صيانة العيش المشترك.. وتحديات الحاضر وآمال المستقبل

إميل أمين

TT

قبل نهاية شهر مايو (أيار) الماضي، كانت جامعة القاهرة تشهد عقد لقاء مشترك بين الفريق العربي للحوار الإسلامي - المسيحي ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، تحت عنوان «صيانة العيش المشترك في العالم العربي». والشاهد أن هذا الموضوع المتميز قد تم اختياره، ولا شك، في اتساق تام مع تطورات الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية، خاصة في ظل حركة الربيع العربي. عبر أيام ثلاثة هي فترة المؤتمر تناقش وتبادل الآراء نحو خمسين من أفضل العقليات العربية الإسلامية والمسيحية، ربما لإحساسهم بأن هناك خطرا ما لم يعد يتوارى أو يداري نفسه خلف اللغة الخشبية Langue de bois كما يقال، وعلى مائدة الحوار طرحت قضايا الساعة، حول مهددات هذا العيش، وإن كان أحد لم يستخدم مباشرة خطاب المخاوف والتهديدات، ودار الجميع في فلك قضايا الحوار والعلاقات الإسلامية المسيحية، وتصويب المفاهيم، كما احتلت وثيقة الأزهر الأخيرة حول الحريات، لا سيما حرية البحث العلمي وحرية العقيدة والتعبير، مساحة معتبرة من النقاش، وفي جميعها كان من الواضح أن هناك حالة من حالات التشابك، بل والتماس، بين ما هو سياسي نسبي، وما هو ديني مطلق. كالعادة في مثل هذه اللقاءات الكثيرة يحتار المرء في اختيار مدخل أو مفتتح للحديث، إذا أراد الكلام عما جرى ودلالاته واستحقاقاته.

نتوقف بداية مع كلمة الأب بولس روحانا، أمين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط، التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية، والسبب في الاختيار هو أن موضوع المؤتمر «العيش المشترك» كان في صلب اهتمامات المجلس منذ تأسيسه في عام 1974، ويمثل ولا يزال جزءا رئيسيا من رسالته، إلى الحد الذي يمكن معه القول: «إن مجلس كنائس الشرق الأوسط هو بيت المسلمين والمسيحيين على حد سواء، والمختبر الصالح لبلورة أفكار جديدة وريادية في العيش المشترك».

ماذا لو قدر لنا أن نسأل الأب روحانا: «هل قضية العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين مسألة محض براغماتية تمليها عليهم ظروف سياسية واقتصادية متبدلة لتنظيم أطر حياتهم في المساحات العامة؟»، بحسب نص كلمته: «إن العيش معا من منظار المؤمنين الخاضعين لله هو أعمق وأبعد من ذلك. إنه دعوة ورسالة لبناء إنسانية جديدة يشارك في تشييدها المسلمون والمسيحيون في ضوء إيمانهم المشترك بالله الواحد، خالق الجميع، وأن اتخذ هذا الإيمان أشكالا وتعابير مختلفة عبر التاريخ.. هل من صون للتعايش المشترك في العالم العربي الذي يعيش فيه من غير المسلمين عدة ملايين دون احترام واضح ومحدد المعالم لحريات المعتقد والعقيدة ومباشرة الطقوس والشعائر الإيمانية؟ هنا يأتي الحديث عن وثيقة الأزهر التي تناولها الدكتور محمود عزب، أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة السوربون ومستشار الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب.

في إحالته لنص الوثيقة نجد أنه «من الضروري وجوب احترام عقائد الأديان الإلهية الثلاثة، وشعائرها، لما في ذلك من خطورة على النسيج الوطني والأمن القومي، فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير، وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العلمي المقترن بالدليل، وفي الأوساط المتخصصة والبعيدة عن الإثارة، مكفولا بالحق في حرية البحث العلمي».

يحق للمرء إذن أن يتساءل: إذا كانت المسيحية تنظر للعيش المشترك على أنه رسالة لبناء إنسانية جديدة، والإسلام في طريقه لبناء مجتمع البشر يحرص مثل هذا الحرص على صون حرية الإيمان، فما الذي يعكر صفو هذا التعايش المشترك ويشكل عقبة في طريق النمو الواحد للشعوب العربية بمسلميها ومسيحييها؟

لعل أفضل جواب نجده عند أحد الحاضرين الغائبين عن هذا المؤتمر، الذي أثرى كثيرا تلك الحوارات الدينية الثقافية، ونقصد به المستشرق الهولندي الأب كرستيان فان نسبين اليسوعي، وقد أفردنا له ذات مرة قراءة خاصة في هذا الصدد، وفي كتابه الرائد «مسيحيون ومسلمون إخوة أمام الله» يتحدث عما يطلق عليه «الدائرة المفرغة من الحذر المتبادل» التي تقف حجر عثرة في طريق العيش المشترك في كثير من الأحايين.. ماذا عن تلك الإشكالية؟

يحدثنا الأب كرستيان عن أنه حتى نكون قادرين على أن نبني معا مجتمعا، علينا أولا أن نكسر هذه الدائرة من الاتهامات والاتهامات المضادة، وتأسيس قاعدة من الثقة المتبادلة التي لا تستبعد الصراحة البتة، بل (على العكس) تسمح بها، لتناول كل المخاوف والأسئلة المتبادلة بوضوح.

كسر هذه الدائرة يتطلب الخروج مرة وإلى الأبد من هذه الحلقة المفرغة من السجالات المهينة والعقيمة، التي لا تليق بالإيمان، ويتطلب تجاوزها تقديم تفسير حياتي يترجم روح الأديان في معان إنسانية واقعية على الأرض، ويتم في إطار احترام الآخر المختلف، وبصورة تجعل كل فرد يتعرف على نفسه فيها، ويشعر كذلك بأنه يحظى بفهم واحترام عقائد الآخر الإيمانية.

والثابت أنه إذا كان الأب روحانا والدكتور عزب قد قدما رؤيتين فلسفيتين للعيش المشترك، فإن الأنبا موسى أسقف الشباب في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، قد لاقى إعجابا كبيرا بحديثه الواقعي الذي يلامس الأرض ولا يحلق في سياق النظريات الفكرية فقط، خاصة لتناوله وسطية الإسلام كأساس للعيش المشترك.

في كلمته، كان الأنبا موسى يضع عدة منطلقات تدعم ولا شك فكرة العيش المشترك، وتدفع بالباحثين عن ذلك العيش للاتفاق عوضا عن الافتراق. الأساس الأول الذي تناوله الأسقف القبطي الشهير هو «نشر وسطية الإسلام كأساس من أساسيات العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين».

أما الأساس الثاني، فهو متضمن في الأول بمعنى الإيمان بالتنوع والوحدة. فيما ثالث تلك الأسس يتعلق بمستوى الحوار الإسلامي المسيحي، الذي يجب نقله من النخبة ورجالات الانتلجنسيا الذين حصروا أبدا ودوما محاوراتهم وجدالاتهم في الغرف المغلقة، والخروج إلى العامة من الشعب حتى يروا قصص المحبة بين كل أطياف المجتمع، من خلال وسائل كثيرة مثل برامج التلفزيون والكتيبات الصغيرة».

ولعل الأنبا موسى كان كذلك من الأصوات التي ترجمت حالة بلبلة العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، كما أشار إليها الأب روحانا، والقائمة على مستوى العالم العربي مؤخرا، عبر محاولة تقديم حلول براغماتية إيجابية لها، فالأساس الرابع عنده للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين يتجلى في «أهمية الإيمان بدور الأغلبية الحاضنة للأقلية».. هل كان الأنبا موسى يتحدث بالتحديد عن نموذج معين، ربما كان أليما؟ نعم، ذلك كذلك، فهو لم يوارِ أو يدارِ قصده، وإشارته إلى الأقباط في مصر واضحة؛ زيادة معدلات الهجرة من مصر، التي ارتفعت ثلاثة أضعاف في الأعوام الأخيرة، وإن كانت الهجرة ظاهرة عامة تشمل كل المصريين، الذين يبحثون عن عيش أفضل، إلا أنها تتجسد على نحو خاص في الأقلية، التي طالب الأغلبية بأن تحتضنها وتطمئنها. تلفت الإشكالية التي تناولها الأنبا موسى بمثال أقباط مصر إلى تفريق مهم للغاية في التعريفات يجب أن يحتل الصدارة في اهتمامات المنشغلين بعلوم الاجتماع والأديان، بل والسياسة أيضا.

هل التعايش يختلف في مفهومه وآلياته عن العيش المشترك؟ سؤال حق جدير بالتأمل، ومن حسن الطالع أن تصدى له من قبل أحد كبار رجالات الحوار الإسلامي - المسيحي، وحامل رؤية شرقية إسلامية مسيحية مستنيرة للغرب عن الإسلام الشرقي والمسيحية المشرقية في ذات الوقت. إنه الأب الدكتور تيودور خوري، مدير معهد علوم الأديان المقارنة في جامعة مونستر الألمانية.. ما الذي يجود به علينا في هذا السياق؟ يرى الأب خوري أن التعايش هو تقدم على مرحلة التصادم والتجاذب والنزاع، وهو دليل على إرادة السلام واحترام الآخر وليس بالضرورة الموافقة على رأي الآخر. أما المرحلة المتقدمة على مرحلة التعايش فهي مرحلة العيش المشترك.. كيف السبيل لبلوغ هذه المرحلة ؟ الحوار هو السبيل الوحيدة لتحقيقه، ونحن هنا نفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الناس وبعضها وبين الدول وبعضها، أي العيش بسلام، فإذا كنا نعيش عيشا مشتركا ستكون القضايا المشتركة منتظمة في سبيل الخير العالم.. ما الذي يمكننا أن نخلص إليه من فلسفة الأب خوري؟

التعايش يمكن أن يكون سلاما باردا، بينما السلام الحار هو العيش المشترك، نعترف بكيان بعضنا، ونحترم آراء الآخر، ونتعاون في سبيل خير الجميع ولا خيار لنا لنصل إلى هذا الأمر إلا بالحوار، ولا يمكن الاستغناء عنه في أي بلد، ولا في أي دولة، لأن لكل دولة علاقات مع غيرها، ووسائل الاتصال في العالم سهلت الارتباط، بحيث إنه لا تراث أو تقليد أو ثقافة تستطيع اليوم في ظل فكرة القرية الكونية حل مشكلاتها بمفردها.

ولعل رؤية الأب خوري تدفعنا لطرح علامة استفهام: هل من ركائز يمكن للمرء أن يطرحها في بحثنا عن التعايش المشترك بمعنى الجمع بين التعايش والعيش المشترك في بوتقة انصهار واحدة..؟

حكما، هناك ثلاثة أعمدة رئيسية من دونها لا تعايش ولا عيش: الإرادة الحرة المشتركة للذين يعيشون على أرض محددة وفي زمان مقدر، ومن دون تلك الإرادة يبقى العيش شكلا من الأسر أو العبودية. ووضوح الأهداف وتحديد الغايات، والتفاهم من حولها حتى لا يكون العيش الواحد فارغا من أي مدلول عملي، فالهدف الأسمى من العيش المشترك ليس البراغماتية والذاتية، بل خدمة الإنسان والإنسانية، وفي المقدمة حفظ الأرواح والممتلكات ومنع نشوء الصراعات الطائفية والأهلية وشق الصف الوطني. وصيانة هذا العيش المشترك بسياج متين من الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة، وذلك حتى لا ينحرف التعايش المنشود والثقة المتبادلة، وحتى لا ندخل في سياق وتفضيل فكر المغالبة على المشاركة، وطغيان مصلحة طرف على طرف ثان، وكل ذلك في إطار من الاحتكام الدائم والمستمر، وبآليات تصحيح مستقرة من القيم والمثل والمبادئ التي لا خلاف عليها ولا نزاع حولها، والمستوحاة من قيم الأديان السماوية، وجميعها تسعى لتكريم الإنسان ورفعة منزلته.

ما الذي خرج به مؤتمر القاهرة من ميكانيزمات وتوصيات لصيانة العيش العربي المشترك في زمن تحلق فيه سحب داكنة اللون في كثير من بقاعه وأصقاعه؟ هناك ورقة توصيات تقليدية بالطبع خرج بها اللقاء، لكن سفير لبنان لدى مصر الدكتور خالد زيادة، كان في تصريحاته محددا وواضحا ومستشرفا لمقبلات الأيام بشكل عملاني، وعلى أعلى مستوى؛ إذ أشار إلى حتمية إعادة النظر في مفهوم العلاقات المسيحية - الإسلامية لجهة مسألة العيش المشترك، لا سيما بعد المخاوف التي أثارتها الثورات والانتفاضات في مصر وسوريا.

هل العيش المشترك في عالمنا العربي في مأزق حقيقي؟ يخشى المرء أن يكون ذلك كذلك بالفعل، غير أن الطريق إلى فهم أعمق للسلام الاجتماعي العربي، يحتم على الجماعتين الدينيتين أن يتقاربا ويتعلما بنوع جديد، أن لا تناهض الواحدة الأخرى، أو أن تعيش الواحدة بجانب الأخرى، بل أن تعملا معا لخير أوطانهما وشعوبهما، ولتقديم نموذج إنساني رفيع. أما البديل.. وقانا الله شر الحديث عنه الآن وكل أوان.

* كاتب مصري