شتيفان فايدنر.. دعوة أوروبية لفهم العقلية الإسلامية

إميل أمين

TT

في وسط أجواء الشكوك المتبادلة التي باتت تخيم على العلاقة بين أوروبا تحديدا والعالمين العربي والإسلامي، تظهر بين الفينة والأخرى وجوه تحمل وعن جدارة لقب «شهود غير مجروحة شهادتهم»، من نوعية أولئك المفكرين الذين يسعون إلى الاتفاق في زمن الافتراق.

من بين هؤلاء الذين يشاركون في الحياة الفكرية والحوارية في القارة الأوروبية يأتي الحديث عن شتيفان فايدنر «الكاتب والناقد والمترجم الألماني، ورئيس تحرير مجلة (فكر وفن)».

والشاهد أن تصاعد الأحداث في أوروبا مؤخرا، والتقارير الدولية الصادرة عن أوضاع العرب والمسلمين هناك، عطفا على ردود الفعل تجاه الربيع العربي، جميعها قد استدعت إعادة قراءة لأحدث مؤلفات فايدنر «ثورة العقل.. نقاشات حول الإسلام والعالم الإسلامي».

ولعل الأهمية الخاصة لهذا العمل تنطلق من أنه يشمل رؤى وكتابات وتحليلات تقع في الفترة ما بين الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ذاك الموعد الذي يراه البعض مفصليا في علاقة العالم الغربي بالإسلام والمسلمين، وبين انطلاق حركات الربيع العربي.

والشاهد أن كتابات فايدنر تتماس مع قضايا الساعة على صعيد القارة الأوروبية مثل الإعلام الموجه وحركاته المعادية للوجود الإسلامي هناك، وتاريخ الحضور العربي في ألمانيا، لا سيما بالنسبة للأدباء والمفكرين والناشرين، فضلا عن تحليلاته المهمة والنقدية لأحدث ترجمة لمعاني القران الكريم، صدرت في اللغة الألمانية وأنجزها أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة ارلانغن: «البروفيسور هارتموت بوبتسين».

ومع ذلك فإن أهمية كتابه المشار إليه سلفا تنبع من إشكاليتين أولاهما سعيه التوافقي إلى تصحيح صورة مغلوطة عن الإسلام، تأثرت كثيرا وطويلا بالصيغ النمطية والتبسيطات التراثية المجتزأة.

والثانية حول مشروعية وضرورة النقد الموجه للإسلام كدين قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبعده كظاهرة يختلط فيها السياسي بالديني.

هل يتوجب علينا والحال هذه أن نتساءل عن المسببات الرئيسة تاريخيا على الأقل، لتقديم صورة نمطية اجترارية عن الإسلام والمسلمين في أوروبا؟

هناك الكثير جدا من الحبر الذي سال على الأوراق في هذا المجال، غير أن كتابات العالمية الألمانية الدكتورة «زيغريد هونكي» تبقى رائدة في هذا السياق وعندها أبدا ودوما أن: «الأحكام المسبقة والآراء السابقة الثابتة، تعوق بل تجعل التفاهم بين الشعوب مستحيلا وتعمق البغض والكراهية».

هل من جنسيات أوروبية أخرى تذهب هذا المذهب؟

حتما ولا شك، خذ إليك ما سطره عالم التاريخ الفرنسي الشهير رومان رولاند Romain Rolland فيما يتعلق بالعلاقات بين أوروبا والعالمين العربي والإسلامي، إذ يؤكد على أنه: «لا يوجد ما يشوب العلاقات بين الشعوب أكثر ما هو الحال بين أوروبا والعالم العربي، وذلك عبر عدة قرون».

ويقر بأن «علاقتنا بالعرب والمسلمين هي أكثر تعقيدا وأعمق كراهية، بعكس علاقاتنا مع شعوب أخرى بعيدة وغريبة عنا وذات ديانات أخرى».. كيف إذن لشتيفان فايدنر المعاصر أن يجابه هذا الانسداد التاريخي في العلاقة بين الغرب والإسلام لا سيما في مثل هذا التوقيت الحساس؟

لعل علامة الاستفهام الأولى الواردة في الفصل الأول من الكتاب «هل الإسلام قالب جامد أم فكر نابض» لهي كفيلة بأن تغير حال تغيرها على الأرض أفكار ورؤى متحجرة في عالم الثقافات والأديان الأوروبية، انطلاقا من أن القوالب الفكرية المتكلسة لا يمكن للأذهان التعاطي معها، في حين تبقى الأفكار المرنة مجالا للتكيف والتعديل والتبديل بما يلائم احتياجات كل عصر ومصر.

والثابت أن غالبية الأفكار السائدة اليوم في أوروبا، لا ترى في الإسلام إلا قالبا جامدا، وفي تضمينات ذاك القالب حدث ولا حرج عن اتهامات تكال من عينة الاستبداد، والمعاداة للديمقراطية، وعدم انسجام الدولة الغربية بحداثتها ومحدثيها والمتسمة بالتعددية مع الرؤية الأحادية التوجه التي يلزم بها الإسلام كمنهج حياتي المسلمين كتابعين له كإيديولوجية، والمؤمنين به كعقيدة لاحقا.

هل يريد القارئ بعض الأمثلة عن تلك الأفكار النمطية والمقولبة التي لا تزال تشكل عقلية الأوروبيين حتى الساعة.

ما على المرء سوى الرجوع إلى كتاب Allah ist ganz anders «الله ليس كما تروجون» للدكتورة هونكي، وفيه كشف للنقاب عن ألف حكم وحكم مسبق عن العرب والمسلمين، وجلها ساري المفعول حتى الساعة، ومعها لا يضحى غريبا أن تنادي بعض الأصوات اليمينية في أوروبا اليوم بالحاجة إلى «شارل مارتل» أوروبي معاصر، استنادا إلى الرواية التاريخية التي ترى في الرجل السد المنيع الذي أوقف عام 732 عند بواتييه جحافل المسلمين.

وتقول الفيلسوفة الألمانية إنه في 16 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1982، وبمناسبة مرور ما يزيد على ألف عام على معركة بواتييه، كان النص الذي يتوجب على تلاميذ المدارس هناك قراءته هو كالتالي: «يا لهول هذا التصور، قدر كبير من الكرة الأرضية كان مهددا أن يخضع لعرق سام غريب، بلادنا كانت معرضة لجحافل محاربين ذوي لون أسود، بسيوفهم المشهرة يحرقون الأخضر واليابس، بحوافر خيولهم..».

حكما يبقى من الطبيعي ما نراه، وغير الطبيعي أن يقوم مفكر ألماني مثل فايدنر بنقد النقد الموجه للإسلام والمسلمين، وحتى إن صعب عليه اختراق ملفات التاريخ العدائي المتبادل، فإنه يحلل ويفكك خطابات معاصرين من ذات المدرسة، مدرسة الإسلاموفوبيا.

فعلى سبيل المثال يرى هنتنغتون في تقسيمته المانوية لصراع الحضارات حتمية تصارع الإسلام في أي بقعة يوجد بها حول العالم مع غيره من الأديان، مما يقود لاحقا ولا شك إلى إذكاء روح صدام الحضارات.

هذا الحديث ينكره فايدنر، انطلاقا من إهمال هنتنغتون لمكون من أهم مكونات التحليل والاستشراف المستقبلي، أي عامل التاريخ وشروطه، وكيفية تغير ملامح الأديان، لا جوهرها، ومظهرها لا مخبرها، بمرور الزمن، وعنده كما أن المسيحية مرت بمراحل تطور فكري وعقائدي واجتماعي مختلفة، فإن الإسلام لم يبق في الألف والأربعمائة عام من تاريخه بلا تغير.

ومن بين أهم القضايا التي يتصدى لها فايدنر تلك الجدلية التي يدعيها البعض حول العلاقة بين الإسلام والتنوير وهل الاثنان ضدان لا يتلقيان، وأن العرب والمسلمين فاقدو الاستنارة منذ بواكير فتوحاتهم وحتى الساعة كما تعتقد العقول الأوروبية أو جلها.

هل من تأصيل ما لهذه المعضلة الذهنية الراسخة في عقول الأوروبيين تنويريين وعوام؟

نعم والأمر يعود إلى قرون بعيدة تم التأكيد عبرها على أن العرب دعاة ظلامية، فهم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية ودمروا بذلك تراثا بشريا غاليا يتألف من سبعمائة ألف مخطوط وكتاب من تراث الحضارة الإنسانية، الفرعونية، فالهلينية، ثم القبطية... لماذا فعل المسلمون ذلك؟

الجواب الذي يلقن للباحثين والدارسين.. فعل المسلمون ذلك لأن الكتب والمخطوطات كانت تحوي على غير ما ورد في كتاب الكتب (القرآن) كما ادعوا ورأوا أنه لا نفع منها، ولا هناك حاجة تدعو للحفاظ عليها لتعارضها مع القران، ولا بد من إتلافها حيث إنه حسب التعاليم الإسلامية لا يسمح إلا بوجود كتاب واحد هو كتاب الله «القرآن».

ورغم النقد الموجه لهذه الرواية، وما كشف عنه مرارا وتكرارا كما يذهب البعض من المؤرخين والعلماء، فإنه يعاد التمسك بهذه الرواية، وإنتاجها بأشكال متباينة، والحرص على بقائها في الذاكرة، الأمر الذي يعزز فرضية أن كل عربي ظلامي، وربما إرهابي، كاره للتنوير ويعمل في خط واتجاه مضاد.

يرفض فايدنر اختزال التنوير في فكرة نقد الدين فقط، حتى يكون أداة في صراع الحضارات المغايرة ضد الإسلام، ويرى أن هذه المنهجية لها عواقب وخيمة تتلخص في نتيجة واحدة وهي أن الدين الإسلامي هو المقابل المضاد للتنوير وفي أحسن الأحوال لا يخالطه.. هل من نتائج أو تبعات تترتب على هذا الاستنتاج الإسلاموفوبي السلبي؟

الجواب يعود بنا إلى دائرة الصراع الأوسع، صراع الرجل الأبيض الإمبريالي ضد شعوب الأرض، والتي أوكلته العناية الربانية - زيفا وزورا - مهمة تحديثها وتحضرها وتنميتها، ثم تطويرها لتصل إلى درجة الرقي الإنساني.

وبناء عليه فإن المسلمين منعدمي التنوير، قصر في مسيرة الحضارة والفهم والإدراك، ولهذا فإن هناك حاجة ماسة إلى من يقودهم، أي إلى مرشد أو ولي أمر، وهو المنطق الذي استندت عليه كافة القوى الاستعمارية الأوروبية في القرون الماضية، ومن أسف يبدو أن الأميركيين قد اقتبسوا الدرس المظلم من الأوروبيين، وباتت الوصاية اليوم أميركية ولو بمشاركة أوروبية، ما تجلى بأقبح صورة في أفغانستان ثم العراق، وعليه يخلص شتيفان فايدنر للقول: «إن من يجعل الغرب ووضعه الذاتي بلا مساءلة رديفا للتنوير، يتناس بالإضافة إلى ذلك تاريخ أوروبا الممتد حتى جزء كبير من القرن العشرين والذي لا يمت بصلة إلى التنوير».

ولأن الرجل يتماس عمله مع الإعلام فقد كان قريبا جدا في الأعوام الأخيرة من ذاك الذي يجري على الساحة الإعلامية الأوروبية من حركات معادية للإسلام، وهنا ترتفع علامة استفهام عند الباحثين المهتمين بقراءة ما ورائيات الإشكاليات الإعلامية الظاهرة، من نوعية: «لماذا يمضي البعض في إضفاء جانب يكاد يصل من سموه وجلاله إلى مرحلة الرفعة على كل من يرفع لواء الحركة المعادية للإسلام وعلى خطابه»؟

يؤكد فايدنر في أكثر من قراءة له على أن هناك ما يشبه العقيدة الإعلامية التي تشكلت في الرحم الأوروبي، يمكن اختصارها على حد وصفه بعبارة غاية في التبسيط - المخل - تزعم ظلما وبهتانا أن «الإسلام لم ينطو على الخير قط، ولا خير منه قطعا، ولا يمكن أن يرتجى منه الخير».. كيف يقيم الكاتب الألماني هذا الحديث؟

يقر بما لا يدع مجالا للشك أن هذا المشهد هو جزء من العجرفة الثقافية الأوروبية، والتي أضحت واسعة الانتشار في صفوف الكثير من المثقفين والمسؤولين في وسائل الإعلام الأوروبية، ولهذا أمست حركة تتصف بالاحترام والتبجيل، كيف لا وفيها وبينها من أعاظم الإعلاميين والمفكرين والمثقفين والكتاب الأوروبيين.. هل يستسلم فايدنر لهذا المشهد المأساوي؟

بالقطع لا، فالمفكر صاحب الضمير الحر، الساعي لبناء مجتمع السلام، لا يقدر أن يقف مكتوف اليدين، ولهذا يصيح أنه «آن الأوان لأن يتبنى المرء موقفا واضحا حيال هذه الظاهرة وحيال عجرفتها، فالاكتفاء بالاعتراض عليها هنا وهناك يزيدها قوة، لا سيما أنها تصم أذنيها عن هذا الاعتراض في حالة اتصاف منطقه الصواب، وتخلي غايته بالرشاد». الحديث عن شتيفان فايدنر والشجون التي تثيرها كتاباته طويلة ومريرة، وربما حزينة، والمؤلم في هذا السياق أنه يغيب عن ساحات الإعلام العربي، حتى نتعرف من خلاله على الآخر، ذاك الذي يكيل لنا الاتهامات، فهل تتنبه مؤسساتنا الفكرية لفايدنر ونظرائه من أصحاب الضمائر الحية والشهادات غير المجروحة، وحاملي دعوات إعمال العقل والعقلانية لفهم القضايا الإسلامية؟ أم نبقى عن وعي مضلل في زمن الفضائيات العربية الجوفاء والتي هي ليست أكثر من نحاس يطن أو صنج يرن؟

* كاتب مصري