مبحث النفس في الفكر الإسلامي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

تحتل مسألة «النفس» مكانا بارزا على صعيد الفكر الإنساني عامة، والفكر الفلسفي على وجه الخصوص. فعلى المستوى الأول؛ يمكن القول: إن الإنسان قد انشغل منذ نشأته بالسؤال عن هويته: من يكون؟! وما سبب وجوده وغايته؟! وقد ارتبط ذلك كله بقلقه على مصيره ونهايته. أما على الصعيد الفلسفي؛ فلا يكاد يوجد فيلسوف واحد - على مدار التاريخ - لم يهتم بمبحث «النفس» وقواها، وما يتعلق بنشأتها وخلودها. فمنذ أن نبه أرسطو إلى أهمية دراسة «النفس» والفلاسفة يأخذون بموقفه حرفيا!! أما على مستوى الفلسفة الإسلامية؛ فإننا نلحظ اهتماما متناميا بمباحث «النفس» وارتباطاتها بمختلف المستويات الفكرية والدينية، السياسية والاجتماعية، حيث برز العديد من الفلاسفة المسلمين في الدراسات النفسية نتيجة تأثرهم بكل من: التراث الفلسفي الإغريقي من جهة، والأثر الديني الإسلامي من جهة أخرى.

وفي الأحوال كلها، لقد وقف فلاسفة الإسلام على حقيقة التراث الإغريقي فاستوعبوه استيعابا يقظا ذا حاسة نقدية بالغة، واستطاعوا الملاءمة بين جملة الأفكار المتعارضة داخله أولا، ثم قاموا بمحاولة ملاءمته مع معطيات الرافد الإسلامي ثانيا، فيما عرف بعملية «التوفيق بين الدين والفلسفة».

تطلق لفظة «النفس» في اللغة لتعني: حقيقة الشيء، وذاته، ومجموعه. كما أنها ترد في كلام العرب على نحوين رئيسيين: أحدهما، قولك: خرجت نفس فلان؛ أي روحه! وثانيهما يكون معنى النفس فيه: جملة الشيء، وحقيقته! تقول: قتل فلان نفسه، أي أوقع الهلاك بذاته كلها.

أما عند الحكماء؛ فتطلق «النفس» بنحو من الاشتراك اللفظي على الجوهر المفارق عن المادة في ذاته دون فعله. فالنفس الإنسانية التي تسمى بالنفس الناطقة والروح أيضا، يقصد بها «كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الأمور الكلية والجزئية المجردة، وبفعل الأفعال الفكرية والحدسية». وبذلك تكون النفس الإنسانية مجردة بحسب ذاتها، فلا تشغل حيزا، ولا تدرك بالحواس، ولا تفتقر في صدور الأفعال منها إلى آلة ما وهي البدن!! أما فيما يتعلق بالاستعمال العام للنفس؛ فيعني أنها «مظهر غير مادي أو مبدأ، تكون مع الجسم شخصية الإنسان»، كما يصح إطلاقها أيضا على كل موجود حي (والبعض يطلقها على أجسام غير حية كالكواكب!!) مثلما تكون مركزا للفعاليات والأنشطة الفكرية المختلفة. وفي الواقع؛ إنه لمن الصعوبة بمكان أن نفصل بين كل من: الروح، والنفس، والعقل، في قواميسنا العربية حيث يتقارب المعنى بينها جميعا؛ بيد أن المفهوم الأصلي للنفس في المجتمعات القديمة يقصد به «الحياة»؛ أي إن النفس حياة البدن، كما أن الحياة والتنفس والحركة منبثقة كلها من «النفس»، وحين الموت تخرج النفس من البدن وتتوقف كافة الأعمال الجسمية. والنفس في نظر القدماء موقعها: إما القلب، أو الدم، أو الكبد، أو قسم من أقسام الجسم!! هذا وقد ورد ذكر لفظة «النفس» ومشتقاتها في القرآن الكريم في مائتين وثمانين موضعا. والملاحظ أن ثمة استعمالين للنفس في القرآن الكريم: أولهما هو ما يمكن تسميته بالاستعمال العام، وفيه تطلق لفظة «النفس» على عدة معان متباينة، فيقصد بها مثلا: «الفرد من الناس»، كما في قوله تعالى: «من أجل ذلك كتبنا علي بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا». أو تطلق لتعني شخصا بذاته، كما في قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة»، أو يقصد بها ما تخفيه النفس، كما في قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب» أي: ما في سري.

ثانيهما: هو ما أطلقت فيه «النفس» بوجه خاص، بمعنى أن تستعمل بمعناها المتداول بين الناس؛ ألا وهو: النفس الإنسانية. فقد بين القرآن الكريم وجودها، وأكد على وفاتها، كما في قوله تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى»، وكما في قوله أيضا: «ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم».

ولا أدل على شرف «النفس الإنسانية» من قسم الله عز وجل بها، كما في قوله تعالى: «ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها». وبالإضافة إلى ما سبق، اهتمت العديد من الآيات القرآنية ببيان نشأة الإنسان، وتوضيح الأطوار التي مر بها في مراحل خلقته، كما في قوله تعالى: «ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى»؟! ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يأتي مبحث «النفس» على رأس اهتمامات فلاسفة الإسلام حيث احتلت لديهم المكانة ذاتها التي حظيت بها من قبل لدى أرسطو ومعظم الفلاسفة. فمعرفة «النفس» تأتي في المرتبة الأولى مقارنة بسائر أنواع المعارف! ويكفي للتدليل على ذلك إفراد ابن باجة مؤلفا كاملا - وإن لم يصلنا كذلك - بعنوان: «كتاب النفس»! ولعل سبب ذلك معرفته بدقة مباحثها، ولكونها موصلة لحقائق العلم الطبيعي؛ ولأن معرفتها تمثل بداهة مقدمة طبيعية لأي علم من العلوم الطبيعية أو حتى الإلهية، وهو ما أكده فيلسوفنا بالقول إن: «العلم بالنفس يتقدم سائر العلوم الطبيعية والتعاليمية بأنواع الشرف كلها».

وبحسبه أيضا؛ فإن «النفس» مبحث من مباحث علم الطبيعة، ويعني به ذلك العلم الذي يبحث في مبادئ الموجودات الطبيعية، تلك التي تتركب من «هيولي وصورة»، بحيث لا يتحقق أدنى وجود للجسم إلا باتحادهما. فالهيولي «ليست مصورة بالذات ولا موجودة بالفعل، إذ إن وجودها الحقيقي هو في قابليتها للصور التي تتعاقب عليها. وعلى هذا الأساس؛ تكون النفس بالنسبة للكائنات الحية كالصورة بالنسبة للمادة (أي من حيث تحقق الوجود الفعلي للكائنات عن النفس، مثلما تحقق الصورة وجودا فعليا للمادة ساعة أن تنضاف إليها وتتحد بها)، والبدن بمثابة المادة»!! وفي الحقيقة؛ لم يقتصر ابن باجة في مباحثه على دراسة «النفس الإنسانية» دون غيرها؛ وإنما فصل القول في مراتب ثلاث للنفس، رتبها من الأبسط فالأقل بساطة؛ فابتدأ بذكر «النفس الإنسانية»، وعقب بعدها بذكر «النفس الحيوانية»، ثم ختم حديثه بالقول في «النفس النباتية» باعتبارها أبسط مرتبة من مراتب النفوس قاطبة.

والواقع؛ أن متابعة ابن باجة - في ترتيبه للنفوس - الترتيب الأرسطي؛ إنما يدل دلالة واضحة على مدى تأثره بالتراث الفلسفي اليوناني واستيعابه له. هذا التأثر الذي حدا به إلى محاولة التوفيق بين رأيي: أفلاطون، وأرسطو في «النفس». ولذلك يمكن القول: إن ابن باجة قد استطاع إلى حد كبير - بفضل ثقابة ذهنه وصفاء نفسه - أن يلائم بين آرائهما، من دون التقيد بهما، أو متابعتهما، كما لم تكن فلسفته نسخة مكررة من فلاسفة المشرق العربي، مما يدل على احتفاظه بطابع فلسفي خاص ميزه عمن سبقه من فلاسفة الإسلام، وأثر أيما تأثير فيمن أتى من بعده؛ خاصة: ابن طفيل، وابن رشد، ممن شهدوا بفضله، واعتزوا بفلسفته.

يتحصل مما سبق؛ أن ابن باجة قد اهتم بمسألة «النفس» في سائر مصنفاته، كما استأثرت مشكلة اتصال النفس الإنسانية - على وجه الخصوص - بالعقل الفعال بحيز كبير من دراساته، وهو ما أكده ابن رشد لاحقا بالقول: «لقد قام ابن باجة بكثير من البحوث حول هذه المسألة، وتجشم لتوضيح هذا الاتصال مشاق كثيرة في تأليف رسالته في اتصال العقل بالإنسان، وكذلك كتابه في النفس، وفي العديد من مؤلفاته الأخرى. ويبدو أن هذه المسألة لم تعزب عن تأمله طرفة عين»!! في كتاب «النفس» يتابع فيلسوفنا أرسطو في تعريفه للنفس بأنها «استكمال أولي لجسم آلي ذي حياة بالقوة»، وكذلك في ترتيبه مضامين البابين: الثاني، والثالث، وفق النسق الأرسطي ذاته كما هو وارد في كتاب «النفس» لأرسطو. ومع ذلك؛ فإن ثمة نقاطا عديدة يخالف فيها فيلسوفنا أرسطو صراحة، منها على سبيل المثال: رأيه في مسألة تقدم الفعل على القوة، أو العكس، حيث أكد أن القوة تتقدم على الفعل بالزمان، في مواضع متفرقة من كتابه، كقوله: «فإذا القوة متقدمة للكمال بالزمان»، وهو يخالف في ذلك أرسطو الذي لطالما أكد أن «ما بالفعل سابق على ما هو بالقوة زمانا»!! وبالتالي؛ يمكننا القول: إن استيعاب ابن باجة للإرث اليوناني وتمكنه من ثقافته العربية الإسلامية قد جعلا منه بلا شك؛ ليس فقط مجرد شارح أو دارس لهذه الفلسفة؛ وإنما مجدد في إطارها كذلك!! نقول هذا على الرغم من أنه يبدو في شرحه للسماع الطبيعي كما لو كان يوناني الفكر والمنشأ معا!!

* كاتب مصري