اليمين الديني المتطرف إلى أين يقود إسرائيل؟

إميل أمين

TT

هل باتت روح إسرائيل وعقلها في قبضة اليمين الإسرائيلي المتطرف؟ وإلى أين يمكن أن يأخذ مثل هذا التطرف الدولة العبرية، لا سيما حال ازدرائها الأديان وفي مقدمتها الإسلام؟ هل سيعزز ذلك التطرف وجودها وحضورها أم أنه سيكون وبالا مضافا على حاضرها ومستقبلها، وهو ما أضحت تؤكده قراءات وإحصاءات دولية صادرة مؤخرا في عدد من البقاع والأصقاع حول العالم؟

في أوائل شهر أبريل (نيسان) الحالي كان الطفل الفلسطيني براء غنامة يلقي قصيدة في مهرجان شعري، وببراءة الأطفال كان يرفع يده اليمنى بعلامة «النصر»، غير أن دعاة اليمين الإسرائيلي المتطرف رأوا في المشهد ملامح نازية وإشارات عدوانية تجاه دولة إسرائيل وسكانها. تقصف إسرائيل منازل الفلسطينيين ومدارسهم ومستشفياتهم بأقصى وأقسى شكل وبأحدث ما في ترسانتها من أسلحة جوية وبرية، وتستكثر على طفل صغير أن يلوح بيديه.

على أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، ذلك أنه سرعان ما زعم المتطرفون هناك، لا سيما النشطاء في حزب «إسرائيل بيتنا»، الذي يترأسه رمز التطرف في حكومة نتنياهو، الوزير أفيغدور ليبرمان، أن «القرآن مواز لكتاب (ماين كامف)» (كفاحي)، الذي كتبه الزعيم النازي أدولف هتلر، في بدايات القرن المنصرم.. هل يجيء هذا الزعم ليشير إلى خطورة تعاظم هذا التيار ضد إسرائيل ذاتها أولا وأخيرا؟ قبل الجواب قد يتعين علينا أن نتوقف مع ما هو أبعد، وما يؤصل لتلك الكراهية، وذلك الازدراء لليمين الإسرائيلي المتطرف للإسلام والمسلمين في الداخل الإسرائيلي، وكيف أنه قاد أولئك الحاخامات لبسط نفوذهم على الدولة العبرية بكافة، وعلى المدينة المقدسة (القدس) بشكل خاص.

في الكتاب الشيق «فتاوى الحاخامات.. رؤية موضوعية لجذور التطرف في المجتمع الإسرائيلي» لمؤلفه الدكتور منصور عبد الوهاب، نجد طائفة عريضة من الفتاوى الصادرة عن حاخامات إسرائيل والمملوءة بالكراهية والحقد للإسلام والمسلمين، ومعها يتفهم المرء من أين جاءت المقاربة الأخيرة مع النازية ومع الفارق المطلق في المشهد. في عام 2006 كان السؤال المطروح على بعض هؤلاء: «هل هناك قداسة للمسجد الإسلامي كدار للعبادة؟ السائل كان في ذهنه أيضا أن واحدا من أهم حاخامات إسرائيل (موشيه بن ميمون) كتب ذات مرة يقول إن «المسلمين لا يعتبرون من عبدة الأوثان».. لكن ماذا كانت الإجابة؟

عند النفر المتطرف منهم أن: «ليس للمسجد الإسلامي قداسة، إذ تنبع القداسة في هذا العالم من الرب القدوس تبارك اسمه الذي يفيض بفضله الكبير من قدسيته على العالم، وقد اختار الرب جبل الهيكل (الحرم القدسي) لمركز القداسة في العالم». وتضيف الرؤية العنصرية: «إنه في مقابل ذلك يعتبر المسجد مكانا منحرفا، وذلك لأن الإسلام يوصف بأنه دين مستحدث، وهو مكان يمثل خروجا على كلمات الرب، فلا يمكن أن يكون مقدسا للرب، ناهيك من الحقيقية الأساسية التي تفيد بأن المساجد الإسلامية، وبخاصة تلك الموجودة في إسرائيل، قد أصبحت مركزا روحيا لمحاربة دين إسرائيل، وبني إسرائيل، ومركزا لإخفاء الأسلحة».

والشاهد؛ أن مثل تلك القراءة السابقة تقودنا إلى الإشارة إلى واحد من أخطر المنعرجات التي تقسم إسرائيل في ما بينها، وتجعل علامة الاستفهام الحالية حول من الذي يحكم في إسرائيل اليوم؟ هل القوانين الوضعية التي هي من وجهة نظر المتدينين من وضع الأغيار؟ أم الشريعة اليهودية التي تتنافى في معظم أحكامها مع القانون الأساسي؟

يلزمنا بداية التوقف مع المعنى والمبنى لمفهوم الأغيار، فماذا عن ذلك؟ مثير جدا البحث في هذا الشأن، وفي الحقيقة أنه بحاجة إلى مؤلفات بعينها، ذلك لأن أصل قيام واستمرارية شعب إسرائيل يتوقف على إدراكهم للفصل بينهم كشعب مختار، حسب معتقدهم، وهو ما دحضناه سابقا في قراءات مختلفة، وبين غيرهم من شعوب العالم. والأغيار «الغوييم» لفظة عبرية جمع، مفردها «غوي» أي غير اليهودي، وهذه الشعوب، وفقا للشريعة اليهودية، لا تنزل في مرتبة واحدة مع اليهود، ومن ثم تختلف الأحكام الشرعية في كل ما يتعلق بهم. فما يجوز لليهود لا يجوز للأغيار وتطبيق الأحكام للأغيار يختلف تماما عن تنفيذها على اليهود.

وحسب تعاليم الأصولية اليهودية فإن هنا 3 نواهٍ رئيسية يلتزم بها اليهودي تجاه «الغوييم»: لا تظهر الإعجاب بـ«الغوييم» لئلا يبدون جيدين وحسنين في أعين إسرائيل. ولا تعطف على «الغوييم»، لا ترحم أو تحسن إلى «الغوييم». ولا تعطي «الغوييم» مقاما على الأرض فليس لهم مكان في أرض إسرائيل.

هل ما يجري هناك يشق إسرائيل إلى مجتمعين متضادين روحا ونفسا؟ يبدو أن ذلك كذلك وهو أمر له تبعات خطيرة، ذلك لأن قوانين الدولة مصدرها قوانين «الأغيار»، «القوانين الوضعية»، ونظام الحكم الإسرائيلي هو نظام علماني، وكثيرا ما يصدر حاخامات وقادة الجمهور الحريدي المتدين فتاوى تتجاوز قوة القانون لدى المتدينين، بعدم قبول «القانون الإسرائيلي»، ففي مايو (أيار) من عام 200 كتب الحاخام حاييم شاؤول، أحد أعضاء كبار مجلس كبار مفسري التوراة، في صحيفة «تيد نئيمان» يقول: «إن نوابنا في الكنيست هم وسيلتنا لمنع المساس بمقدسات إسرائيل.. ولكن هذا لا يعني أي اعتراف بهذه المؤسسة التي تسمى (المجلس التشريعي)».

إذن هل يدفع الحاخامات المتطرفون الأمور دفعا نحو الهاوية في إسرائيل اليوم؟ مؤخرا أفردت مجلة «دير شبيغل» الألمانية تقريرا مطولا كتبه جوليان فون ميتلشتادت، وفيه من الإشارات ما يكفي لفهم أبعاد الأزمة الحالية في الدولة العبرية. يلفت جوليان في تقريره إلى أنه مع تزايد عدد الحاخامات المتطرفين والنساء اللاتي يغطين وجوههن، وتفاقم التمييز الجنسي، تواجه إسرائيل تنامي نفوذ اليهود المتعصبين دينيا، وقد أسهمت جهودهم الرامية إلى فرض نظرة أكثر تشددا إلى العالم في تفاقم التوتر بينهم وبين المجتمع العلماني في هذا البلد.

ومما لا شك فيه أن الوقائع والتصريحات الأخيرة تؤكد إحساس أولي الأمر في إسرائيل بخطورة المشهد، فعلى سبيل المثال يحذر رئيس سابق لجهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) من أن اليهود المتشددين يشكلون بالنسبة إلى إسرائيل معضلة أكثر خطورة من البرنامج النووي الإيراني، وكذلك أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، مؤخرا أن الأحوال في القدس تذكرها بإيران، في إشارة إلى الأزياء النسائية المغرقة في التطرف هناك، التي أضحت بدورها منتشرة في شوارع تل أبيب. والكارثة تتفاقم من وجهة النظر الإعلامية العالمية عندما تدرك إسرائيل أن العواقب بدأت تظهر اليوم، وأن الازدواجية القاتلة قد لحقت بها ولم تعد تدري على أي وجه من الوجوه تنحو وتتصرف، فقد تحولت إلى بلد ظهرت عليه علامات التعب نتيجة الإجهاد المفرط، بلد يعتبر ديمقراطيا وقوة محتلة في آن، بلد ينعم بآخر ابتكارات التكنولوجيا العالمية، إلا أن قسما من سكانه ما زال يعيش كما لو أنه في القرن التاسع عشر، وبلد يقبل المهاجرين من أنحاء العالم كافة شرط أن يكونوا يهودا، في الوقت الذي يرحل بلا شفقة سكان البلاد الأصليون من الفلسطينيين، هل من نتيجة مؤكدة لهذا الشقاق؟

نعم إذ ينمو لدى المستوطنين حس وطني، في حين أن المتشددين دينيا يتبنون موقفا عدائيا متحجرا تجاه الدولة.. ما هو مستقبل دولة إسرائيل حال تنامي ذلك التيار الذي يرى في طفل يلقي قصائد شعرية صنوا للفاشية، ويشير للكتاب الأقدس لدى مليار وربع المليار في العالم على أنه المعادل الموضوعي لكتاب هتلر؟ تساؤل من الأهمية بمكان ولا يمكن تقديم جواب عنه إلا من خلال الأرقام والإحصائيات، التي تشير إلى أن نسبة هؤلاء وإن كانت اليوم أقلية (10 في المائة من السكان)، إلا أن معدل الولادات بينهم يبلغ ثلاثة أضعاف ما نراه بين اليهود العلمانيين، وإن استمر الوضع على حاله، فسيشكل اليهود الحريديم (المنغلقون على ذواتهم الذين يديرون ظهورهم للمجتمع العلماني الحديث) ثلث السكان في أقل من خمسين سنة. أما اليوم فينتمي ربع اليهود في الصف الأول في المدارس إلى اليهود المتشددين، شأنهم في ذلك شأن 40 في المائة من أعضاء البرلمان المشاركين في ائتلاف الحكومة، و40 في المائة من ضباط الجيش والجنود الجدد في الوحدات القتالية، لذلك يتمتعون بنفوذ لا يضاهى ولا يترددون في استغلاله.

ماذا عن مستقبل إسرائيل في هذه الأجواء؟ أحدث الكتب الصادرة في سوق المكتبات الدولية في هذا الصدد يحمل عنوان «إسرائيل مستقبل مشوب بالريبة» لباحثين بلجيكيين؛ ريشار لاوف وأوليفيا بورو خوفيتش. وفيه ثمانية مقاييس تشير إلى انقلاب المعادلة الدولية ضد إسرائيل. الكتاب يقدم صورة محزنة للإسرائيليين لجهة هشاشة الدعم الدولي المقدم لهم الآن، وبخاصة من جانب الحليف الأوثق والألصق، الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى الشروخ الداخلية في المجتمع الإسرائيلي.

ولعل ما جاء في الكتاب قد استدعى تعليقا من البروفسور يوسف هودرا، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بار ايلان، ففي مقال له في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أشار إلى أن بوسع إسرائيل الركون إلى الغرب ما دام لم تحدث في الذاكرة الجمعية لدولها تغييرات بعيدة المدى، خصوصا في النخبة، ولكن هذه الظروف في تراجع. ويوضح البروفسور هودرا كيف أن الشروخ الثقافية والدينية والطبقية والآيديولوجية في المجتمع الإسرائيلي تتعاظم، ورغم أن الشعور بالحصار يشوشها أحيانا، فإن الوضع الأمني أو السعي لتحقيق السلام يثير احتكاكات قاسية وربما عنيفة داخل المجتمع الإسرائيلي.

والثابت أنه إذا كان أحد معايير استقرار حضور دولة إسرائيل في الشرق الأوسط هو قدرتها على جذب مهاجرين من حول العالم، فإن النتائج الأخيرة التي بسطتها صحيفة «معاريف» الإسرائيلية في عدها الصادر بتاريخ الأربعاء 11 أبريل الماضي، تؤكد الخطر الداهم على الدولة العبرية من جراء الرؤى العنصرية التي لا ترى حلولا إلا على حساب أمن وسلام من حولها، وتعمد في ظل منظومة إيمانية عنصرية على قتل الآخر، لا سيما أن نفسه أقل أهمية من نفس البهيمة.

في عددها المشار إليه تشير «يديعوت أحرونوت» إلى أن عام 2006 الذي شهد العدوان الإسرائيلي على لبنان، قد شهد أعلى معدلات الهجرة من إسرائيل إلى الولايات المتحدة، وأن معدل الهجرة وإن كان قد قل أو انخفض العامين الماضيين فإن السبب في ذلك يعزى إلى تدهور الأوضاع المالية والاقتصادية في أميركا.. هل يعني ذلك شيئا؟ يعني أن عنصرية وتطرف الحياة السياسية في إسرائيل، هي وحدها التي يمكن أن تهود مستقبل دولة إسرائيل، بأكثر من جيوش العرب مجتمعة، وهذا ما لا تريد إسرائيل أن تستوعبه.

«الغوييم» في الروحانية اليهودية المعاصرة يفقدون أرواحهم.. هل «الغوييم» فقط الذين يخسرون أم إسرائيل والإسرائيليون من قبلهم ومن بعدهم؟

* كاتب مصري