرن العشرين وحتى مطلع الثمانينات - إلى إيلاءِ فكرةِ المُواطنة اهتمامًا يُذكر في سياق اشتغالاتهم النظريّة أو العمليّة! والأمر نفسهُ فيما يتعلقُ بمفهوم الديمقراطيةِ التي ظلت ردحًا طويلا من الزمن بمثابة «الفريضةِ الغائبةِ» في فكر ومُمارسةِ القوميينَ العَرب!! ومن المُفارقاتِ الصّارخةِ في هذا الإطار، أنه لم يُؤذَن لكِلتا الفِكرتين (الديمقراطية والمُواطنة) بالظهور ضمنَ تضاعيف وثنايا الخطاب القومي المُعاصر إلا بعد أن ظهرت سوءاتُ غيابهما، ليس فقط في الدول العربيةِ التي لم تكتمل فيها عمليةُ الاندماج الوطني واستمدتْ مشروعية قيامِها من مصادِرَ عشائريةٍ، أو قبليةٍ، أو دينيةٍ؛ وإنما أيضا في الدول التي حكمَتها أنظمةٌ قوميّةُ التوجُه، وتوافَرَ لديها أساسٌ تشريعي وسياسي لبناءِ المُواطنةِ والديمقراطيّة، وخبرةٌ تاريخيةٌ في مُمارستها!! وبطبيعة الحال؛ فإنه من السُهولةِ بمكان التعرُّف على الأسبابِ التي أدّتْ إلى غيابِ كلتا الفكرتين عن الفكر القومي العربيّ، سواءٌ لدى رعيلهِ الأول (المؤسِس) أو رعيله الثاني، حيثُ ظلَ هؤلاء وأولئكَ مهمومينَ بالدّفاع عن «الهُويّةِ العربيّةِ الجامِعةِ المانعة» وما استتبعَ ذلكَ من إعادةِ تعريف «المُواطن العربيّ» ضدّ مُختلفِ الهُوياتِ والتعريفاتِ الأخرى المُنافِسة: العثمانية تارة، والفرعونية تارة أخرى!! ليس غريبا إذن، والحالُ هذه، أن لا يكونَ ساطعُ الحُصري على سبيل المثال مهموما بحالٍ من الأحوال بالبحثِ في حقوق المواطن الفرد وواجباته، بقدر ما كان مهمومًا بتعريف هُويتِه العربية ونبذ كل هُويّةٍ أخرى على الإطلاق!! وبالتالي؛ فإنه من الندرةِ بمكان أن تلامسَ في فكر المؤسسين الأوائل أدنى مُعالجة مُباشرة لمبدأ المواطنة تعريفا وإقرارا وتفصيلا! وحتى المقارباتِ القليلة التي أُنجزتْ لاحقا ولامسَتْ على استحياءٍ واضحٍ مبدأ المُواطنةِ بمفهومِهِ المُعاصر؛ فإنها لم ترْقَ إلى جوهرها الأصيل على الرغم من تشديد قسطنطين زريق على «كرامةِ الفرد كشرطٍ للحياةِ الوطنيةِ السليمةِ التي تنمو بالعطاءِ كما تنمو بالأخذ»! والغريب في هذا الأمر؛ أنه في الوقت الذي راجَعَ فيه الإسلاميونَ أنفسهُم في ما يتعلقُ بإقرار مبدأ المُواطنة، على النحو الذي سنكتشفهُ لاحقا، بقي بعضُ القوميينَ العرب على سابق عهدهم في الاهتمام بالهُويّة على حساب المُواطنة! ولم يجرؤ سوى القليل منهم، كمنيف الرزاز، على تقديم الفرد على المجموع، ووضع المجتمع في مصلحة الفرد كما يفهمها الفرد نفسه، لا كما يفهمها عنه المجتمع!! ومن المعروف عن الرزاز أنه فصَلَ، كأول مفكر قوميٍّ، بينَ الحديث عن حقوق المواطن السياسيةِ وحقوقه الاقتصاديةِ وحقوقه الاجتماعيةِ، فضلا عن أنه برّرَ تحلُّل المُواطن من واجباتهِ بعدم شعورهِ بأنه يسْعدُ بحقوقهِ أولا، أو لعدم اقتناعهِ بها ما دام لم يكن له رأي فيها، كما لم يكن له يدٌ في تشكيلها!! وبطبيعة الحال؛ فإنَّ ثمة من يُرجعُ اختفاءَ المُواطنة في الفكر القومي لأسبابٍ بعضُها موضوعي راجع إلى مرحلةِ التطور الذي بلغتهُ الدولةُ الوطنيةُ العربيةُ حديثة النشأة، وبعضُها كامنٌ في بنيةِ الفكر القومي بحدّ ذاته، إضافة إلى غلبةِ النموذج «البسْمَاركي» الوحدوي القائم على تحقيق الوحْدة، ولو بالعنف!! وإلغاء مظاهر التنوع كافة. ومن ثم، كان احتفاءُ القوميينَ الأوائل - على وجه الخصوص - بمسألة «الهُويّة» لا بالمغزى القانوني للانتماء، والذي يُرسِخُ ثنائيةَ الحقوق والواجبات، ويُكرسُ مبدأي الديمقراطيةِ والمُواطنة!! أضف إلى ذلك أيضا، أنَّ تأكيد الذات القوميةِ وتثبيتَ الهُويّةِ العربيةِ كان مُحصلةً طبيعية، فيما يؤكد محمّد عزة دروزة، ضدّ ما سماهُ «التغلُّب التُركيّ» وتحقيق الاستقلال عن الاستعمار الأوروبيّ!! والحال أنَّ الفكرَ القومي العربي عامّة، الناصري بخاصةٍ، قد وجدَ في السعي لتحقيق بعض الأهدافِ القوميةِ الثمينةِ، بحسب تقديره، كالاستقلال الوطني ومواجهةِ التوسُّع الصهيونيّ، مبررًا وذريعة لتأخر تحقيق الإصلاح السياسي والدستوري المنشود.

ونتيجة لذلك، أصبحَ كلُّ شيءٍ مؤجلا لحين إشعار آخر لم يأتِ في يوم من الأيام!! وما دامت فلسطينُ مُحتلة، وما زال الاستعمارُ باقيا، فلا مجال للحديث عن الديمقراطية أو ما شابه ذلك لحين تحقق الاستقلال!! وفي المحصلة، كان التيارُ القومي يتبنى خطابا مغرقا في ديماغوغيته فلا يرى تلازُمًا عضويًا قائمًا بين الأهداف؛ وإلا لأدْرَكَ للوهْلةِ الأولى الحقيقةَ أو البديهيةَ القائلة بأنَّ الأوطانَ لا يُحررُها ولا يصونُ أمْنَها إلا مواطنونَ أحْرار! وبالتالي، كانَ تحريرُ الوطن مُقدّما لديهِ على تحرير المُواطن، كما كان الأمنُ القوميّ، والذي لا يزال يُتخذُ ذريعة حتى الآن لتبرير أشدِّ الأعمال وحشيًّة، مُقدما لديهِ أيضا على حريةِ الفرد! وهو ما برّرَ استخدامَ العنفِ لأقصى درجة ممكنة، فيما كانَ الهدفُ من وراء ذلك بيّنا للعَيان؛ ألا وهو: تصفيةُ الخصوم السياسيين بالدرجة الأولى، وقمع الأصواتِ المُعارضةِ المُطالبةِ بالديمقراطيةِ المُناديةِ بضرورةِ احترام حقوق الإنسان.

وإلى جانب ما سبق، يمكن القول: إنَّ مبدأ المُواطنة كان مرتبطا في تطبيقهِ بالدولةِ القُطريّةِ المُتهمةِ في نظر الفكر القوميّ، ليس فقط بعدم صدقيةِ توجهاتِها القومية، وإنما أيضا بعدم شرعِيتها!! ومن ثمّ، كانَ تأكيدُ القوميينَ العرب أنَّ «الديمقراطيةَ لن يُكتبَ لها النجاحُ ما لم يتحول الواقع إلى دولةٍ عربيةٍ مُوحدة؛ لأنَّ غيابَ دولةِ الوحدةِ يُشكِلُ نقصًّا في كفاءةِ الديمقراطيةِ على حلِ المشكلاتِ الاجتماعيةِ في كل دولةٍ إقليميةٍ على حِدة، وفيها جميعا من دون استثناء»!!.. وتلك قضية أخرى.

* كاتب مصري