إرث اليهودية ـ المسيحية وانتخابات الرئاسة الأميركية

إميل أمين

TT

هذا الحديث ليس من قبيل معاداة السامية, ولكنه نظرة تاريخية دعت الأحداث والتصريحات الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية إلى مسح الغبار عنها على سبيل المعرفة والإحاطة, وليس من قبيل الكراهية أو التقريع.

هذه الإشارة لا بد للباحث من أن يحيط بها القارئ، لا سيما حال التطرق إلى المشهد السياسي الأميركي ذي الهوى الديني, والدستور العلماني.. ما الداعي لهذا الحديث؟ حكما أنه التصريح المثير الذي أطلقه المرشح الجمهوري الوحيد الآن في الساحة السياسية الأميركية عن الجذور المؤسسة للزعامة الإمبراطورية الأميركية حول العالم التي أجملها في القول بـ«الإرث اليهودي - المسيحي».. ما السبب الذي جعل ميت رومني المورموني العقيدة يذهب هذا المذهب؟

قبل نحو بضعة أسابيع كان الرئيس الأميركي باراك أوباما وللمرة الأولى في تاريخ الرئاسة الأميركية, يقر بحق الشواذ والمثلية الجنسية في الارتباط والزواج، وهنا لا يغيب عن نظر القارئ أن الهدف من ذلك السماح هو الأصوات الانتخابية، وبخاصة مع اقتراب 6 نوفمبر (تشرين الثاني) موعد الانتخابات الرئاسية. والشاهد أنه بعيدا عن التحلل الروحي والديني، ثم التبعات الأخلاقية المهددة من جراء مثل هذا الانحلال الذي سيقود ولا شك إلى انكسار متوقع للإمبراطورية المنفلتة, فإن السياسيين المنافسين قد وجدوا في موقف أوباما كعب أخيل جديدا يمكن من خلاله أن ينفذوا إلى الشارع الأميركي, في محاولة لدغدغة العواطف الإيمانية التقليدية.

في هذا الصدد كان ميت رومني يتحدث أمام حشد يزيد على عشرين ألفا في جامعة الحرية التي أسسها القس اليميني المتطرف الراحل جيري فالويل، عن خطيئة أوباما، مؤكدا أن الإرث اليهودي - المسيحي يقع في صلب الزعامة العالمية للولايات المتحدة، ومضيفا أن القيم الأميركية تؤكد المسؤولية الشخصية وكرامة العمل وقيمة التربية والخدمة، وفي الأساس على أهمية العائلة. المرشح الجمهوري أكد أيضا على معارضة زواج مثليي الجنس الذي أيده أوباما، مشيرا إلى أن «الزواج علاقة بين رجل وامرأة، مثيرا بذلك عاصفة من التصفيق الحاد لم تكن مفاجئة.

هل نحن بإزاء الحديث عن الإشكالية الأخلاقية في الولايات المتحدة الأميركية؟

هذا موضوع غاية في الأهمية, ومنطلق، في تقدير كاتب هذه السطور، لانهيار شامل كامل مقبل, حال ساد وانتشر هذا الفكر أميركيا, إذ لا يزال وللموضوعية يلقى هجوما كبيرا داخل أميركا, وقد دعا تصريح أوباما، وقبله الجدل الدائر حول حقوق الشواذ، إلى تعليق أحد أساطين الوعاظ الأميركيين الإنجيليين (بيلي جراهام) للقول: «يجب على الله (وحاشا لله) أن يعتذر لقوم لوط في سدوم وعمورة». وعندما سأله المقربون: لماذا؟ أجاب: «لأن أيام قوم لوط لم تكن هناك قوانين وشرائع تقنن وتسن وتنظم الفجور والشذوذ كما في أيام أوباما الذي يسعى رسميا في هذا الطريق المليء بالإثم والفجور».

والحديث عن المنظومة الأخلاقية المتهرئة داخل الولايات المتحدة الأميركية، وفي جزء كبير منها، في حاجة إلى مقالات تحليلية قائمة بذاتها، غير أن ما يلفت النظر هنا هو تصريح رومني حول الإرث اليهودي – المسيحي، فهل كان الرجل يغازل التيارات اليهودية والمسيحية المحافظة داخل أميركا أم أنه كان يقرر حقائق تاريخية لا يدري عنها الكثيرون شيئا ولا يسبر غورها غير الاختصاصيين في التاريخ الأميركي؟

أغلب الظن الأمران معا، بما يتسق والمثل العربي الشهير حول «ضرب عصفورين بحجر واحد». حكما لم يتسع وقت رومني ولا مستمعيه للمزيد من التحليلات عن هذا الإرث، وهو أمر هام جدا للقارئ العربي والإسلامي، الذي يتحير كثير جدا أمام الانحياز الأميركي غير المسبوق لدولة إسرائيل من جهة، وللديانة اليهودية من جهة ثانية، ويتساءل النفر الكبير: لماذا؟

من المقطوع به أن إسرائيل المعنى ليس الدولة كانت هي الروح التي تضرب بجذورها في الأراضي الأميركية، ففي سنة 1776 على سبيل المثال عندما فكر ذاك البلد الجديد المعتبر «أرض كنعان» الثانية، في تصميم شعار رسمي لهم، اقترح بنيامين فرانكلين على المؤتمر القاري الذي اعتمد نشأة الاتحاد تصميما لذلك الشعار، حيث صور مياه البحر الأحمر ليعبر بنو إسرائيل، ويغرق فيه فرعون وجيشه.

غير أن توماس جيفرسون فضل رسما أقل جهرا وعدوانية من ذلك، إذ اقترح أن يصور بني إسرائيل خارجين من مصر وراء موسى النبي وأمامهم عمود سحاب وعمود نار.

في مؤلفها الشهير «الصهيونية غير اليهودية» تقول المؤلفة الشهيرة ريجينا الشريف: «إن التوراة قد أصبحت مصدرا لأسماء الأميركيين الجدد، مثل أبراهام وصموئيل وبنيامين، ودليلا لتشريعهم، وغدوا يطلقون على أطفالهم أسماء أسباط بني إسرائيل، وأضحت مدنهم تحمل أسماء بيت لحم وعدن والخليل ويهوذا وسالم وصهيون والقدس». ولعل هناك خطا رفيعا يربط بين ميت رومني المورموني العقيدة، وبين الحديث عن الإرث اليهودي وجذوره الضاربة في الولايات المتحدة منذ بداية النشأة، ذلك أنه بقدر اتساع الأراضي الأميركية كثرت الدعوات ذات الملمح والملمس الديني، وقد كان من بينها دعوة المورمونيين أتباع القس جوزيف سميث الذين يطلق عليهم «أصحاب التيه في الصحراء الأميركية»، وقد ارتفعت أصواتهم مشبهين أنفسهم في ضياعهم بولاية يوتا الأميركية وصحرائها بالشعب العبراني في تيهه أربعين سنة في برية سيناء، وأطلقوا على نهر كولارادو اسم نهر باشان الوارد في التوراة.

أما بيتر جروس فيشير في كتابه «إسرائيل في ذاكرة أميركا» إلى أن القس الشهير جون ماكدونالد، راعي الكنيسة الإنجيلية في مدينة الباني، قد دعا من جهته الأميركيين إلى وجوب مناصرة اليهود في حلمهم، أي العودة إلى أرض صهيون، وهو ما يجب أن يكون على أيدي أميركا التي ستقود الأمم، وكان ذلك في العام 1814. تقاطع الإرث العالمي للزعامة الأميركية بين اليهودية والمسيحية، وعليه فقد تطلعت الأنظار إلى فلسطين قبل عقود طوال من وعد بلفور المشؤوم.

وهنا نشير إلى أن كثيرين لا يعرفون أن أول مستوطنة يهودية في فلسطين بنيت بأموال أميركية، فمن مدينة فيلادلفيا، حيث نشطت الأصولية الإنجيلية التي هي ثمرة تلاقح ولا شك بين اليهودية والمسيحية، قامت سيدة الإحسان كلورندا مينر، وهي زوجة أحد الأثرياء في المدينة، بدعوة مجموعة من رجال الدين المسيحي لزيارة الأراضي المقدسية عام 1850، وهناك قامت مع مجموعتها الدينية بشراء أراض بالقرب من مدينة يافا، ووهبتها لخدمة الرب في إقامة مستوطنات يهودية فوقها. وبالفعل فإن سيدة المستوطنات الصهيونية الأولى «بتاح تكفا» أو «جبل الأمل»، كانت قد بنيت فوق هذه الأراضي بأموال أميركية ثم أعيد توسيعها في العام 1883، بعد الموجة الأولى من المهاجرين اليهود إلى فلسطين. وعطفا على ما تقدم فإن ذلك الإرث الذي يخبرنا به رومني اليوم قد وجد له مكانا متقدما جدا في البيت الأبيض، وعبر رؤساء أميركا منذ زمن جورج واشنطن (1789 - 1797) حتى باراك أوباما، وما هو مكتوب في سجلات التاريخ يشير إلى أن رؤساء أميركا لم يظهروا الود فقط والصداقة فحسب تجاه اليهود، بل اضطلعوا بأدوار نضالية في مجال خدمة يهود الولايات المتحدة ومصالح اليهود في كل مكان بالعالم.

فعلى سبيل المثال يعد جورج واشنطن أول رئيس أميركي عمادة أساسية في التأصيل للوجود اليهودي في البيت الأبيض، فقد كان متدينا تقليديا إلى حد الهوس، ممارسا لكل شعائر وطقوس التوراة، وقد تجلت آمال واشنطن في رسائله إلى اليهود المنتشرين في أنحاء أميركا، ويقول فيها: «آمل أن يظل الرب صانع المعجزات الذي خلص العبرانيين في الأزمنة المقدسة القديمة من غي المضطهدين المصريين وزرعهم في أرض الميعاد، أن يسقيهم من ظل السماوات، وأن ينعم ذلك الرب القدير يهوه على من بالولايات المتحدة التي تأسست بقدرته بالبركات الدنيوية والروحية التي أنعم بها على شعبه».

وفي كلمة إلى جيشه سنة 1777 حث الجنرال واشنطن جنوده على أن «يرقوا إلى المستويات الرفيعة التي كانت لجيش بني إسرائيل العظيم، الذي ظل رافعا راية يهوه طوال أربعين سنة في القفر، تحت هوية وإرشاد وقيادة أعظم وأحكم جنرال عرفه العالم طوال تاريخه». أما جون أدامز، ثاني الرؤساء الأميركيين (1797 - 1801)، فقد كان الداعي الرسمي الأول لقيام دولة يهودية في فلسطين قبل هرتزل بقرن كامل، بناء على قوله: «أومن وأرغب»، أما الرغبة فهي لجهة عودة اليهود ثانية إلى أرض يهوذا كأمة مستقلة، وأما الإيمان فلجهة اعتقاده أن خبرة رجال الأمة اليهودية والمستنيرين فيها قد ساهمت في تحسين فلسفة العصر.

وإلى أبعد من ذلك يمضي يقول في رسالة له إلى توماس جيفرسون، الرئيس الذي سيليه: «حتى ولو كنت ملحدا وكنت أومن بالقدر الأعمى متصرفا أبديا في شؤون البشر، لكان حريا أن أومن بأن القدر قد قضى بأن يكون اليهود هم العامل الجوهري الأعظم والأفعل في جعل أمم العالم أمما متحضرة».

والثابت أن هذا الحديث يطول، غير أن علامة الاستفهام: «هل لعب رومني على وتر حساس يمكن أن يحدث مفاجأة ما في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة؟». بمعنى هل يمكن أن تنتخب أميركا الأنجلوساكسونية البروتستانتية رئيسا مورمونيا؟ يقول أحدهم: ولم لا؟ ذلك أنها إذا كانت قد اختارت رئيسا من جذور أفريقية إسلامية كما يزعم أصحاب التيارات اليمينية، فلماذا لا يختارون رئيسا من أصول بيضاء مورمونية؟ هل من محددات يمكن أن تدلنا على سير اتجاهات الرياح مؤخرا في ظل الصراع الدائرة بين أوباما ورومني؟

استطلاعات الرأي ربما تقودنا إلى تغير في مجريات الأحداث في واشنطن، إذ أفاد استطلاع أجراه معهد «ريليجيوس نيوز سيرفس» الخاص بخدمة الأخبار الدينية، بأن رومني أضحى يتقدم بفارق كبير على أوباما بين الناخبين الإنجيليين البيض، وقد كشف استطلاع عن أن رومني يلقى تأييد 68 في المائة من هؤلاء الناخبين مقابل 19 في المائة لأوباما. أما استطلاع «نيويورك تايمز» وشبكة «سي بي إس» فقد أظهر تقدما لرومني للمرة الأول بنسبة 46 في المائة مقابل 43 في المائة لأوباما.

هل كان موقف أوباما من زواج المثليين وبالا عليه؟ حكما إن ذلك كذلك، غير أن استنطاق رومني لتاريخ الأخلاقيات اليهودية - المسيحية في زمن الانتخابات الرئاسية قد أتى ولا شك أوكله على أرض الواقع، ويبقى الحديث ممتدا.

* كاتب مصري