في ضرورة الاجتماع ومقوماته

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في سياق بحث فلاسفة ومتصوفة الإسلام لمسألة السعادة يبدو التأكيد على ضرورة الاجتماع البشري من أجل تحققها كما لو كان بديهية تعبر في جوهرها عن الفطرة الإنسانية التي خلق الله الناس عليها. ومن المعلوم أنّ فلاسفة الإسلام قد تأثروا في ذلك برافدين فكريين عميقين: أولهما التراث الفلسفي اليوناني، ممثلا في أقوال الفلاسفة ومؤلفاتهم التي أكدوا فيها ضرورة الاجتماع البشري وحاجة الإنسانية للمشاركة الوجدانية وصولا إلى تحقيق السعادة القصوى ومجتمعات الفضيلة. ثانيهما الأثر الإسلامي ممثلا في القرآن والسنة.

ففي القرآن الكريم تتواتر آيات كثيرة للحديث عن هذه الحاجة، كقوله تعالى «وخلق الإنسان ضعيفا»، أي بحاجة دائمة إلى عون الآخرين. كما أكدت آيات القرآن الكريم أيضا على ضرورة التعارف والتآلف بين مختلف الشعوب والقبائل: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، وحثت كذلك على ضرورة وأهمية التعاون: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»، ونصت على حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم، فأوجبت على المسلم أن يتعامل معهم بلين ورفق، وألا يحول دين الآخر دون تحري القسط والعدالة: «أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».

أما الأحاديث النبوية، فقد أكدت بدورها ضرورة أن يكون المؤمنون «كالبنيان الواحد»، وأن تكون الأمة كالجسد الواحد «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن تتوافق أقوال فلاسفة الإسلام مع مضامين العنصرين السابقين. فابن باجة - على سبيل المثال - لم يطلب من متوحده الانعزال عن المجتمع الفاسد كلية؛ لأن ذلك شر بالذات، وإنما دعاه إلى ضرب من العزلة الفكرية - على وجه الكراهة - وهذا لا يعد شرا؛ لأنه بالعرض، آخذ بعين الاعتبار حقيقة أن فطرة كل إنسان تربطه بالآخرين وتدعوه إلى الاجتماع بهم.

وفي السياق ذاته، ينقل أبو الحسن العامري على لسان أفلاطون قوله: إن كل واحد من الناس لا يفي بتمام ما يحتاج إليه في بقائه، ولذلك يحتاج إلى معاونة أبناء جنسه له فيه، كما يحتاجون إلى مثل ذلك منه؛ فكان الاجتماع والمشاركة، واتخذت القرى والمدن. كما ينقل على لسان أرسطو قوله: إن الانبعاث إلى الشراكة المدنية ضروري بالطبع؛ ولذلك نقول إن الإنسان حي مدني بالطبع، وإن الذي لا يمكنه أن يشاركه هذه الشراكة لشقي!! ويتابع أرسطو التأكيد على عدم إمكانية أن يعيش إنسان ما خارج المجتمع المدني؛ إلا أن يكون أحد أمرين: إما أن تمتنع عنه آدميته، بمعنى أن يصبح «بهيمة»!!، وإما أن تمتنع عنه آدميته بأن يكون «إلها»!! بحيث لا يفتقر إلى شيء من الأشياء التي يفتقر إليها الإنسان!! لقد أخذ ابن باجة على عاتقه مهمة مساعدة متوحده، وعلى الرغم من توجيه النصيحة له باعتزال الناس؛ فإنه كان يؤمن في قرارة نفسه بأن الاعتزال كلية ليس أمرا طبيعيا بالنسبة للبشر، بل هو شر كله، ولكن الاعتزال بالعرض قد يكون خيرا للبعض.

ولأجل أن يثبت فيلسوفنا صحة كلامه هذا يعمد إلى التشبيه والتمثيل، فالخبز واللحم نافعان بالطبع، والأفيون والحنظل سامان بالطبع، ولكن قد يكون للجسد حالات غير طبيعية، ينفع فيها الأخير بخلاف الأول، وهكذا حال المدن واجتماعاتها!! فالإعراض عن الناس «مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط»، أي وسطا بين هذا وذاك فتتم لك السعادة! وعلى ما يبدو؛ فإن معاناة فيلسوفنا لم تقتصر على الناحية السياسية فحسب؛ وإنما تعدتها إلى الجانب الاجتماعي! فقد عج المجتمع الأندلسي في عصره بالكثير من الأجناس البشرية التي لم تتعايش بصورة جيدة! وقد أسهم ذلك في خلق تفاوت ثقافي واجتماعي خطير ارتبط بالنواحي الطبقية!! ولا شك أن هذا التفاوت الاجتماعي أضعف السياسة والأخلاق، كما كان لهذا الجو الاجتماعي، بتناقضاته الحادة، أثر سلبي في نفس ابن باجة وفي فكره معا.

وفي المحصلة؛ يمكن القول إن مدنية الإنسان وحاجته للاجتماع لم تخف على فيلسوفنا، كما أن إحساسه بالغربة كان يتأتى من عدم فاعلية البيئة المحيطة به من حوله!! ويكفي أن نعلم أن إحساسا كهذا يحيل الوجود جحيما بالنسبة إلى النفوس العاقلة المفكرة، وهنالك يشعر المرء كما لو أن العالم كله لم يعمل حسابا لوجوده، هذا «المولود الرجيم»، على حد تعبير بودلير، وينتابه الإحساس بالغربة حتى وهو في محتشد من الناس بين أهله وذويه!! وكما لاحظ جوتة بحق؛ فإنه: «ليس ثمة عقاب أقسى على المرء من أن يعيش في الجنة بمفرده»!! وإذا كانت القريحة تتكون في الخلوة؛ فإن الخلق يتكون في تيار العالم! ويتابع: «إنه لا يفزع من الناس إلا من لا يعرفهم، ومن يهجرهم سرعان ما يسيء معرفتهم! فاعتزال الآخرين كلية - لو افترضنا إمكانية تحققه - يمثل بنظر فيلسوفنا ضربا من المرض العقلي، أو الانتحار الميتافيزيقي!! كما أن إحساس المرء بالسعادة الجماعية يتبدى في مظاهر عدة في مقدمتها الإحساس بروابط الحب والصداقة، ولعل ذلك هو ما دفع بمسكويه لأن يعد الصداقة لونا من ألوان المحبة.

أضف إلى ذلك أيضا؛ أن العلاقة التي أرادها ابن باجة لجماعة المتوحدين تجسد بحد ذاتها ضربا من الارتباط الفكري الذي يتجلى على نحو معين من الصداقة التي تغذوها المحبة! والصداقة، بحسب الفارابي، تعني «مجالسة ومخالطة ومحاورة من تحب». أما التوحيدي؛ فتمثل الصداقة بالنسبة إليه رابطة تسمو على مقتضيات الحاجة، وتدخل في إطار عقلي بحكم أنها أذهب من مسالك العقل وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازع الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة!! ولا شك أن ارتباط السعادة بالاجتماع البشري يعود بدوره إلى ارتباطها بالإنسان نشأة وسيرورة وغاية. فالسعادة - بحكم طبيعتها - مطلب إنساني أولا وآخرا. ولذلك نجد أن الإنسان أكثر الكائنات عناية بسعادته، وأحيانا بسعادة غيره من أفراد جنسه، وبالتالي سعادة المجتمع الذي يعيش فيه. وهذا يتطلب رؤية سلوكية أخلاقية عملية من جهة، ورؤية نظرية تأملية من جهة أخرى. وبمعنى آخر، جاء موضوع السعادة مرتبطا بالفضائل العملية والفضائل النظرية كما يعبر عن ذلك الفلاسفة.

ومفهوم بداهة؛ أن هذه الفضائل النظرية والعملية يتصف بها الإنسان دون غيره من الكائنات. ومن هنا كان انشغال فلاسفة الإسلام جميعا بمسألة السعادة الإنسانية وتنوع طرائق دراستهم لها: فمنهم من درسها في إطارها الفلسفي العقلي التأملي، كما هو الحال بالنسبة إلى ابن باجة، ومنهم من درسها ضمن إطارها الأخلاقي الجمالي، ومنهم من درسها في إطارها الصوفي العرفاني، وثمة من حاول الربط بين كلا الإطارين: الصوفي والفلسفي، كما هو الحال بالنسبة إلى صدر الدين الشيرازي.

ويبقى القول: إنه على الرغم من اختلاف المناهج أو الأطر التي تدرس فيها السعادة؛ فإن المسألة الإنسانية تبقى مشتركة. فأيا ما كانت وجهة الفيلسوف: صوفية وجدانية، أو عقلية تأملية، فإنه يبقى مع ذلك معنيا بالإنسان: ما الذي يجعله شاعرا بالشقاء دون باقي الموجودات؟ وفيم التألم والبكاء؟ وما الذي يضفي البهجة على قلبه فيشتغل عقله وروحه وتنتشي إحساساته؟! أهو الحب أم اللذة؟ وإذا كان الحب، فحب من؟ أهو حب المادة ممثلة في إشباع رغبات البدن؟ أم حب الله والقيم؟! وقد دفع ذلك البعض لأن يطلقوا على فلسفة ابن باجة اسم: علم الإنسان؛ لأن ما تناوله فيها يدور معظمه حول مواضيع هذا العلم خاصة. فمتوحد ابن باجة إنسان روحاني مهمته الجوهرية مهمة عقلية، وقد استتبع النظر في حال هذا الغريب المتوحد من فيلسوفنا الفحص عن أنواع أفعاله وبواعثها، خاصة تلك التي تفضي به إلى الاتصال بالعقل الفعال، وبلوغ مرتبته وصولا إلى البقاء السرمدي الخالد. فهذا الإنسان الروحاني وحده ينعم بالسعادة الحقة، أما نظيره الجسماني؛ فينغمس في اللذات الجسدية إلى حد لا يستطيع معه أن يطمح إلى ما وراءها!! والملاحظ في حديث ابن باجة عن الإنسان؛ أنه لا يقتصر على الفرد من أمة الإسلام، وإنما يطلق اللفظ على العموم، فسعادة الإنسان أيا كان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو عقيدته كانت مطلب الفلاسفة دائما في كل زمان ومكان، خاصة أن النزعة الإنسانية تكاد تشمل مؤلفاتهم كافة، وأن اهتمامهم لم يكن مقصورا بحال من الأحوال على البحث عن سعادة مجتمع بعينه؛ ولذلك تخلو المدينة الفاضلة، أو الكاملة، من ذكر الزمان أو المكان، وكل ما هنالك: أمة فاضلة، يحكمها رئيس فاضل، أي إنسان يمثل بحق الكلمة النهائية لكل فلسفة حقة تقوم على نبل الغاية، وسلامة الوسيلة، وصدق العزيمة!!

* كاتب مصري