مالك بن نبي والقابلية للاستعمار والمسألة اليهودية

رضوان السيد

TT

كنت أقرأ دراسة ضخمة صدرت حديثا عن مالك بن نبي للباحث عبد الله بن حمد العويسي، عندما أخبرني صاحب «دار الفكر» أن الجزء الثاني (من وجهة العالم الإسلامي)، وهو الخاص بالمسألة اليهودية قد ظهر. وكنت قد نسيت أن الأستاذ عمر مسقاوي مترجم كتب ابن نبي قد أطلعني على ترجمته لهذا المخطوط عن الفرنسية، وهو متردد في نشره. وما كان أحد منا يعرف شيئا عن هذا الأمر، وإن كنت قد تساءلت أحيانا، عما إذا كان الأستاذ مالك قد كتب شيئا لم ينشر عن اليهودية والمسيحية؛ وبخاصة أنه حام حولهما بأشكال مباشرة وغير مباشرة طوال حياته. وقد قرأت المخطوط في ترجمة مسقاوي وأدركت سبب تردده، فالمخطوط مكتوب عام 1951 إبان الحرب الكورية، وعلى مشارف الحرب الباردة، وإبان الاضطراب الآسيوي الأفريقي للخلاص من الاستعمار. وكان الرجل في كتابيه: «وجهة العالم الإسلامي (الجزء الأول)»، و«شروط النهضة»، قد أطلق نظريته في القابلية للاستعمار، فدرس الأمر من جانب المسلمين، كما درس مناهج وطرائق التخلص منه (وليس بالكفاح المسلح) بالنهوض الفكري والثقافي، والخروج بالنظر والأفق من التخلف والانحطاط اللذين يقعان في أصل القابلية للاستعمار. فالانحطاط الثقافي والحضاري «والسياسي» في عالم ما بعد الموحدين (القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي)، هو الذي جعل الاستعمار الأوروبي ممكنا، وفي الثقافة وعالم الأفكار أولا، ثم في عوالم العسكر والاقتصاد! ومن هذا المنطلق انصرف مالك بن نبي في إقامته المصرية (1956 - 1963) إلى تطوير فكرته أو نظريته في الحضارة، والخروج من الاستعمار. وذلك من طريق التغيير الفكري (= مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، والدخول في الآسيوية - الأفريقية التي صنعها عالم باندونغ، وأفضت إلى قيام جبهة عدم الانحياز، والانصراف لدعم حركات التحرير في آسيا وأفريقيا. وفي تلك الفترة التي أقام فيها مالك بن نبي بالقاهرة، كانت مصر عبد الناصر قد صارت البيئة الرئيسية لحركات التحرير، بما في ذلك حركات تحرير المغرب العربي. وفي عام 1963 عاد مالك بن نبي إلى الجزائر بعد الاستقلال بعام، وعمل فترة قصيرة في إدارة التعليم في عهدي بن بلة وهواري بومدين. لكنه سرعان ما اختلف مع الثوريين، وهو يراهم يتجهون لديكتاتورية عسكرية وأمنية بصبغة اشتراكية شأن الصين وأقطار أوروبا الشرقية من حول الاتحاد السوفياتي. وعندما قابلته عام 1969 أو 1970 - وكان يقيم مؤقتا بين لبنان وسوريا وينشر كتبه في عدة دور، ويقيم ندوات للشباب؛ كان قد ضاق ذرعا بسائر الأنظمة وبخاصة بعد هزيمة عام 1967، وسواد ديكتاتورية بومدين بالجزائر. والمهم أنه في ذلك الوقت، كانت أفكاره بشأن النهوض والخروج من القابلية للاستعمار قد تغيرت، أو أن إطارها هو الذي تغير. فقد صار الإطار: الكومنولث الإسلامي، وليس الآسيوية - الأفريقية أو عالم باندونغ. وانصرف كليا في ندواته وكتبه إلى البناء الداخلي للإنسان المسلم، وإلى التركيز على الاستقلال الحضاري تحت راية الإسلام. ولكثرة حديثه في سنوات ما قبل وفاته (1973) عن الدين وتأثيره في الحضارة؛ فأذكر أن أحد الحاضرين من كبار السن سأله عن المسيحية واليهودية ووجهتيهما الحضاريتين. ولا أذكر الآن إجابته، كما لم أتذكرها عندما أطلعني الأستاذ مسقاوي على مخطوطته في المسألة اليهودية من أجل التقديم لها إذا كنت أرى نشرها. إن المهم أننا نعرف الآن أن الأستاذ ابن نبي كتب عن اليهودية والحضارة، كما من الراجح أنه كتب عن المسيحية والحضارة.

والواقع أن مسألة الحضارة شغلت سائر الناس خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي السنوات التي تلت عام 1945. ونحن نعلم أنه فيما بين أواخر الأربعينات، ومطالع الخمسينات كتب كل من المودودي والندوي وسيد قطب في مشكلات الحضارة. والحق أن هؤلاء المفكرين وغيرهم إنما كتبوا في مشكلات الحضارة الغربية، التي كانت الشواهد على فشلها من وجهة نظرهم حاضرة في الخراب وعشرات الملايين من الضحايا على مدى العالم في الحربين العالميتين. وكل من هؤلاء عرض الإسلام بديلا للحضارة الغاربة أو المدمرة والمدمرة. أما مالك بن نبي، والذي قرأ الموروث الثقافي الأوروبي لفكرة الانحطاط وعناصر النهوض؛ فإنه انصرف إلى دراسة أسباب الانحطاط الإسلامي. فقد روعته المأساة التي نزلت بالعالم من جراء سواد الحضارة الغربية فيه وعليه، لكنه رأى أن عالم الإسلام ليس مؤهلا بعد ليكون بديلا بالفعل؛ وذلك لأنه ما يزال يحفل بعناصر وأفكار ومشكلات ما سماه: القابلية للاستعمار. ولا أظن أنه كان يملك خطة مسبقة في ذهنه لما يريد القيام به تأليفا وعملا عندما بدأ الكتابة المنتظمة في أواخر الأربعينات من القرن الماضي. وكما سبق القول؛ فإنه كتب في وجهة العالم الإسلامي، وفي شروط النهضة، وفي مشكلات الحضارة. ثم نشبت الحرب الكورية (1951 - 1953)، فتصور أن الحضارة الغربية الحديثة سائرة إلى نهاياتها. إن الذين كانوا يتقاتلون هم الذين انتصروا في الحرب (الأميركان والسوفيات)، ولذلك هناك فرصة بالفعل لبناء حضارة جديدة عمادها المسلمون والآسيويون والأفارقة، الذين تخلصوا أو كادوا من الاستعمار، والذين أقبلوا على بناء حضارة سلام وتعاون. ونحن نعلم الآن أن ابن نبي - وفي ظل الحرب الكورية - ما دخل فقط في مسائل الحضارة وانقضائها (بحسب شبنجلر وأحد تفسيرات توينبي)، بل دخل أيضا في الفكرة الأخرى بشأن مشاركة اليهود في بناء الحضارة الغربية، والمشاركة الآن في تدميرها. وهو متردد بشأن مصائر الحضارة الغربية، لكنه ليس مترددا في وقوف اليهود وراء تياراتها الرئيسية المخربة. ولا نعرف بالضبط كيف نظر إلى مسألة نشوء دولة إسرائيل (1948)، والتي دعمها السوفيات والأميركيون بعد أن أقامها البريطانيون. لكننا نعرف أنه كان يعتقد بالسيطرة اليهودية من خلال المال والأعمال والثقافة والأفكار على مراكز القرار في الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا السوفياتية وبريطانيا. وهو يرى أن هذه «الخصوصية» اليهودية في الاستمرار والسواد أخيرا بطرائق خفية قديمة العهد، وأقدم من الوجود بأوروبا. فهو يقارن بين مصائر المتعاصرَين: ابن رشد وموسى بن ميمون، وكيف انتهى كل منهما أو مشروع كل منهما. ونحن نعلم الآن أن مشروع ابن رشد ما انتهى، وقد أثر أكثر بكثير من ابن ميمون في النهوض الحضاري الأوروبي. بل ونعلم أن معظم «لاهوت» ابن ميمون هو لاهوت أو كلام معتزلي، وأن عنوان كتابه: «دلالة الحائرين»، مأخوذ من كتاب الغزالي: «إحياء علوم الدين» (*)! وعلى أي حال؛ فإن ابن نبي لا تهمه - كما يقول - المسائل العنصرية أو الحملة على اليهودية دينا، وإنما يدخل المسألة اليهودية، باعتبارها من العوامل المساعدة للاستعمار، والاستبقاء على القابلية له، ليس في عالم الإسلام فقط؛ بل وفي عالم الآسيويين والأفارقة - وهو الأمر الذي لم يظهر بعد، بل سيظهر عما قريب. لقد ظهرت السطوة اليهودية في قيام دولة إسرائيل في قلب عالم المسلمين، وستظهر بأشكال أخرى في عالم الآسيويين والأفارقة ربما من خلال المال والأعمال والثقافة! أما كيف حدثت هذه السيطرة وسوف تحدث؟ فإنها حدثت من خلال السيطرة على المنظومات الفكرية الرئيسية في أوروبا الوسيطة والحديثة، وهي الآن تسيطر أيضا على منظومات العمل. أما الآسيويون والأفارقة والمسلمون الذين يسيطر الاستعمار على ديارهم؛ فإن ذلك حدث بسبب وجود القابلية للاستعمار عندهم، ثم دخول الحضارة الغربية/ اليهودية عليهم التي عمقت من تلك القابلية. لكن هناك أمل يبقى في فكرة الآسيوية - الأفريقية والتي اندفع فيها مالك بن نبي فيما بعد، ثم تطامنت طموحاته بعض الشيء إلى «الكومنولث الإسلامي»، مع عودة الهاجس من اليهود واليهودية للتعملق بعد عام 1967.

عندما قابلت مالك بن نبي عام 1969 /1970 للمرة الأولى - وكنت قد قرأت بعض كتبه - ما كان مرتاحا بالطبع إلى أوضاع العرب والمسلمين؛ لكنه ما كان مرتاحا أيضا لظهور الحزبية الإسلامية أو كما سماها أمامي: بروتستانتية الإسلام. إنما وفي نظرة مستعادة، أجد أنه فيما صار إليه كان أحد المؤسسين لهذه الخصوصية التي استعلت وتجذرت في وجه الاكتساح الغربي، والاستبداد العسكري والأمني، وشأنه في ذلك شأن الدكتور محمد البهي والأستاذ محمد المبارك وآخرين كثيرين، ممن لم تكن الخصوصية والتحشيد على الطريقة القطبية تهمهم في شيء قبل الستينات. فالحرب الباردة ما أنهت الحضارة الحديثة، بل إنها تعملقت وقضت على جبهة عدم الانحياز، ثم قسمت العالم العربي إلى أنظمة سوفياتية الميول، وأخرى أميركية الميول. واشتغل الإسلام العنيف لدى الطرفين دون أن يحس، إلى أن صار مشكلة عالمية، أضرت بالإسلام والمسلمين أكثر مما أضرت بالغرب وإسرائيل، وكادت تتسبب في تخليد الأنظمة الجمهورية الوراثية باعتبارها أكبر أعدائه! لقد كتبت عن مسالك بن نبي ونهضويته وكيف انكمشت تحت وطأة تحديات الستينات، ثم كيف أفضت مع مثيلاتها إلى أصولية ضد الغرب، باعتباره أصل الشر الذي نشرته اليهودية في أصوله الفكرية وفي طرائق انتشاره في العالم. ولست أزعم أن جيلنا ذا الثقافة الإسلامية كان بمنأى عن ذلك؛ لكنها الظروف والأيام التي قال الله تعالى إنه يداولها بين الناس: «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».

(*) ما رأيت الأصل الفرنسي لمخطوطة ابن نبي، وفي ترجمة مسقاوي أن ابن ميمون عنون كتابه من «المنقذ من الضلال» وليس الأمر كذلك.