يوم للفقه.. ويوم للكلام!

رضوان السيد

TT

كثرت الأصوات الداعية لهذا الأمر أو ذاك من الناحية الدينية، بعد قيام حركات التغيير، وظهور الإسلاميين على اختلاف فئاتهم في المشهدين العام والسياسي. وقد انصبّت الشكوى في الأعوام الأخيرة على الدعاة الجدد، الذين يُصدرون فتاوى في التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى، وصارت لهؤلاء الدعاة قنوات ومؤسسات وجماعات تلقٍّ، ومتابعة استحسانا واستنكارا. وفي مواجهة الظاهرتين: التشدد والجهاديات، والدعاة الجدد، كان علماء معروفون قد دعوا منذ مطالع الثمانينات من القرن الماضي إلى «ترشيد الصحوة»، وإلى فقه الأَولويات. على أن التحديات التي يواجهها الإسلام بعد ظهور حركات التغيير والإسلام السياسي، تتجاوز هذين الأمرين، وتطرح مسائل ما كان أحد متنبها إليها قبل عامين. فهناك اتجاه قوي داخل الجماعات والأحزاب الإسلامية يدعو للتوجه إلى الفقه الإسلامي الموروث والاجتهادات الجديدة للتعامل مع المشكلات الظاهرة الآن على الساحتين الاجتماعية والسياسية. وهناك اتجاه صراعي متنوع الصفوف لا يزال يقدم استقامة العقيدة، لكي تكون هاديا ومرشدا وسط العواصف، ولتستقيم بالتبع الممارسة السياسية والعامة.

ولمن لا يعرف؛ فإن الفقه الإسلامي التقليدي أو فقه المذاهب هو فقه الفروع، والمعني بالأحكام والتصرفات والخيارات في الحياة اليومية الخاصة والعامة. أما فقه العقيدة أو التوحيد أو الكلام فهو معني بالأصول الإيمانية والاعتقادية. والعلاقة بين الأمرين وثيقة بالفعل، إنما منذ القرن الثالث الهجري تفلّت الفقه من قبضة علم الكلام، بحيث صار المتكلم مضطرا للانتماء إلى مذهب من المذاهب الفقهية وليس العكس. فالفقهاء رغم انتظام معظمهم في أحد المذاهب، ما كانوا مضطرين إلى التصريح بانتمائهم إلى أحد الاتجاهات العَقَدية؛ بينما كان القاضي عبد الجبار المعتزلي المشهور مضطرا للقول إنه شافعي، والزمخشري مضطر للقول إنه حنفي وهكذا دواليك.

بيد أن المذاهب الفقهية واجهت تحديات على مشارف الأزمنة الحديثة، وجرى اتهامها على التوالي بأمرين: سد باب الاجتهاد، والتعصب المذهبي أو الانغلاق. وقد انفتح باب الاجتهاد على مصراعيه بالفعل، إنما زادت المطالبة للتخلي عن المذهبية الفقهية باعتبارها حائلا دون توحد المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم. ومنذ الستينات من القرن الماضي استشرت الدعوات الجديدة من جانب حركات الصحوة الصاعدة، والتي تقول بالفقه الجديد الجامع بين سلامة الاعتقاد، وسلامة التصرفات. وبذلك حلّت بالتدريج في أوساط أهل الصحوة وأنصارها التوجهات العقَدية المتشددة أو المنفتحة، وصارت هي عنوان التعريف، بدلا من التعريفات الفقهية القديمة. بل إنه منذ أكثر من ثلاثين عاما صار للتوجهات الحزبية الإسلامية «فقهها» الذي يحكم كل ما عداه بما في ذلك العبادات. ومن هذا المنطلق جاءت دعوتا: ترشيد الصحوة، والأولويات في فكر المسلم وحياته.

هناك اليوم إذن من يدعو للعودة إلى الفقه التقليدي وعالمه، والمطعّم بالاجتهادات المعاصرة. وهناك من لا يزال يدعو إلى فقه المفاصلة أو استقامة العمل باستقامة الاعتقاد. بيد أنه حتى لدى الاعتقاديين أو المتكلمين الجدد؛ فإن المفاهيم تغيرت. إذ إنه حتى دعاة الفقه الفروعي من الإسلاميين؛ فإنهم يعتبرون الحياتين الخاصة والعامة (والعامة على وجه الخصوص) جزءا منه. وهم يعتبرون أن التركيز على المسائل العقدية يقسم كلمة المسلمين وصفوفهم، ويضيّع عليهم الإفادة من الفرصة السانحة لإعادة إدارة شأنهم العام بطرائق صالحة. ففي مسألة مثل القانون أو حكمه، ومثل الانتخابات وتنظيمها، ومثل ولاية الوظيفة العامة، هذه الأمور أو المسائل لا يمكن الحكم فيها بالمناهج الاعتقادية؛ بل إن هذه الخيارات ينبغي التفكير فيها في إطار المصالح العامة. وهي مصالح فكّر فيها الفقهاء القدامى والمحدَثون كثيرا، وما اهتم بذلك الاعتقاديون إلا في زمن الصحوة الإسلامية، وهو زمن صراعي اقتضى مواجهات عقائدية أو باسم العقيدة، وقد دخلنا في زمن جديد الآن. والاحتكام إلى الأصول في التعرف على المصالح أو تحديدها في ضوئها لا يفيد في شيء غير التقسيم والانقسام، وتضييع المصالح، دونما فائدة للدين أو المتدينين. ويصر الاعتقاديون (وبينهم سلفيون وغير سلفيين) على أن هذا حق يراد به باطل. إذ إن الاحتكام إلى المصالح البحتة، والتي لا نتحقق من صحتها أو ضرورتها، ينبغي أن يسترشد بالمبادئ الاعتقادية التي تضعنا على سكة السلامة، وتفتح الأفق ولا تقفله أمام الاعتبارات الأخلاقية والدينية. ثم إن المدخل للتلاقي بين الاعتبارين العقدي والفقهي يبقى مفتوحا، بدليل أن هؤلاء المتشددين دينيا أو اعتقاديا شاركوا في الانتخابات في بعض البلدان، وما تشككوا في أطروحة حكم القانون، بينما لا يزال البعض الآخر يناقش المسألة مع الشيوخ والمفتين.

إنما وفي الواقع: هل تحتاج هذه المسائل إلى فتوى؟ يعني هل نحتاج في ممارسة الحق في اختيار الحاكم ووضع الدستور والولاية الخاصة والعامة إلى فتوى قد لا يمكن التوصل إلى نهايات بشأنها، كما يجري في الحالات الفردية والخاصة منذ القديم؟ قال لي بعض المنتمين إلى حزب الله بلبنان إنهم عندما تعرضوا من جانب أنصارهم إلى ضغوط عام 1992 للمشاركة في الانتخابات والحكومة - وهم من أتباع ولاية الفقيه - فقد احتاجوا إلى فتوى من الولي الفقيه. لكن المسألة عندهم ما كانت اعتقادية، بل فقهية، أي لاكتشاف أو استكشاف المصلحة في هذا الأمر أو ذاك. إنما المسألة عند السنة غيرها عند الشيعة. فالفتوى ليست ملزمة، وهي تُلزم إن كان المستفتي مقلدا في مسائل جزئية وفردية وليس في مسائل عامة «تعم بها البلوى». وهذا هو ما سبقت الإشارة إليه. ففي الزمن الثاني للصحوة، صارت كل المسائل اعتقادية، وحتى المسائل الفقهية المنثورة صار ينظر إليها بمنظار اعتقادي. فلنتذكر هذا العنف الذي اندلع في السبعينات من القرن الماضي، والذي بدأ بمصر وانتشر في عشرات البلدان، وتعلق دائما بالإيمان والكفر، وبشرعية السلطة، ومشروعية الجهاد بالداخل، لقد كانت هناك خيارات هائلة النتائج استندت إلى فتاوى، وأحدثت خرابا هائلا في النفوس والبلدان.

لقد انقضت تلك المرحلة بعُجَزِها وبُجَرِها، وجاء زمن جديد، لا يزال ناسه بالطبع يحملون جراح وآثار المرحلة السابقة. وبسبب الاضطراب في المفاهيم واختلاطها؛ فإن التصرفات تبقى رهنا بالظروف. والأمر سهل على الحزبيين، الذين يأتمرون بتعليمات من أعلى. لكنه ليس سهلا على عامة المسلمين الذين لا ينتمون لحزب أو حركة. في مصر هناك شيخ الأزهر ومرجعيته الحكيمة والهادئة. بيد أن الأمر ذاته ليس متوافرا في تونس والجزائر وسوريا والسودان.. إلخ. لكن حتى في مصر، يظل الأمر مشكلا. فالحزبي الذي يأتمر بأمر رئيسه إذا وصل للسلطة بأغلبية ليست حزبية فقط؛ فإنه سيُعنى بالطبع بإرضاء قاعدته الأصلية. وسيدفع بذلك أناسا كثيرين - حرصا على مصالحهم - للانضمام للحزب الفائز، كما في التقاليد والثقافة الشعبية التي سادت في المرحلة الماضية وأدت إلى الظروف القاتمة التي أثارت الثورات. بمعنى أن الاستبداد السياسي، لا ينشئ حكما صالحا، كما أن الاستبداد باسم الدين هو على هذا النحو، فضلا عن إساءته للإسلام، وللمنظومة الأخلاقية - الدينية التي تحكم العلاقات بين الناس.

هل الزمن الجديد زمن للفقه، أم أنه زمن لعلم الكلام؟ إنه في الواقع، وفي أمور الشأن العام، ليس يوما لهذا أو لذاك. فالفقه المعني بأحكام الحلال والحرام يلتمس الثواب، ويتجنب العقاب، ويريد تيسير الحياة للناس ضمن دينهم واجتماعهم البشري. وهو لا يستطيع أن يقرأ ويتابع حقا الخيارات والمصالح في قضايا الشأن العام التي سبق أن ذكرنا بعضها. وقد اجتهد فقهاء كثيرون مُحْدثون في إدخال قضايا الشأن العام والعصري في وعي المسلم، وبدا ذلك لأول وهلة أمرا محمودا. إنما أدى ذلك إلى الخلط بين الاعتبارات الدينية أو الشرعية، والأخرى العامة التي تهم كل مواطن، وليس فردا بعينه. وجاءت الموجة الاعتقادية والحزبية لتجعل الأمر أكثر سوءا ورهبة. ولذلك يكون علينا نحن المعنيين في الزمن الجديد أن نوضح هذا الفرق الهائل بين واجبات الأفراد الدينية وحقوق وخيارات المجتمعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فهناك أمران اثنان: التحزب السياسي، والتحزب الديني. وقد ضعُف التحزب السياسي في ظل حكومات الاستبداد، وسيكون الأمر نفسه هو مصير التحزب الديني في الزمن الجديد لأن النتائج واحدة. وإذا كان الاستبداد قد أساء إلى الحياة السياسية وإلى الحريات والكرامات، وتسبب في هذه الأزمة الهائلة؛ فإن التحزب الديني سوف يسيء للدين، وإذا حدث ذلك يتعذر الإصلاح. إنه يكون علينا قطعا أن نحمي ديننا في زمن الثورات من طريق عدم الزج به في معمعة الصراع السياسي أو الصراع على السلطة. فليس هناك نظام سياسي ينجح نجاحا فائقا، وسواء أستند إلى الدين أو غيره. والخيبة من هذا النظام السياسي أو ذاك سيئة، لكن النظام يمكن تغييره، أما الخيبة في نظام يستند إلى الحزبية الدينية فحري بها أن تُلحق أضرارا بالإسلام. ولذلك قلتُ إن الفقه العاقل والمتدين يبقى تجنيب الدين مزالق التحزب باسمه واستغلاله. وهكذا فإن هذا الزمن ليس زمنا لفقه الفروع أو الأصول؛ بل هو زمن لصون الدين من الدخول باسمه في أتون الصراع على السلطة!