النفس في فلسفة صدر الدين الشيرازي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

تغطي مؤلفات صدر الدين الشيرازي قطاعات كثيرة من الفكر الإنساني يبدو للوهلة الأولى أنها متباينة، لكنها في حقيقة الأمر متجانسة ومتداخلة بشكل واسع. ومن المعلوم أن صدر الدين الشيرازي عالج مسألة السعادة وارتباطها بالنفس من زوايا فكره المتعددة في أغلب أعماله الفلسفية والدينية والإشراقية كذلك. ففضلا عن شروحه التي قام بها لكل من حكمة الإشراق، والهداية الأثيرية، ولكتاب «أصول الكافي» ليعقوب الكليني (ت329هـ)، استحوذت مسألة النفس على قطاع عريض من مصنفاته.

وفي الواقع، لقد تميز الشيرازي بسعة اطلاعه إلى جانب كثرة أبحاثه، حيث خلف وراءه قرابة خمسين مؤلفا تدل دلالة واضحة على موسوعيته ودوره الرائد في تجديد الفكر الفلسفي بعد أن كاد لا يبعث مرة أخرى بعيد «نكسة الغزالي». وقد وجد في غمرة الظروف التي أحاطت بحياته العلمية البائسة المتواضعة الوقت والقوة لإقامة صرح مذهبه في العالم، واستطاع أن يحل على وجه فيه طرافة وابتكار المشكلات الكبرى التي أسلمتها الفلسفة القديمة لعصره.

أما فيما يتعلق بمسألة النفس، فلا يكاد يخلو مؤلف من مؤلفاته لا يشتمل على مبحث من مباحثها ولعل ذلك يرجع إلى أن الفكرة القائلة بانتقال النفوس كانت حية في عصره، مما جعله يتناولها بنحو يتقارب مع فلسفته الميتافيزيقية في الوجود.

ففي كتابه «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة»، الذي يعد درة إنتاجه الفلسفي، استطاع الشيرازي أن يعالج فيه معظم المسائل التي تخص فني الربوبيات والطبيعيات، وتحدث عن النفس، وقواها، ومراتبها، وخلودها، ومعادها الروحاني والجسماني.. إلخ. ومن ثم أفرد لها قرابة مائة فصل ضمن أحد عشر بابا من السفر الرابع الذي يكاد يكون مقتصرا بالفعل على معالجة النفس وأحوالها.

وفيه يبدأ بابه الأول بسرد جملة من الأحكام العامة في النفس ثم يقوم بتحديدها موضحا أهمية دراستها، وماهية النفس الحيوانية، ويفصل القول في القوى النباتية وأحوال النفس المتعلقة بالنفوس الحيوانية، ثم يتناول مسألة الإدراكات الباطنة، وكذلك يشرح مسألة تجرد النفس الناطقة، ويبطل القول بالتناسخ.

وفي السياق ذاته، يشرح الشيرازي ملكات النفس الإنسانية وأفعالها وجملة انفعالاتها، ومقامات القوى الإنسانية، وأخيرا يخصص البابين الأخيرين لمناقشة أمر المعاد الروحاني والجسماني، ويفصل القول فيما يتعلق بالسعادة والشقاوة الأخرويتين، وبيان ما يرتبط بالمعاد الجسماني من أحوال الآخرة ومقاماتها.

وفي كتابه «المبدأ والمعاد»، يمزج الشيرازي ما بين الإلهيات والطبيعيات مزجا رائعا، خاصة فيما يتعلق بأمر المعاد الجسماني والروحاني! وبعد التأكيد على التوافق بين البراهين العقلية من جهة، والآراء النقلية من جهة أخرى، يصرح الشيرازي بمنهجه في الكتاب الذي يقسمه إلى فنين: الأول فن الربوبيات المفارقة، المسمى بأثولوجيا. والثاني فن الطبيعيات, الذي تأتي مباحث النفس ضمنه تحت عنوان: «في النظر المختص بالمعاد وكيفية ترتيب الموجودات المعادية»، ويشتمل بدوره على مقالتين تحتوي كل واحدة منهما عدة فصول.

والواقع، أن الشيرازي في مقدمة كتابه هذا لا ينفك يؤكد أن العلوم الكمالية مختلفة الأنواع، وأن النفس الإنسانية تعجز دائما عن الإلمام بها في وقت واحد، وأن معرفة ذات الحق الأول ومرتبة وجوده بما له من صفات كماله ونعوت جماله وكيفية صدور أفعاله وابتداء الموجودات منه (المبدأ) وعودها إليه (المعاد)؛ يعد أفضل العلوم الإلهية على الإطلاق، وهي الموصلة للسعادتين الدنيوية والأخروية لا محالة.

كما يؤكد أيضا أن علم «معرفة النفس الإنسانية وإثبات كونها كلمة نورية وذاتا روحانية وبيان أنها لا تموت بموت البدن يعد أفضل العلوم الطبيعية. فمن خلاله يتم استكشاف كيفية استكمالها حتى تصير عالما عقليا إلى أن تتحد بالعقل الفعال وتصبح معقولاته فعلية، بعد أن كانت انفعالية».

وقد وصل الأمر بالشيرازي أن ربط بين كل من معرفة النفس من جهة والسعادة الحقيقية من جهة أخرى، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. وحجته في ذلك أن معرفة النفس وأحوالها أم الحكمة، وأصل السعادة، ولا يصل إلى درجة أحد من الحكماء من لا يدرك تجردها وبقاءها على اليقين.

ثم يدلل على أهمية النفس بالاستدلالات الفلسفية ذاتها التي قال بها أرسطو وابن سينا من قبل. يقول في ذلك: كيف صار الرجل موثوقا به في معرفة شيء من الأشياء بعدما جهل بنفسه، كما قال أرسطو: إن من عجز عن معرفة نفسه فأخلق أن يعجز عن معرفة خالقه؛ فإن معرفتها ذاتا وصفة وأفعالا مرقاة إلى معرفة بارئها؛ لأنها خلقت على مثاله فمن لا يعرف علم نفسه لا يعرف علم بارئه.

يتحصل مما سبق أن رؤية الشيرازي وتدليلاته تمتزج بخليط فلسفي وديني معا. إذ سرعان ما يتبع استدلالاته العقلية بأخرى دينية كقوله على سبيل المثال: وفي الحديث المروي عن سيد الأولياء من عرف نفسه فقد عرف ربه إيماء إلى هذا المعنى، يعني أن من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه، وكذلك قوله تعالى في ذكر الأشقياء البعداء عن رحمته: «نسوا الله فأنساهم أنفسهم»، بمنزلة عكس نقيض لتلك القضية إذ تعليقه جل وتعالى نسيان النفس بنسيان ربها تنبيه على تعلق تذكره بتذكرها ومعرفته بمعرفتها.

ثم يعود ليسترجع مرة أخرى جملة من الأدلة الفلسفية التي يؤكد بعضها ما كان مكتوبا على بعض الهياكل المشيدة في قديم الزمان، من أنه ما نزل كتاب من السماء إلا وفيه يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك! وقريب من هذا ما نقله الشيخ الرئيس في بعض رسائله وفي الحكمة العتيقة: من عرف ذاته تأله!! أي صار عالما ربانيا فانيا عن ذاته مستغرقا في شهود جمال الأول وجلاله.

ولعل السبب في تأكيدات الشيرازي على ضرورة دراسة السعادة والنفس؛ أنه كان على وعي بصعوبة دراستها وغموض مبحثها. وقد أشار إلى ذلك صراحة بالقول: إن هذه المباحث ونظائرها غامضة دقيقة المسلك لا يقف على حقيقتها إلا واحد بعد واحد من أكابر العرفاء، كما قال الرئيس: جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد! وإن الذين خلصت نفوسهم بصفائها وحصلت لهم ملكة خلع الأبدان وكانوا ممن يستن بسنن الحكماء ويتخلق بأخلاق الأصفياء من رفض اللذات الحسية، وترك المألوفات الطبيعية؛ لأن من لم تصفّ نفسه منها فلا سبيل له إلى السعادات الأبدية، ولا سلوك له في المناهج الإلهية.

ويختتم الشيرازي استدلالاته بالتأكيد على أن الاشتغال بهذين الفنين: الربوبيات والطبيعيات، يعدان من المقاصد التي هي أساس العلم والعرفان كما يشهد بذلك جميع الأمم الفاضلة وتحكم به العقول الذكية والنفوس الخيرة من أولي الدراية والعرفان.

وعلى الرغم من صغر حجم كتاب «المشاعر»؛ فإنه يعد من أنفس كتبه صدر الدين الشيرازي على الإطلاق! إذ يخيل إلينا أن روحه قد سكبت فيه سكبا!! وعلى ما يبدو فإنه قد تنبه إلى قيمة كتابه هذا حيث أشار في مقدمته قائلا: وهذه هي الحكمة الممنون بها على أهلها، والمضنون بها على غير أهلها، وهي بعينها العلم بالله من جهة ذاته، المشار إليها بقوله تعالى: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق».

فالعلوم الإلهية هي عين الإيمان بالله وصفاته، والعلوم الآفاقية والأنفسية لدى الشيرازي تعد من آيات العلم بالله وملكوته الموصلة إلى السعادة الحقة. وتمشيا مع إحساسه بتميز كتابه هذا يقرر الشيرازي أن مباحثه ليست من المجادلات الكلامية، ولا من التقليدات العامية، ولا من الفلسفة البحثية المذمومة، ولا من التخيلات الصوفية، بل هي من نتائج التدبر في آيات الله والتفكير في ملكوت أرضه وسماواته! ويعني بهذا أنها من قبيل البرهانات الكشفية الإشراقية.

وفي الكتاب أيضا ثمة ترتيب للموجودات تبعا لنظرته الإشراقية: فروح القدس هو الروح الأول الذي يبقى مع الله من غير مراجعة إلى ذاته، وهو الذي أجمع الفلاسفة على تسميته بـ«العقل الفعال». وكما أنه منبثق عن الوجود الأول، كذلك ينبثق العقل المستفاد عن الإيمان ليصبح عقلا بالفعل بعد أن كان عقلا بالقوة! ومن روح القوة هذه، انبثقت «النفس الإنسانية الناطقة»، فيما خرجت «النفس الحيوانية» إلى الوجود عن طريق روح الشهوة. وهكذا تتعاقب الأرواح ونفوسها ويتدرج حصولها داخل النفس الإنسانية على مدار مسارها الذي يبدأ في الرحم، وينتهي ساعة موتها! وتلك قضية أخرى.

* كاتب مصري