النفس وقواها في أعمال ابن باجة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في مقالنا السابق «مبحث النفس في الفكر الإسلامي»، حاولنا أن نرصد جهود فلاسفة الإسلام في التأصيل لهذا المبحث المهم، وبيان تأثرهم برافدين كبيرين، ألا وهما: الرافد الفلسفي الإغريقي، والرافد العربي الإسلامي. وقد كان لافتا للنظر في هذا السياق، اتساع رقعة النزعة النقدية فيما يتعلق بالتعاطي مع الرافد الأول، حيث تخطى فلاسفة الإسلام مقولات أرسطو تماما، خاصة ما يتعلق منها بمسألتين رئيسيتين: الأولى، نجاحهم في تحطيم الحواجز بين عالمي الطبيعة، وما وراءها. الثانية: تخطيهم تردد أرسطو وتأرجحه بين الإقرار بوحدانية الله من جهة، أو القول بتعدد الآلهة من جهة أخرى، إلى حد الذهاب بالقول: إن أرسطو لا يمكن إلا أن يكون وحدانيا! بمعنى أنه يقر بوحدانية «المبدأ الأول» عندما يتحدث عن «المحرك الأول» بالقول: «فإن كانت الحركات الأزلية واحدة، أمكن أن يكون (المحرك لها) واحدا».

وفي هذا الإطار، تكتسب جهود ابن باجة الأندلسي أهمية قصوى، على الرغم من أن كتابه «النفس» لم يصل إلينا كاملا؛ وذلك بشهادة كل من: ابن الإمام، وابن طفيل. فالأول يتأسف على فقد جزء مهم من هذا الكتاب، فيما ينقل عن تلامذته: «وكتاب (النفس) ينقص منه مقدار يسير ذكر الوزير (أي ابن الإمام) أنه سقط منه بعد وقوعه إليه» والثاني يذكر في رائعته «حي بن يقظان» أن أكثر ما يوجد لابن باجة من التأليف «غير كاملة، ومخرومة من أواخرها، ككتابه في (النفس)، و(تدبير المتوحد)»!! ومع ذلك يمكننا القول: إن مسألة اتصال النفس بالعقل الفعال قد نالت قدرا كبيرا من اهتمام ابن باجة, ما أثر بدوره على طريقة تناول فلاسفة الأندلس لها من بعده، وفي مقدمتهم: ابن طفيل، وابن رشد الذي أقر صراحة في تلخيصه لكتاب «النفس» لأرسطو بأن كل ما بينه في بحث العقل إنما هو من رأي ابن باجة! في كتاب «النفس» يبدأ فيلسوفنا بتقرير أن النفس مبحث من مباحث علم الطبيعة, تبعا لتقسميه الأجسام إلى طبيعية وصناعية، متابعا في ذلك ما قرره أرسطو من قبل. ثم يوضح أهمية دراستها في ضوء فكرة «الأولى والأشراف»، ويخلص إلى بيان الحد وتعريف النفس، موضحا كل قواها: الغاذية، والحساسة بأنواعها (البصر، السمع، الشم، الطعم، اللمس)، وأخيرا يفرد فصلا كاملا للحديث عن الحس المشترك, مفصلا القول في توضيح كل من التخيل, والقوى الناطقة.

لكن الأهم في سياقنا هذا هو أن نقف على جملة تدليلاته الخاصة ببيان أهمية معرفة النفس وضرورة دراستها. والملاحظ ابتداؤه بالجملة ذاتها التي قالها أرسطو من قبل في سياق ترتيبه للعلوم, التي جاء فيها: «وكل علم، على ما يقوله أرسطو (في كتاب النفس)، حسن جميل، غير أن بعضه أشرف من بعض». وتبعا لذلك، يمكننا أن نوجز تدليلات ابن باجة على أهمية معرفة النفس وضرورة دراستها في النقاط التالية:

أولا: إنه تبعا للقول بفكرة الأشرف والأولى؛ فإن العلم بالنفس يتقدم سائر العلوم الطبيعية، والتعاليمية، بأنواع الشرف كلها.

ثانيا: الكل مضطر بداهة إلى علم النفس، إذ ليس بإمكاننا أن نقف على مبادئ العلوم ما لم نقف على علم النفس, ونوضح حدها.

ثالثا: من لا يوثق به في معرفة نفسه فهو أجدر بألا يوثق به في معرفة غيره من سائر الأمور والعلوم.

رابعا: العلم بالنفس يكسب المشتغل به قوة على تحصيل مقدمات ليس بمقدور العلم الطبيعي أن يكتمل من دونها.

خامسا: علم السياسة المهتم بـ«الحكم المدنية», لا يمكن أن يكتمل القول فيه قبل معرفة النفس وأحوالها.

وتفصيلا لفكرة الأشرف والأولى يوضح فيلسوفنا أن العلم يشرف بإحدى اثنتين لا ثالث لهما؛ إما بالوثاقة (يعني أن تكون أقاويله يقينية طاهرة)، أو بشرف موضوعه وعظم مادته. وعلم النفس (فيما يقرر فيلسوفنا) جمع الحالين معا! ففضلا عن يقينية أقاويله, فإن موضوعه يعد من أشرف المواضيع، بعد العلم بالمبدأ الأول. وهكذا يخلص من جميع ما سبق إلى تأكيد أن العلم بالمبدأ الأول (الذي هو أشرف العلوم قاطبة) لا يمكن أن يتحقق للمشتغل به ما لم يتقدمه العلم بالنفس، وإلا كان معلوما بوجه أنقص.

أما «رسالة الوداع»، فإنها تتضمن أيضا خلاصة آراء فيلسوفنا الإلهية, وهذه الرسالة هي التي أرسلها إلى تلميذه النجيب ابن الإمام, داعيا فيها إلى مناهضة التصوف القائم على الكشف دون برهان عقلي, وتأييد العقل في المقابل, كما درس بها بعض أحوال النفس وقواها، خاصة القوى التفكيرية؛ بحكم أنها المميزة للنفس الإنسانية عن غيرها من باقي النفوس.

أيضا نوه ابن باجة فيها على خلود النفس, مؤكدا أنها جزء من النفس العامة, لكنه لم يتوسع في الشرح أكثر من ذلك, واكتفى بحصر هدف الوجود الإنساني في التقرب من الله تعالى، والاتصال بالعقل الفعال الصادر عنه, والاتحاد بالنفس الكونية التي تجتمع فيها النفوس الفردية، مستوحيا فكرته هذه من مذهب وحدة النفوس.

وبالإضافة إلى ما سبق، ناقش فيلسوفنا فكرة النظام التراتبي للآلات، استكمالا لما قاله في «رسالة الاتصال» من تقسيم الآلات الطبيعية إلى متقدمة ومتأخرة. مؤكدا أن «الحار الغريزي» يتقدمها جميعا؛ لأنه آلة الآلات على التحقيق والتقديم. وعليه، فإن أجزاء الجسم المختلفة - باستثناء الحار الغريزي - تتباين في استعدادها للحركة، فبعضها أكثر استعدادا لها عن غيرها، حيث تبدأ حركتها أولا، وتحرك بدورها أجزاء أخرى أبعد منها ثانيا.

وضمن هذا السياق، تزداد نظرية تراتبية الآلات وضوحا لدى فيلسوفنا، حيث يرفض فكرة كون الآلات أجزاء إضافية فائضة لا لزوم لها. يقول في ذلك بلغته الغامضة المعقدة: «فإن التوطئات (ما لم تكن منها الغاية الذاتية) كانت ضرورية، وفي الحقيقة باطلا وعبثا, والغاية الذاتية لا يمكن أن تدرك بوجه ولا على حال, أو تحصل التوطئة قبلها. وأما لو أدركت، لكانت التوطئة فضلا لا يحتاج إليه، أو تعبا زائدا، إذا أمكن أن يدرك دونها»! ومن ثم، فإن الآلة التي لا تملك غاية لوجودها لا لزوم لها، وذلك بحكم أن المقياس الأساسي لأهمية عضو ما (ووجوده أيضا بمعنى خلقه تعالى له) إنما يتأسس وفقا لقيمته الوظيفية التي تتحدد بناءً على قربه من الحار الغريزي، أو بعده عنه! ولذلك، كلما كانت الآلة قريبة منه اشتدت ضرورتها. وعملا على إيضاح فكرته الغامضة هذه، قدم فيلسوفنا مثالا تقريبيا جاء فيه: «مثال ذلك أن زيدا لا يقدر على تحريك ثلاثة قناطر إلا بآلة, أما عمرو فيقدر على تحريكها دون آلة. فوجود الآلة لعمرو فضل، أو تعب زائد لا يحتاج إليه, وأما لزيد فضرورة، وذلك لنقصه في القوة عن عمرو».

والإنسان بداهة يهمه أن يحافظ على آلاته الطبيعية, خاصة أن نسبة الإنسان إلى الآلة الإرادية كنسبة المحرك الأول الذي فيه إلى آلاته الطبيعية (أي البدن). وهو ما أكده ابن باجة بالقول: «كما أن الإنسان, إذا عدم آلاته الإرادية, لا يتمكن من أن يعمل الأعمال التي لتلك الآلات, كذلك المحرك الأول, إذا عدم آلاته الطبيعية! فإن النجار متى عدم القدوم وسائر آلاته لم يصنع في الآلات شيئا، كذلك الإنسان إذا عدم البدن لم يباطش».

ويسترسل فيلسوفنا في تصنيفه لأصحاب القنية الإرادية إلى أقسام ثلاثة: صنف لا يحرسون آلاتهم فتفسد عليهم, وصنف يحفظ آلته ويعتني بها حتى يصيروا عبيدا لآلاتهم دون أن يدروا. وهذان الصنفان مذمومان فيما يقرر ابن باجة, أما الصنف الأخير، فهو الذي يحرسها في وقت ما لا يحتاج فيه إليها, ويستخف بها ساعة أن يستعملها, وأحوال هؤلاء هي المحمودة بذاتها، نظرا لأنهم يتوسطون بين الصنفين السابقين عليهما، ويأخذون من كل واحد أحسنه. يقول في ذلك: «لأن كل واحد من الطرفين إذا أراد أن يقنع نفسه في صواب عمله, إنما يفرط عمله, ويجده بالجزاء المشترك بينه وبين المتوسط».

أما في «تدبير المتوحد»، فيسعى فيلسوفنا إلى رسم خطة تعين المتوحد على أن يسلك سبل السعادة، وذلك عن طريق عنايته بالأعمال الروحانية التي من شأنها أن تسعد النفس الإنسانية, وتكسب وجوده الإنساني حقيقته التامة؛ فتصبح نفسه من بعد نفسا إلهية تختار من الأفعال أرفعها, وتكتسب من الصفات أسماها، وصولا إلى مرحلة فهم نفسه بنفسه ككائن عقلاني بإمكانه أن يتصل بالعقل الفعال دون سائر الموجودات الأخرى.

وفي «رسالة الاتصال»، يبدي ابن باجة اهتماما ملحوظا بمسألة التدليل على وجود النفس كجوهر مخالف للبدن, مستعينا في ذلك بالبراهين ذاتها التي قال بها من قبل الشيخ الرئيس ابن سينا. كما يؤكد فيها على القول ببطلان التناسخ، والإيمان بوحدة النفس الإنسانية, باعتبارها المحرك الأول للجسم. وإلى جانب ما سبق، تركز الرسالة بالدرجة الأولى على موضوعها الأساسي, ألا وهو مشكلة اتصال النفس بالعقل الفعال. وكما لاحظ ابن رشد بحق، فإن هذه الرسالة عصية جدا على الفهم، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى ابن رشد؛ فما الظن بغيره من البشر؟! إن كلام ابن باجة في هذه المسألة بالذات يعد أكثر صرامة وتعقيدا من كلام أي كان، ومع ذلك فإنه يثير الكثير من الإشكاليات التي تستدعي الحل.. وتلك قضية أخرى.

* كاتب مصري