الآداب السلطانية ومرايا الأمراء والفكر السياسي الإسلامي

رضوان السيد

TT

1. التجربة والعمل على الفكر السياسي الإسلامي الوسيط: بدأت العمل على نصوص الفكر السياسي الإسلامي عام 1977. وكانت الفكرة بسيطة، وتتلخص في أنني أثناء عملي على أطروحة الدكتوراه مع البروفسور جوزيف فان أس بالمعهد الشرقي بجامعة توبنغن، ما وجدت ما يمكن الرجوع إليه في أصول الفكر السياسي الإسلامي (تصورات الأمة والدولة والتفكير السياسي) غير ثلاثة مصادر: «الأحكام السلطانية» للماوردي، و«السياسة الشرعية» لابن تيمية، وفصول من «المقدمة» لابن خلدون. ولأنني كنت أفكر في كتابة تاريخ للفكر السياسي الإسلامي، فقد أقبلت على جمع المخطوطات والرسائل ذات المنحى السياسي من المطبوع قديما، وخلال سنتين بين عام 1975 وعام 1977 اجتمع لدي زهاء الخمسين كتابا ورسالة مطبوعة أو مصورة من مخطوط. وفاجأتني كثرة المؤلفات في مرايا الأمراء أو ما صار يعرف بـ«الآداب السلطانية». كما فاجأتني مشكلة أخرى وهي: هل تعتبر كتب الفارابي (... - 339هـ): «آراء أهل المدينة الفاضلة»، و«فصول في المدني»، و«فصول منتزعة» وغيرها، مؤلفات في فلسفة السياسية أم أنها جزء من تقليد فلسفي كلاسيكي لا يعنى حقا بالحكم وقضاياه؟ والمهم أنني قررت التمهيد لمشروع تاريخ الفكر السياسي الإسلامي بنشر نصوص مختارة مما لم ينشر من قبل، أو نشر نشرات غير علمية. وهكذا وقع اختياري على حكاية «الأسد والغواص»، وهي حكاية على ألسنة الحيوانات مثل «كليلة ودمنة»، و«النمر والثعلب» أو «ثعلة وعفرة» لسهل بن هارون، مع فروق بارزة في الإشكالية والتفاصيل؛ فأصدرتها عام 1978، كما أصدرت «قوانين الوزارة وسياسة الملك» للماوردي عام 1979. وحتى عام 1993 كنت قد أصدرت سبعة نصوص، تستند كلها إلى مقدمات شارحة، وإحالات وحواش واسعة، وفهارس فنية عديدة. وخلال هذه المدة، أي نحو الخمسة عشر عاما، كان مشروع تحقيق نصوص الفكر السياسي هذا قد استقل عن المشروع الأصلي المتعلق بتاريخ الفكر السياسي. إذ انصرفت منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي إلى العمل الدراسي على أساس آخر. فأصدرت دراسات جمعتها في كتاب باسم: «الأمة والجماعة والسلطة» (1984)، باعتبار أن الدولة في عالم الإسلام قامت على هذين المفهومين: مفهوم الأمة، ومفهوم الجماعة؛ وقد ارتبطت بهما رؤية الخلافة أو نظريتها أكثر مما ارتبطت بالسياسات العملية التي تمثلها كتب مرايا الأمراء أو الآداب السلطانية. وبالفعل؛ فإنه منذ الثمانينات من القرن الماضي شغلتني مسألتان: مسألة الوظيفة التي كانت لجنس مرايا الأمراء، وأدت إلى الإكثار من التأليف فيه في المجال الثقافي الإسلامي، ومسألة الإشكالية أو الإشكاليات المتنوعة والمختلفة التي كانت تحكم هذا النوع أو ذاك من أنواع التفكير في السلطة والدولة.

في تسعينات القرن الماضي إذن أقبلت على تفحص المسألتين: مسألة الإشكالية، ومسألة الوظيفة، ففي مجال الإشكالية صنفت التأليف في الفكر السياسي الإسلامي في أربعة تيارات رئيسية تبعا للإشكاليات التي حكمت كل نوع أو جنس:

أ. مؤلفات الفقهاء في الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية: وهي تنطلق من مسألة الشرعية. وهي تقيمها على التجربة التاريخية للأمة مع الخلافة ولجهتين: جهة ما قام به الصحابة بعد وفاة النبي من نصب رجل على رأس الدولة سموه «خليفة» أخذا من القرآن، وتمييزا عن أكاسرة الفرس وقياصرة الروم. ومستند هذا التنصيب الإجماع. وجهة وظائف هذا المنصب التي جمعها الماوردي في مهمتين: حراسة الدين وسياسة الدنيا. وكتب الفقه الدستوري، أو الـInstitutional Law ليست كثيرة، ومنها «الأحكام السلطانية» للماوردي، و«تسهيل النظر» له، و«الأحكام السلطانية» لأبي يعلى، و«غياث الأمم» للجويني، و«تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لابن جماعة، و«السياسة الشرعية» لابن تيمية.

ب. مدرسة أو كتب الفلاسفة في التفكير السياسي وما التحق بها من كتب الأخلاق: وهي تستند في تصورها لمسألة الدولة أو المدينة لخليط من تصورات أفلاطون وأرسطو وتلامذة فكريهما. وإشكالية هذا التقليد الفلسفي تحقيق السعادة في المدينة الفاضلة أو الكاملة. وأبرز أمثلة هذا النوع من التأليف كتب الفارابي: «آراء أهل المدينة الفاضلة»، و«فصول في المدني»، و«فصول منتزعة»، وفصول عند ابن سينا في «الشفاء والنجاة»، وشرح ابن رشد لجمهورية أفلاطون، و«السعادة والإسعاد» للعامري، وبعض المؤلفات الأخلاقية المشابهة.

ه-. مدرسة المتكلمين أو كتب المتكلمين وفصولهم في الإمامة: وربما كان الشيعة الزيدية أول من ألف في ذلك، ثم تبعهم شيعة آخرون، ومعتزلة، وإباضية، إلى أن أفضى الأمر إلى الأشاعرة. وهؤلاء جميعا يعتبرون السلطة جزءا من الاعتقاد. أما الأشاعرة، فهم يجعلون الفصل الخاص بالإمامة في آخر كتبهم الكلامية. ويقولون في أوله إن الإمامة ليست من الاعتقاديات أو التعبديات، بل هي من المصلحيات. لكنهم ينفقون صفحات كثيرة في الربط بين صحة العقيدة، والقول بشرعية الخلافة الراشدة.

د. مدرسة مرايا الأمراء والآداب السلطانية ونصائح الملوك: والكتابة فيها هي الأقدم، فأولى الرسائل والتوجهات التي نعرفها لهذه الناحية تعود للعصر الأموي، من مثل رسائل أرسطو المنحولة إلى الإسكندر، ورسائل عبد الحميد بن يحيى الصادرة عن الديوان الأموي. وإشكالية هذا الجنس الأدبي: استقرار الملك واستمراره. ويستند هذا الجنس إلى موروث كلاسيكي أصوله يونانية (هيللينية) وهندية وفارسية. وهو يظهر بثلاثة أشكال: شكل الرسالة أو العهد الذي يتركه الملك لولي عهده، وفيه نصائح سياسية في طرائق التعامل مع الطبقات الاجتماعية لكي يستمر الملك ويخلد. وشكل الحكاية على ألسنة الحيوانات مثل «كليلة ودمنة» و«ثعلة وعفرة»، و«الأسد والغواص». وشكل الكتاب المقسم على الأبواب من عشرين إلى مائتين، من مثل: «فضل الملوك»، «عدل الملوك»، «كتمان سر الملك»، «المسلك في الحرب»، «التعامل مع الجند».. إلخ. وقد نشرت حتى الآن خمسة نصوص في الآدابيات السلطانية هذه، كما نشر تلامذتي عدة نصوص كلفتهم بتحقيقها في أطروحاتهم.

2. الآداب السلطانية والفكر السياسي الإسلامي: تقوم فلسفة مرايا الأمراء أو الآداب السلطانية على موروثين، أحدهما هيلليني والآخر فارسي. أما المقولة الرئيسية في الموروث الهيلليني، فهي تلك التي ترد في «سر الأسرار» المنحول والمنسوب لأرسطو، وهي تتحدث عن موقع السلطة والدولة في تصور كوني، هذا نصه: «العالم بستان سياجه الدولة. والدولة سلطان تحميه السنة. والسنة سياسة يسوسها الملك. والملك راع يعضده الجيش. والجيش أعوان يكفلهم المال. والمال رزق تجمعه الرعية. والرعية عبيد يجمعهم العدل. والعدل مألوف وبه صلاح العالم». وقد سمي هذا الشكل دوريا، ومنهم من سماه ثمانيا. وقد بلغ من سلطانه في المجال الإسلامي أن ابن خلدون لم يستطع تجاوزه، لكنه اعتبره غير برهاني، بينما جاءت مقولته في الدولة مبرهنة، وهو يعني بذلك أنه استطاع الاستشهاد عليها من التجارب: العربية، والبربرية، والتركية. ويؤول هذا التصور في الحقيقة إلى أربعة عناصر: أن الدولة سياج، أي حماية للمجتمع، وأنها تدار بالسنة، أي بالأعراف المستقرة، وأن السلطان هو الذي يشرف على هذه الإدارة، وأن إشرافه ينبغي أن يتسم بالعدل، الذي هو صلاح العالم، أي سبب استقراره وبقائه.

وأما المقولة الفارسية أو الإيرانية القديمة فقد وردت في العهد المنسوب لأردشير بن بابك (227 - 241م) وكتبه لولي عهده سابور؛ ونصها: اعلم أن الملك والدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه. لأن الدين أس الملك وعماده، ثم صار الملك بعد حارس الدين.. واعلموا أنه لن يجتمع رئيس في الدين مسر، ورئيس في الملك معلن في مملكة واحدة أبدا إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك؛ فإن الدين أس والملك عماد، وصاحب الأس أولى بجميع البنيان من صاحب العماد..». إن هذه المقولة تتكرر أيضا ليس في كتب نصائح الملوك وحسب؛ بل في الكتب الأخلاقية، وكتب المناقب. وهي تقول بالتلازم بين الدين والدولة، وحاجة الملوك إلى الدين أو إلى كهنته لدعم عروشهم. ويمكن فهم العبارة الثانية التي تحذر من اضطراب العلاقة، باعتبارها استحثاثا للملك لكي يظل على علاقة طيبة برجال الدين، أو باعتبارها تحذيرا للملك من رجال الدين، والطلب إليه أن لا يمكنهم من أسباب القوة خشية أن يثوروا عليه ويزعزعوا عرشه. وعلى فرض صحة «العهد» الذي يبدو أنه مكتوب من جانب أحد رجال الإدارة الشاهانية في القرن الخامس وليس الثالث؛ فإنه ربما كان يشير إلى الاضطراب الذي أحدثه كارتير رئيس الكهنة في عهد كسرى أنوشروان، أو إلى الخلاف مع المانوية.