عقائد الهوية: هل تصلح مسلكا للسلطة؟

رضوان السيد

TT

يصعب التنبؤ سلفا بمزاج هذه الفئة أو تلك من فئات الجمهور، وبخاصة في زمن الثورات. بيد أن «الصراع على السلطة»، بالمعنى العام، يقسم الجمهور وفئاته إلى اتجاهات كبرى، لا يؤثر فيها تقلب الأمزجة إلى حد بعيد. ولكي يكون واضحا ما نقصده نرى أن نتابع مصائر شعار «تطبيق الشريعة» عبر عام في مصر، أي منذ الاستفتاء على الإعلان الدستوري، وحتى انتخابات الرئاسة التي تجري الأسبوع القادم. فقد صار هذا الشعار عقيدة لدى الإسلاميين في المرحلة الماضية منذ السبعينات من القرن العشرين. وما كان واضحا ما هو المقصود به، لكن المنظرين كانوا يذكرون أمرين: الشريعة في مواجهة القوانين المدنية، ونظام الحكم الإسلامي في مواجهة الأنظمة الآتية من الغرب. وبذلك فقد صارت هذه الآيديولوجيا من محددات الهوية، أو من هو إسلامي، ومن هو غير إسلامي. وما اعتبر الإسلاميون أن النظام استجاب لهم بإضافة مادة في الدستور عام 1979 فصار النص: الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع. فقد كانوا يجيبون على كل تساؤل: هذه المادة، فأين تطبيقها؟! إنما لأن النظام السابق هو الذي وضع المادة في الدستور؛ فإن «الصراع الآيديولوجي» ما كان معه بالدرجة الأولى، بل مع من صاروا يعرفون بالعلمانيين والليبراليين، وفي جدالات كانت شديدة الإحراج للطرفين: فالإسلامي ما عاد بوسعه مجادلة النظام بالاحتكام إلى الديمقراطية، لأن الشعب فيها مصدر السلطات، وعند الإسلامي الشريعة هي المرجع. والليبرالي راح يجادل الإسلامي في ضرورات الديمقراطية، فبدا كأن الإسلاميين وليس النظام هم الذين يحولون دون تطبيقها! وقد طور الإسلاميون في الثمانينات والتسعينات ممارسات شاركوا من خلالها في منظمات المجتمع المدني، والحياة العامة من طريق الانتخاب، دون كثير من الكلام حول المرجعية أو المصدر، فاعتنقوا بذلك نوعا من التوفيقية أو التلاؤم، وإن ظل الأمر جامدا في مكان ما، ويبدو ذلك في طرح شعار: الإسلام هو الحل، في الانتخابات قبل الثورة وبعدها.

وبالوسع القول إن الموضوع تغير تماما منذ بدايات الثورة. فالشبان المدنيون - من أبناء وبنات الطبقة الوسطى - هم الذين بدأوا الثورة، وحددوا شعاراتها وهي الحرية والكرامة والعدالة والتداول على السلطة. وعندما دخل الإسلاميون ما استطاعوا الإعراض عن هذه الشعارات أو الإضافة عليها. لكنهم رأوا في الإعلان الدستوري فرصة للتغيير ثم اختلفوا مع المجلس العسكري على صلاحيات مجلس الشعب، وعلى اللجنة التأسيسية للدستور وعلى الحق في سحب الثقة من الحكومة، فاتجهوا لتحدي المجلس بترشيح اثنين بدلا من واحد لرئاسة الجمهورية عكس ما سبق أن تعهدوا به، فكانت النتيجة أن وجدوا أنفسهم منفردين، لأن السلفيين مالوا لدعم مرشحين آخرين في الرئاسة مما اعتبره الإخوان خيانة! إن الفاصل وذا الدلالة هو ما آل إليه ملف أو مطلب «تطبيق الشريعة». فالمرشحان عمرو موسى وأحمد شفيق يريان أن المادة الواردة في الدستور كافية لإيضاح هوية الدولة بلا زيادة ولا نقصان. أما عبد المنعم أبو الفتوح - وهو الإخواني السابق والمنشق - فيميل إلى التهرب من السؤال، لكنه اضطر في مناظرته مع عمرو موسى إلى القول بتطبيق الشريعة، وأراد إحراج خصمه بأن طلب منه إيضاح معنى أن الشريعة مصدر رئيسي في التشريع. لكنه مصر على الدولة المدنية والديمقراطية التعددية. وهكذا لا يبقى حاملا للشعار دون تحول غير مرشح الإخوان للرئاسة، والذي يصر على تطبيق الشريعة، وعلى أن الإسلام هو الحل. بيد أن ما كان مدعاة أو مبعثا للتحدي في مجال التنافس على أصوات الناخبين أيام مبارك، صار مدعاة للإحراج، ويقتضي إيضاحات كثيرة سرعان ما تحرجه على أي معنى سباق. فهناك من يقول بأن المصريين مسلمون مكتملو الإسلام، ولا داعي للتشكيك في إيمانهم وإسلامهم بأي ذريعة. ولذا لا بد من إسقاط هذا الملف وتلافيه، لأنه مسيء للإسلام والمسلمين. وما كانت المشكلة مع الأنظمة مشكلة دينية، بل هي مشكلات إدارة الشأن العام، وقد حصلت الثورات، ولا تحل المشكلات بالشعارات الدينية أو المدنية؛ بل لا بد من العمل السياسي المثمر والبناء. ويمكن الإفادة من أخلاق الدين في العمل السياسي، لكن ليس أكثر. وهناك من يقول إن الإسلام السياسي، باستخدامه للدين في الممارسة السياسية، إنما يدخل الدين في بطن الدولة، وقد تتمكن من طحنه وشرذمته. وقد قال الشيخ محمد حسان، أحد كبار شيوخ السلفية بمصر إنه نادم على الدخول في العمل السياسي. وذلك لسببين: الصراع الذي نشب بين الإخوان والسلفيين، بحيث صار يكفر بعضهم بعضا. والسبب الثاني الانقسام بداخل السلفيين وهو يتزايد بسبب الصراع على السلطة والمغانم. وتابع السيد محمد حسان بأنه لا بد من الفصل بين العمل الدعوي والآخر السياسي، أو تجري الإساءة إلى ديننا إساءة بالغة. وكنت قد سمعت كلاما بالمعنى نفسه من ناجح إبراهيم منظر الجماعة الإسلامية، والذي أجرى مراجعات في النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين.

ما معنى هذا كله؟ معناه أن ثقافة الهوية استنفدت رصيدها منذ بدايات الثورات. إذ ما عادت هناك وجوه ضغط واضطهاد على الهوية ورموزها، وكل يستطيع التعبير عن نفسه بالطريقة التي يجدها ملائمة. إنما من ناحية أخرى هناك نوافر، شذبها الخطاب الحر وهذبها بحيث اختفت أو كادت. فثقافة الهوية هي ثقافة تأزم وتحشد واستنفار. لكنها تبقى كذلك، أو تنخفض وتيرتها إذا جرت الملاءمة بين تلك الرموز والوقائع على الأرض، وما عاد كل شيء واقعا تحت طائلة الحرام الديني أو السياسي. وقد تمكن الإسلاميون في المرحلة الماضية من استخدام الدين بقوة، لأنه كان حراما. وما عاد الأمر على هذا النحو اليوم. وها هو الشيخ محمد حسان، والسلفيون داخلون على العمل السياسي حديثا، يشعر بمدى الضرر الذي نزل بالدين نتيجة استخدام رموزه في الصراع على السلطة. وما يحس به شيخ السلفية، سبق أن أحس به كبار الدعاة الإنجيليين الجدد بالولايات المتحدة. فقد دأب هؤلاء على التدخل في العمل السياسي منذ السبعينات من القرن الماضي، وذلك لكسب التأييد لبرنامجهم الديني والأخلاقي مثل منع الإجهاض والتصدي لحقوق المثليين والتعليم الديني بالمدارس. ومن طريق هذا المسعى حصلوا على مقاعد في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وساعدوا في إيصال عدة رؤساء إلى السلطة. لكنهم ومنذ عدة سنوات صاروا يشعرون بأنه مهما تقدم نفوذهم السياسي؛ فإن الدعوة الدينية يحدث لها العكس. فقد شعرت الفئات الشابة أن الدين قد تسيس وتحزب، فسارعت للابتعاد عنه. ولذلك أقبل هؤلاء على الطلب من أتباعهم وكنائسهم أن يدعوا السياسة ويعودوا للدعوة، بسبب خوفهم على مصائر الدين. وها هم الإخوان المسلمون المصريون يضربون المثل للأمر ذاته. فقد كسبوا في الاستفتاء على الإعلان الدستوري، وفي انتخابات مجلسي النواب والشورى. إنما عندما أرادوا الاستئثار بلجنة كتابة الدستور وبالحكومة والرئاسة؛ فإن الناس أعرضوا عنهم، وبرز خصومهم في الاستطلاعات الشعبية، وسيطرت في وسائل الإعلام الأصوات الحاملة عليهم. وقد سمعت معلقا شهيرا يقول: ما عدت أرى معنى لتطبيق الشريعة غير سيطرة الإخوان على كل شيء باسم الدين! لقد كانت لثقافة الهوية وعقائدها أزمان ماجدة. فقد سيطرت في البداية ثقافة الخصوصية القومية ورموزها ردا على السيطرة الاستعمارية. وعندما خسرت تلك الخصوصيات، حلت محلها رموز الهوية الإسلامية تحت اسم الخلافة أو النظام الإسلامي أو تطبيق الشريعة. وبذلك فقد كان المزاج العام يواجه بالرموز المطلقة أنظمة الحكم المطلقة. ثم دخل زمان ثالث لا تصلح فيه الخصوصيات القومية أو الدينية. بيد أن الإسلاميين لا يعرفون إلا هذه البضاعة. وقد زاد ذلك في شعبيتهم في البداية، لأن الناس ما كانوا قد تعودوا على هذه الحرية الجديدة، وهذا الإقدار. إنما ما صمد الزمن الماضي في الزمن الجديد غير شهور قليلة وارتد عكسيا على حملته. وبغض النظر عن صحة هذا الشعار أو ذاك؛ فإن الأفضل لديننا وأخلاقنا أن لا ينال منها التسييس والصراع على السلطة.