قضايا الأقليات في ضوء الفكر القومي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

كي يتسنى لنا أن نقف على حقيقة مواقف ورؤى الحركات الإسلامية المعاصرة من قضايا الأقليات والمواطنة، يتعين علينا أولا أن نستعرض مواقف التيارات الفكرية الأخرى من القضية ذاتها. ولعله قد بان لنا في استعراضنا لرؤى المواطنة لدى التيارات الرئيسية في الفكر المصري المعاصر: كيف تشكلت مبكرا جدا تلك الرؤى، وكيف كانت في تشكلها متنوعة المصادر والمشارب، وكيف أنها نمت في مناخ ليبرالي حتى وهي تحت الاحتلال!! ومع ذلك؛ فإننا نتطلع إليها الآن بحسرة وألم في ظل سيادة الفكر الظلامي من جهة، والمناخ الاستبدادي العام من جهة أخرى!! والحال أن إعادة البحث المتعمق مجددا في مفهوم المواطنة المصرية، وكيف يمكن استجلاء أبعاده في ظل التحولات الخطيرة التي تمر بها مصر اليوم، وما يستتبع ذلك من معرفة أسسه ومصادره وعناصر الثبات التي تميزه، والكيفية التي اكتسب بها أبعادا مركبة في ظل التطورات الداخلية التي عصفت بمصر إبان القرن الماضي، وتلك التي مرت بها المنطقة العربية برمتها منذ مطلع الألفية الثالثة؛ لهو أمر ضروري من أجل استكمال النضال الفكري والسياسي والحقوقي والاجتماعي والمدني لتحقيق المواطنة.

وعلى الرغم من أن الاقتراب من الخارطة السياسية لأي مجتمع ودراسة الملامح المستمرة والظواهر المستجدة عادة ما يتم عبر مفاهيم أساسية تعد بمثابة المدخل المناسب للفهم والتحليل؛ فإن المفاهيم ذاتها متغيرة، فضلا عن أن مساحتها الدلالية مركبة ومتداخلة، ناهيك عن أن قدرتها التفسيرية متفاوتة. ومن ثم، تبرز الحاجة هنا إلى تحديد «المفهوم المدخل» لدراسة العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية والفكرية في واقعنا العربي والإسلامي.

ومن المعلوم أن «مفهوم المواطنة» قد شهد صعودا في كتابات النظرية السياسية بعد أن ظل «مفهوم الدولة» يشكل العمود الفقري للمفاهيم السياسية كافة، ومنطلقا لدراسة ظواهرها. وحتى عندما استقبل مفهوم «المجتمع المدني» بحفاوة شديدة في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات في دوائر البحث والتحليل؛ فإنه ظل يدرس في ضوء علاقاته المتشابكة بالدولة شدا وجذبا، صعودا وهبوطا ليس إلا! ونتيجة لذلك، بقيت «الدولة» بمثابة المفهوم المركزي فيما غالبية المفاهيم الأخرى ترتبط به من حيث الدلالة والمعنى، وتكتسب من تحولاته التجدد والاستمرار! وبالتالي؛ يتعين علينا ألا يقتصر اهتمامنا بالمواطنة على مجرد العودة لتعريفات الحقوق المدنية والسياسية، أو على بحث قضايا الوعي والهوية والانتماء، تلك التي شغلت حقلي الاجتماع السياسي ومجال الدراسات الثقافية الصاعدة زمنا طويلا؛ وإنما يجب علينا أن نكسب المفهوم أبعادا جديدة وأن يتحرك إلى مكانة مركزية في التفكير النظري والتحليل الإمبريقي، بحثا عن مؤشرات جديدة ودالة في الواقع السياسي الراهن.

صحيح أن مفهوم «المواطنة» قد تم الاهتمام به كثيرا في النصف الثاني من عقد التسعينيات، بعد أن تعرضت دعائم مفهوم «الدولة القومية» للاهتزاز؛ إلا أنه بدلا من استدعاء «المواطنة» كمفهوم وموضوع عند دراسة تحولات الظواهر والمفاهيم الكبرى في النظرية السياسية، كدراسة الدولة أو التنظير للمجتمع المدني أو دراسة التحول الديمقراطي، بدلا من ذلك صارت تلك القضايا هي التي تنتظم كدوائر متشابكة حول المفهوم العائد من مجالات الفكر والفلسفة إلى قلب العلوم السياسية مع قدوم ألفية جديدة بكل ما صاحبها من تحولات كبرى في بنية النظام الدولي، وتغير في دور الدولة، وتعرض الفكر القومي لأزمة طاحنة، وارتفاع وتيرة المشكلات العرقية والدينية، ووصول الفردية كفكرة مثالية لتحقيق حرية وكرامة المواطن إلى منعطف خطير في الواقع الليبرالي المعاصر، فضلا عن بروز العالمية والتحولات التي لحقت بمفهوم «الديمقراطية» وقنوات المشاركة السياسية في ظل العولمة!! لذا يبدو مفهوم «المواطنة» عند البعض مفهوما جامدا لا تطرأ عليه تغيرات من أي نوع: سواء في مضمونه، أو في التعبير عنه؛ على الرغم من اتساع نطاقه من الدلالة السياسية القانونية، إلى الدلالة المدنية الحقوقية، ثم إلى مساحات الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ثم إلى مستوى العدالة في المجال الخاص وتجسير الفجوة بين الخاص والعام، كما في قضايا المرأة، وأخيرا وليس آخرا إلى مجال الهويات الثقافية الجماعية، وحتى الاختبارات الذاتية للجسد في المجال الخاص ومطالبتها بالشرعية القانونية في المجال العام!! ومن المعلوم، أن التعبير عن الموقف من «الأقليات» كان محدودا جدا بالنظر إلى مضمون «الفكر القومي العربي»؛ وإن مال اتجاهه العام إلى التسامح والاعتراف بها! ومن ثم فإن الملمح العام لتعاطي الفكر القومي ومسألة الأقليات يكمن في إعمال مبدأ «المراوغة» فميشال عفلق، على سبيل المثال، لا يفيدنا بأي حل عملي للمسألة الكردية، وإنما ناقشها بابتسار واضح!! كما لا تخلو التحليلات الرائجة، حتى مع أكثرها عمقا، من التضخيم في الإيمان الزائد بفكرة «المؤامرة» واتهام قيادات تلك الأقليات بالعمالة للخارج، وإن أكدت في مواضع أخرى أن حركة الأقليات جزء من مشروع واسع وأصيل من الثورة العربية ضد قوى الاستعمار الخارجي! إذ لا يتجاوز تأكيدها هذا حد الخطاب الشعاراتي الذي يحاول إهالة الإنشاء والرطانة اللغوية على المشكلات الحادة المتأزمة!! هذا على الجانب النظري، أما من الناحية العملية فقد فشلت التجربة القومية الحزبية بامتياز في التعامل مع مسألة الأقليات غير العربية، خصوصا الأكراد والتركمان وغيرهما. والواقع أن المشكلة المركبة في هذا الصدد قد تجاوزت السياسات القامعة لأشواق الأقليات بالتمتع بحق استخدام اللغة الأقلوية، أو المعاملة على قدم المساواة مع الأغلبية، أو تشتيت تجمعاتهم لأسباب سياسية وأمنية، إلى اتهامهم دوما بالارتباط بالخارج للتآمر على الداخل!! بل لعله من المفارقة التي قد لا تخلو من مرارة أن يكون الإصدار الوحيد في هذا المجال (من بين إصدارات «مركز دراسات الوحدة العربية») هو كتاب: «الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا»!!، فيما لم ينشر له نظير يتناول المشكلة ذاتها في الوطن العربي!! وفي الأحوال كلها؛ تبدو هنالك حاجة ماسة لتجاوز الخطاب القومي الكلاسيكي بل وتجاوز الوقوف عند التحذير من إهمال مسألة الأقليات، كما هو الحال بالنسبة للخطاب القومي الجديد، والتقدم خطوة أكبر بالتركيز على الحاجة إلى مقاربة ليبرالية نحو المشاركة السياسية تضمن، ليس فقط إقرار المواطنة نظريا؛ وإنما تنفيذ مبادئها فعليا. خاصة أن مسألة الأقليات يمكن حلها من خلال إقرار المواطنة التي توفر مساواة كاملة بين المواطنين؛ بغض النظر عن اعتبارات الجنس أو الدين أو اللغة. صحيح أن الخطاب القومي الجديد بدا وكأنه ينحاز انحيازا واضحا إلى مبدأ المواطنة بمعناه الغربي الحديث المؤسس على مساواة كاملة لأفراد المجتمع وتحديد علاقاتهم القانونية، واجبات وحقوقا، بالدولة القطرية التي ينتمون إليها؛ لكن يبقى القول: إن بعض المعالجات التي تصدر في هذا الشأن تبحث قضية المواطنة بمنأى عن مناقشة ارتباطها الجوهري بمسألتي حقوق الإنسان والديمقراطية. والواقع أنه ما لم تضمن الديمقراطية والمساواة والكرامة وغيرها من الحريات السياسية للعرب كافة، بغض النظر عن أصولهم الدينية أو العرقية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو المذهبية، فإن مشكلة الأقليات ستستحيل على الحل!! ولعل ذلك هو ما دفع الدكتور رضوان السيد لأن يؤكد جازما أن مشكلة الأقليات ليست في الحقيقة إلا مشكلة الديمقراطية التي يشتاق إليها جميع المواطنين على اختلاف مذاهبهم وتنوع أعراقهم! هذا ويتدرج الاهتمام بحقوق الأقليات في الفكر القومي الجديد بدءا من الاعتراف بحق كل أقلية في إحياء لغتها القومية جنبا إلى جنب مع اللغة العربية، ومرورا بالاعتراف بحق الاختلاف الثقافي وإرساء أسس الديمقراطية الثقافية، وليس انتهاء بإدماج هذه التعبيرات المختلفة ضمن نظام وطني جامع. وإذا تحقق ذلك؛ ستجد الأقليات أن من مصلحتها أن تبقى جزءا لا يتجزأ من الاتحاد العربي! وفي السياق ذاته، ثمة من يقترح اتباع استراتيجية جديدة لتهدئة التوترات العرقية ونزع فتيلها، تتكون من: تعزيز المشاركة السياسية، وإقامة دولة اتحادية تحترم المجتمع المدني وتثمن دوره!! غير أنهم يفرقون بين حل يمكن التوجه به إلى الأقليات الدينية، وآخر يتعلق بالأقليات القومية.

ففيما يعد إحلال الديمقراطية الحل الأنسب لمعالجة مسألة الأقليات الدينية، إلى جانب إعادة إدخال النظام الملي بعد تطويره، على الرغم من سمعته السيئة التي ترجع إلى سوء سمعة الإمبراطورية العثمانية، يقترح البعض الآخر الاعتراف بحق الأقليات القومية في تقرير مصيرها وتحقيق الاستقلال!! وهو ما يحذر منه الكثيرون خوفا من أن حلا كهذا سيطلق هوس الانفصال على أعنته لكيانات قبلية وعرقية وطائفية ليس لها من مقومات الدولة شيء، فضلا عن أنه يتقاطع بأهداف إسرائيلية صهيونية. وفي المحصلة، يمكن القول: إن المقاربة الصحيحة لمشكلة الأقليات بطرفيها الديني والقومي تظل رهنا بتعديل العلاقة الحالية بين الدولة والمجتمع من علاقة ذات طرف واحد إلى علاقة شراكة حقيقية، ينظمها عقد اجتماعي، وترتكز على دعامتين أساسيتين هما: مبادئ المواطنة بما تعنيه من إقرار حقوق متساوية أمام القانون، وإقامة مشروع وطني يحظى بقبول سياسي عام وتنصهر فيه التكوينات الاجتماعية المختلفة ذات المنبت القبلي أو العشائري أو الطائفي في بنية اجتماعية جديدة تعلو على التعدديات الصغرى كافة، ويتحقق فيها الانتماء الجماعي إلى دائرة أرحب هي دائرة الانتماء الوطني، وتوزع فيه فرص التنمية ومكاسبها توزيعا عادلا، وتزدهر فيه المشاركة السياسية، وتنمو علاقات المواطنة.

* كاتب مصري