التمييز ضد المسلمين.. قراءة عقلانية في تقرير منظمة العفو الدولية

إميل أمين

TT

مرة جديدة يجد المرء نفسه أمام هذا الملف المشتعل، والذي لا يعلم إلا الله وحده منتهاه واستحقاقاته السلبية على حالة السلام العالمي، وهذه المرة الشهادة غير مجروحة، لا سيما أنها تجيء من منظمة دولية عريقة. حكما، نحن نشير إلى التقرير الأخير الذي صدر عن منظمة العفو الدولية والذي نددت فيه بالتمييز ضد المسلمين في أوروبا، واعتبرت أنهم يواجهون أحكاما مسبقة وتضيقات في مجال العمل في حال ارتدائهم للرموز الدينية، وناشدت الحكومات الأوروبية التصدي لهذا التمييز.

صباح الثلاثاء 24 أبريل (نيسان) المنصرم كان تقرير منظمة العفو الدولية يذهب إلى أن المسلمين في أوروبا يواجهون يوميا صورا نمطية وأحكاما مسبقة قاسية بشأنهم، وأنهم بحاجة إلى مزيد من المساعدة من قبل الحكومات ليقاوموها. والتقرير يتناول أوضاع المسلمين في عدد معين من الدول الأوروبية مثل هولندا وبلجيكا وفرنسا وسويسرا وإسبانيا، وجاء تحت عنوان «الخيارات والتحيز.. وتمييز ضد المسلمين في أوروبا».

ولعل المشهد الأولي الذي يلفت الانتباه في التقرير هو ذاك المرتبط بالزي الإسلامي، لا سيما الحجاب، وكيف أنه أضحى بالفعل عقبة في العثور على وظيفة، وبنفس القدر الرجال الذين يطلقون لحاهم. هذه الإشكاليات الظاهرية يضاف إليها إجراءات ربما تضحى جوهرية لتماسها مع أداء الشعائر الدينية، من عينة حظر بناء مساجد جديدة في بعض الدول، ورفض بناء المآذن لمساجد قائمة بعينها.. ما الذي تعنيه هذه التصرفات؟ بحسب المنظمة الدولية، فإنها تتعارض مع حرية التعبير، وحرية الأديان، وهي أمور لا تتواءم مع القوانين الغربية التي تحترم الحريات الدينية، لكن عندما يتم حرمان مسلمة من ارتداء ألبسة دينية أو ثقافية فإنه بذلك يتم حرمانها من الحق في حرية التعبير، ويصف التقرير الأمر على هذا النحو بأنه «ليس هو النهج الصحيح»، وفي ذلك انتقاد ضمني للأوضاع في فرنسا التي قامت بحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة.

ما هو أفضل توصيف لما يريد بعض الأوروبيين أن يروا المسلمين عليه في بلدان أوروبا؟ الجواب عند «ماركوبيروليني» المختص في قضايا التميز في المنظمة الحقوقية، والذي يرى أن: «هناك وجهة نظر منتشرة بشدة في كثير من الدول الأوروبية مفادها أن الإسلام مقبول طالما أن المسلمين غير ظاهرين كثيرا.. لماذا القبول على هذا الوجه السلبي تحديدا؟

يقول أحد مسلمي سويسرا: إنه «يتم تحميل المسلمين في أوروبا مسؤولية ما يحدث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تبعات».. هل في هذه العبارة القصيرة المفتاح لفهم أبعاد الآيديولوجيات العنصرية اليمينية في أوروبا الرافضة للحضور الإسلامي العلني بملامحه وسماته الشكلية والجوهرية؟

ربما تكون الإجابة مركبة غير بسيطة، بمعنى أنها من قسمين، الأول تاريخي زخمته أحداث جرت في ظروف معينة من الماضي، وأشعل النار من حولها رجال بأعينهم لا يغيبون عن ساحة الإسلاموفوبيا. والثاني حديث جرى ويجري منذ أقل من عامين فيما عرف بالربيع العربي، والذي رأت فيه دوائر أوروبية كثيرة تصاعدا إسلاميا راديكاليا لا ريب فيه، ويمكن أن يتصل بالوجود الإسلامي في أوروبا، مسببا اضطرابات سياسية وديموغرافية مستقبلا.. هل من المزيد من التفكيك للإشكاليتين؟

يطول الحديث عن الربط بين الأحداث التي شهدها الشرق الأوسط والعالم العربي منذ منتصف القرن العشرين تحديدا، وبين الإسلام، والإحياء الإسلامي، الذي اختزله البعض في إشكالية نمطية من طراز الإسلام ضد الغرب، كما يقرر ذلك البروفسور الأميركي الكاثوليكي «جون اسبوسيتو» في كتابه الشهير «التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة؟».

ومما لا شك فيه أن جواب السويسري المسلم المتقدم يلفت إلى ارتباط مفاهيم بعينها وبمطلقية المشهد في أذهان الأوروبيين على نحو خاص، ربما لقربهم الجغرافي، والتاريخي من العالمين العربي والإسلامي، منها على سبيل المثال «الحرب التي يشنها الإسلام ضد الحداثة»، الغضب الإسلامي، والتطرف الإسلامي، والتعصب الإسلامي، والإرهاب الإسلامي. وإذا نظرنا إلى واقع العلاقة بين رجل الشارع الأوروبي غير المتخصص أو الأكاديمي لوجدنا أن قناعة ما قد ترسخت لديه، وبخاصة منذ الثورة الإيرانية في أواخر السبعينات من القرن الماضي، مفادها أن الإسلام والغرب يسيران على طريق الصدام، والأخطر من ذلك القول: إن الإسلام يحمل تهديدا ثلاثيا، سياسيا، حضاريا، وسكانيا، وقد تم بلورة هذا الطرح الشعبوي في أطروحتين، ربما كانتا الأسوأ في تاريخ الكتابات التنظيرية بين الغرب والإسلام، الأولى المعروفة بـ«جذور الهياج المسلم» للمؤرخ الأميركي البريطاني الأصل برنارد لويس، والثانية الشهيرة بـ«صدام الحضارات» لصموئيل ب. هنتنغتون.

ماذا عن البعد الجديد الذي أذكى وأنمى مخاوف الأوروبيين ودعا بطريق مباشر أو غير مباشر لازدياد وتيرة التمييز ضد المسلمين في الغرب الأوروبي على نحو خاص؟ حكما أنها حركة «الربيع العربي» التي جرت في عدة دول عربية قريبة ومجاورة لأوروبا، والتي كما يراها غالبية الأوروبيين قد أطلقت المارد الأصولي الإسلامي من القمقم الذي جرى احتجازه فيه من قبل الأنظمة العلمانية السابقة، وهو مارد له من التأثير السلبي في نظرهم ما هو كفيل بتجاوز البحار والوصول إليهم إما آيديولوجيا، وهذه بالنسبة لهم كارثة ولا شك، وإما بشريا من خلال جحافل الهاربين من المعارك الطاحنة التي ستنشأ كما يحلل بعض مفكري اليمين الأوروبي من جراء تسيد هذا الفصيل لأبجديات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والفنية في بلدان «الشتاء الإسلامي». والشاهد أن مخاوف الأوروبيين من تصاعد حركات الإسلام السياسي تقع أيضا في خانة الخشية على أوضاعهم الاقتصادية التي ستتأثر سلبا ولا شك حال تفكير قطاعات عربية غير مسلمة تبلغ عدة ملايين في الهجرة نحوهم، بسبب الضغوطات التي يمكن أن تتعرض لها والحريات التي ستضيق عليهم، لا سيما في مجال حرية العبادات وأداء الشعائر والطقوس، بل والفنون والثقافات.

والحقيقة أن المشهد بات مختلطا وباتت عواقبه سيئة على علاقات الشرق بالغرب، والمسيحية بالإسلام، وقد استشرفت بعض المؤسسات الدينية الأوروبية الكبرى هذه القضية وفي مقدمتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ولهذا السبب كان في قلب ما عرف بـ«عقيدة الكنيسة الاجتماعية»، والتي صدرت في منتصف العقد المنصرم، الحديث عن واحدة من أهم القضايا وربما كانت أهم قضية وأكثرها مدعاة لخوف الأوروبيين من المسلمين والتميز ضدهم، وعدم الرغبة في ظهورهم إلى العلن، أي قضية الإرهاب. ترفض الوثيقة بداية تعبير «الإرهاب باسم الله»، وتعتبر ذلك تدنيسا وتجديفا على اسمه القدوس، فالإرهاب يجعل من الله تعالى وسيلة على غرار الإنسان لتحقيق أهدافه المجرمة.

وترى الوثيقة الفاتيكانية أن الصراع ضد الإرهابيين يقوم على احترام حقوق الإنسان ومبادئ دولة القانون، ومن هنا يجب تحديد المسؤولية بدقة لأن التهمة الجنائية شخصية وفردية، ولا يمكن رميها على الديانات والأمم والقوميات التي ينتمي إليها الإرهابيون.. هل يفهم من هذا المنطوق إشارة ما تنسحب تحديدا على العالم الإسلامي عامة وعلى مسلمي أوروبا خاصة؟ مؤكدا أن ذلك كذلك، وبخاصة أنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أضحى كل مسلم في أوروبا وأميركا إرهابيا أو مشروع إرهابي، ولهذا السبب كان تقرير منظمة العفو الدولية يشدد على الدور الذي يجب على الحكومات الأوروبية أن تقوم به في مكافحة المفاهيم السلبية التي أضحت تؤثر سلبا على السلام الاجتماعي الأوروبي.

وفي إدانة واضحة للنهج الأميركي الذي ساد طوال سنوات حكم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، أي وقت صدور الوثيقة، كانت مفردات المؤسسة الكاثوليكية تعتبر أن «التعاون الدولي لمناهضة الإرهاب لا يمكن حصره فقط في العمليات القمعية والعقابية، بل بالبحث عن الأسباب التي كانت وراء الهجمات الإرهابية لتلافيها من أجل تحقيق السلام في العالم بأسره».

العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، كما تعلمنا قوانين الاقتصاد، هل للسبب عينه تتنامى الدعوات الزاعقة وترتفع الرايات الفاقعة في مواجهة وثائق مؤسسة دينية وصفها البعض ذات مرة بأنها «قلب التاريخ النابض». الشاهد أيضا أن هناك مؤسسات أخرى أوروبية، لم تتوقف أمام دعاة الكراهية، وحاولت قراءة ما وراء مشهد «النقد المتطرف للإسلام، والخوف المرضي من المسلمين في أوروبا». في أواخر فبراير (شباط) الماضي كانت مؤسسة «أويغن بيزر» الألمانية التابعة للأكاديمية الإنجيلية في توتسينغ تعقد ندوة حول ذلك الموضع الهام، وقد ساد إجماع بين المشاركين حول ضرورة أن تواجه السياسة والمجتمع الهجمات التي تستهدف المسلمين وتشوه سمعتهم.

في تقرير مفصل نشره موقع «قنطرة» لـ«كلاوديا منده»، تشير فيه إلى مدى الخطورة التي باتت تمثلها جماعات وأحزاب بعينها من عينة «الحرية»، «من أجل الحركة»، «الحركة التي يقوم بها مواطنون تحت شعار (باكس أوروبا)» على سلامة وتماسك المجتمع وتضامنه، وكيف أنها باتت ترسم صورة مرعبة لما يسمونه «أسلمة أوروبا» وجميعها لا تنظر إلى الإسلام باعتباره دينا، بل تتهمه بأنه آيديولوجيا شمولية وعنيفة.

على أن في التقرير ما يلفت إلى ازدواجية غربية معتادة.. كيف ذلك؟ يتحدث الباحث في شؤون معاداة السامية «فولفغانغ بينيتس» من منطلق أن النقد الموجه للمسلمين هو صورة نمطية شائعة مثلما كان الحال في النقد المعادي للسامية الذي كان يوجه لليهود ويتجلى ذلك مثلا في الاتهام المبطن بأن الإسلام يسعى إلى السيطرة على العالم، وأن مثل هذه التعميمات تمثل الأركان الأساسية للصور النمطية واختزال الآخر في صور سلبية واستخدام الشائعات والاتهامات الملفقة. ومع إقرارنا بصواب رؤية السيد فولفغانغ إلا أن علامة الاستفهام التي ترتسم في الأفق.. هل الأوروبيون راغبون في مواجهة هذه المعاداة الجديدة أو اللاسامية الوليدة ضد الإسلام والمسلمين؟

الشاهد أن العدالة تقتضي حق كل إنسان في أي بقعة من الأرض في أن يعيش حريته وكرامته، وأن يباشر عقيدته دون ضغوط أو إرهاب، ومن دون تمييز يسد عليه مناحي الحياة أو سبل الرزق، وفي هذا الإطار وجدت في أوروبا القوانين التي تجرم معاداة السامية، وتقضي بأحكام رادعة ضد مرتكبيها فهل سنرى عما قريب مواقف مماثلة لتجريم ازدراء الإسلام في أوروبا؟

يخشى المرء في واقع الحال أن تكون العلمانية المسطحة والتيارات الأوروبية التاريخية الضاربة في عداوتها وكراهيتها للأديان سببا لأن نصحو ذات يوم قريب ونجد الازدراء والتمييز يطال المسيحية هناك، وهذا ما تشكى منه بالفعل مؤخرا بابا الفاتيكان ودوائر كاثوليكية كثيرة، وساعتها سيردد الجميع العبارة الشهرة «أكلت يوم أكل الثور الأبيض»، من جراء التحالف البغيض بين العنصرية والعلمانية الجوفاء.

هل العالم حقا على أبواب «هياج إسلامي» أم «صراع حضارات؟». نبوءات مكذوبة، ولكن من أسف يخشى المرء أن تكون في طريقها لتحقيق ذاتها بذاتها، إذا لم يستدع العقلاء العقل، ويحكم الحكماء الحكمة في المشهد الدولي الآني الملتبس.

* كاتب مصري