ذاتية السعادة وأخلاقيتها

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على الرغم من أن السعادة تمثل فكرة أخلاقية في الأساس؛ فإنها تتصل اتصالا مباشرا بمختلف الأصعدة الثقافية والدينية والسياسية. صحيح أنه لا يمكننا بحال من الأحوال أن نتجاهل «الغائية الأخلاقية» للسعادة؛ لكن ذلك لا يقوم دليلا على انعزالها أو عدم ارتباطها بمختلف مجالات الفكر الإنساني.

ولعل صعوبة تحديد لفظتها ترجع أساسا إلى تعدد ارتباطاتها واتصالها الوثيق بأكثر من مجال فكري. ولا شك أن مفهوم السعادة ليس مفهوما مطلقا، إن من حيث الشكل أو المعنى، فمن الملاحظ اختلاف مضمونه من حضارة لأخرى؛ تبعا لمعطيات كل حضارة وخصائصها. وقد غلب على مفكري الإسلام الإحساس بذاتية السعادة، وإمكانية تحققها، وحتمية السعي لنيلها. نقول هذا على الرغم من تضارب القول أحيانا في تحديدها، واقتصار البعض على معالجتها ضمن مباحث الأخلاق، من دون ربطها بشتى فروع المعرفة المختلفة! والحال أن البحث في موضوع السعادة لا يعد من الموضوعات السهلة اليسيرة، فكم نجد تصورات مختلفة ومتضاربة حولها، بالإضافة إلى أن البحث فيها يرتبط بدراسة العديد من المجالات والنظريات الأخرى، وعلى رأسها: مسألة النفس الإنسانية، وما يتعلق بإثبات وجودها، وخلودها.. إلخ.

وقد شغلت فكرة السعادة مفكري الأخلاق بصفة خاصة؛ ومرد ذلك أنه إذا كانت اللذة هي الغاية للطبيعة الإنسانية، والخير غاية بالنسبة للإرادة، والحقيقة غاية بالنسبة للعقل؛ فإن السعادة هي غاية عامة للإنسانية كلها.

وحقيقة القول: إن أهمية علم الأخلاق تكمن في الجانب العملي منه، حيث لا يقتصر دوره على منح المجتمع قواعد ثابتة يتعين على كل فرد فيه أن يتبعها في تصرفاته، أو على تقديم مجموعة من الأوامر أو النواهي التي ينبغي التمسك بها؛ وإنما تكمن أهميته في أنه يوجه انتباه الإنسان إلى ذلك الجزء المبدع فيه، كما أنه يساعده في التعرف على إمكانياته الفائقة كإنسان، يظل بإمكانه أن يواجه كل ظرف جديد بإرادة قوية.

إن قواعد الأخلاق تقوي في الإنسان القدرة الروحية على فعل الصواب والأصوب، فضلا عن أنها لا تضع الإنسان في إطار ميتافيزيقي، لكنها تحرره لكي يكتسب الاتجاه الذاتي الحر والمسؤولية الكاملة.

ومن الملاحظ على منظومة القيم الإسلامية - كما خطتها الشريعة وروج لها علماء الإسلام وفلاسفته - أنها تتميز بقيمتها الذاتية؛ بمعنى أنها تمثل غاية في حد ذاتها، وليست مجرد وسيلة يسعى المرء من خلالها إلى نيل غايات أخرى.

وتبعا لذلك؛ لا ترتبط السعادة بمبادئ اللذة أو المنفعة، وإنما ترتبط - أولا وأخيرا - بمنظومة الجزاء الإلهي! وهو ما أكده فلاسفة ومتصوفة الإسلام حين اعتبروا السعادة غاية قصوى - بخلاف اللذة - بالنسبة للغايات الصغرى التي تقل أهمية عنها.

ومن هنا فإن مفهوم السعادة يعد بالفعل من أبرز الموضوعات التي يهتم بها الفيلسوف الأخلاقي. وما دامت فلسفة الأخلاق تعني في جوهرها البحث عن مبادئ السلوك الإنساني وغاياته؛ فإن السعادة بداهة متضمنة فيها؛ بحكم كونها تمثل غاية كل فعل إنساني، حتى ولو كان شرا!! ولذلك؛ فإن فلسفة الأخلاق بشقيها (النظري والعملي) سواء المؤكدة على القانون الأخلاقي، أو المهتمة بالغاية الأخلاقية، لا يمكنها أن تتجاهل على الإطلاق فكرة السعادة؛ خاصة أن سؤال: ماذا ينبغي أن أفعل؟ مرتبط أساسا بالتساؤل عما هو حسن أو قبيح، عما هو خير أو شر من أفعال الإنسان كافة! ولا شك أن غائية السعادة تعد من الأمور الكبرى التي أكد عليها فلاسفة الإسلام مرارا وتكرارا، فابن سينا - على سبيل المثال - يقرر صراحة أنه ما من غاية يتجرد لها الإنسان في حياته أفضل في ذاتها من السعادة باعتبارها تمثل كمال الموجود، وأن أقصى غاية يتأتى لأحد الموجودات الوصول إليها هي الكمال المختص بذاته.

صحيح أن فلاسفة الإسلام قد أخذوا بالموقف الأرسطي إزاء السعادة، على نحو ما عرفها أرسطو بأنها «الحياة النشطة المتوافقة مع الفضيلة»!!، لكن تأثرهم بالتراث اليوناني لم يقف بهم عند حد الإعجاب بهذا التراث فحسب؛ وإنما ربطوا بينه - ممثلا بصفة خاصة في أرسطو - وبين التراث الإسلامي.

ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يؤكد ابن باجه على هذا التوفيق بالقول «ومَن جُعِلَ له هذا العقل؛ فإذا فارق البدن بقي نورا من الأنوار يسبح الله ويقدسه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا». والمضمون ذاته ملاحظ ضمن تضاعيف أعمال الشيرازي، خاصة قوله «إذا ارتاحت أنفسنا في حياتنا الدنيا وآنست لذكر الله تعالى، وفرحت بذكر صفاته العليا تنال من السعادات عند فراغها عن شواغل البدن قدرا يعتد به».

وهكذا يبدو جليا أن موضوع السعادة يعد من أكثر الموضوعات ارتباطا بفلسفة الأخلاق، وذلك من شأنه إعلاء الروح مقابل المادة، وصولا إلى ملامسة كل ما هو سرمدي خالد!! ولا شك أن الدين يلعب دورا كبيرا في حياة الأمم والشعوب، دورا قد لا يقتصر في بعض الأديان - كما هو الحال في الإسلام - على مجرد ممارسة الشعائر الدينية في دور العبادة؛ وإنما يتخطاها إلى التأثير المباشر في مجالات الحياة كافة.

فالدين ليس حالة خاصة بالشخص مؤلفة من عواطف وعقائد، أو من أعمال تعبدية تتعلق بالخالق؛ وإنما يعني طريقة حياة تأخذ في اعتبارها علاقات الإنسان بربه، ووطنه، والآخر. ونتيجة لذلك؛ نلحظ أن القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند حدود وصف الحقائق العليا النظرية وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة في الحياة الإنسانية العملية. فالقانون الأخلاقي ربما لا يكون وازعا كافيا لبعض النفوس كي تمارس حياة الفضيلة إذا ما كانت بغير دين، فضلا عن أن الفكرة النظرية المجردة لا تعد عاملا فعالا إلا إذا تضمنت عنصرا دينيا، وهذا هو السبب في أن الأخلاق الدينية أقوى بكثير من الأخلاق المدنية إلى حد يستحيل معه المقارنة؛ ولذلك لا يتحمس الإنسان في الخضوع لقواعد السلوك القائم على المنطق، إلا إذا نظر إلى قوانين الحياة على أنها أوامر منزلة من الذات الإلهية.

وقد تعامل الإسلام مع منظومة الأخلاق المتوارثة تعاملا ذا أبعاد ثلاثة؛ حيث أبقى على بعضها وأقرهم عليها، وأجرى تعديلا على بعضها الآخر فتمم محاسنها وصحح وجهها، كما أبطل البعض الآخر، وهو ذلك القدر الذي كانت تحركه النظرة الضيقة أو الجهل. ونتيجة لذلك؛ بلغ المجتمع الإسلامي الأول درجة من السعادة عمت جميع أفراده، ولم تكن تلك السعادة إلا نتاجا طبيعيا لاستقامة المسلمين واتباعهم تعاليم دينهم الحنيف الذي هو أشد توافقا مع الفطرة الإنسانية.

أما على المستوى الفلسفي؛ فقد وجه الكندي - أول فلاسفة الإسلام - نداء حارا إلى الإنسان، محذرا إياه من تتبع الخيرات الجزئية البسيطة، وإغفال سعادته الأخروية الكلية. وهكذا الحال بالنسبة إلى الماوردي الذي أكد أن الإنسان السعيد على الإطلاق، هو ذلك الذي قبل التكليف الإلهي وعمل به، مستشهدا بقول الشاعر: «وإني لا أرى السعادة جمع مال، ولكن التقي هو السعيد».

وبالمثل دعا ابن سبعين الإنسان إلى ضرورة الانتباه للسعادة القصوى، وعدم التغافل عنها إلى ما سواها، حيث قال «يا هذا! هل عُمْرُكَ إلا كلمح، أو إعطاء مكدٍّ، لا يسمح، وآصالك لهْوٌ وتمَلُّلْ، وأسْمارُكَ سهْوٌ وتعلُّل، وما سرورُكَ - إنْ صَدَرْ - إلا ساءَ وكَدَرْ، وما ذلك إلا لأنَّك لم تُحقّق ما وَجَبَ عليكَ؛ وهو الوصول إلى السعادةِ الحق». أما ابن طفيل فكان يرى السعادة في «دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود حتى يكون بحيث لا يعرض عنه طرفة عين، فالذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه نفسه وفنيت».

ولعل هذا هو ما دفع ابن باجه والشيرازي إلى التأكيد على أهمية عامل الدين في تحقيق السعادة؛ إذ يوضح الأول منهما أنه في حال استطاع المتوحد أن يتصل بالعقل الفعال، فإنه يستحيل ساعتئذ إلى نور من الأنوار يسبح الله مع الملائكة والنبيين! ويبين ثانيهما كيف أن السالك إلى ربه ينعم بالحضرة الإلهية وأنوارها، فتنكشف له الحقائق العليا، ويبقى في صحبة واجب الوجود سبحانه وتعالى.

على أن ابن باجه لم يعمد مطلقا إلى ربط السعادة بالدين ربطا مباشرا، وآية ذلك أنه لا يتحدث عن السعادة الأخروية في كتاباته، كما أنه سكت سكوتا مطبقا عن نظرية النبوة، فلم يشر لها لا من قريب ولا من بعيد، وذلك يعني أنه التزم بمنهجه كفيلسوف عندما تعرض لمسألة السعادة، فبحثها من الناحية الفلسفية ليس إلا. وفي الأحوال كلها؛ فإن فيلسوفنا لم يسلم - بسبب ذلك - من اتهامات معاصريه من الفقهاء الذين كانت لهم الكلمة الأولى بعد السلطان!! ويصور لنا المراكشي ما وصلوا إليه من نفوذ إبان عصر ابن باجه، حين يقول «إن الوالي علي بن يوسف بن تاشفين كان لا يقطع أمرا في جميع مملكته من دون مشاورتهم».

وقد شن هؤلاء حملة واسعة النطاق ضد كتابات أبي حامد الغزالي، وأملوا على ابن تاشفين أن يقضي بإحراق كتبه المنسوبة إلى الضلال!.. فأحرقت وهم لا يعرفون ما فيها!! أما بالنسبة إلى فيلسوفنا؛ فيحكي المقري أن العامة في الأندلس كانوا يطلقون لفظة «زنديق» على جميع من يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم! ونتيجة لذلك؛ فقد «قُيدت عليه أنفاسه»!! وهكذا ضاق الأمر بابن باجه، فعاش غريبا في وطنه ولم تكن حياته - على قصرها - سعيدة، وكثيرا ما تمنى الموت ليجد فيه الراحة الأخيرة، وما وصل إلينا من كتبه يدل دلالة واضحة على أنه لم يكن يأنس إلى عصره، ولا إلى بيئته التي ترعرع فيها.

* كاتب مصري