وجود النفس في فلسفة ابن باجة والشيرازي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

قد يبدو وجود النفس للوهلة الأولى أمرا بديهيا من وجهة نظر الإنسان العادي ليس بحاجة إلى تعريف أو تدليل؛ فالنفس كائنة بالفعل تدل الفطرة الإنسانية على وجودها، ولكل منا نفسه الخاصة التي يستشعر بها حياته ويمارس بها أفعاله، ويحدد عن طريقها ميوله وأهدافه، ويتابع من خلالها مسيرة تقدمه أو انتكاساته داخل رحم الحياة التي قدر له أن يبدأها جنينا وينتهي جسدا خائرا منزوع القوى معدوم الحراك!! وبحسب هذا الطرح؛ فإن ثمة أشياء لا يحتاج المرء إلى أن يدلل على وجودها أو يستدل عليها ببرهان ما دامت موجودة بالفعل جبل الإنسان على معرفتها، والإقرار بها منذ أن تعرف عليها ووعى ذاته! والحقيقة أن الناظر في أمر النفس لا يملك سوى أن يتعجب لقواها، وطبيعتها، وانفعالاتها، وعواطفها، وهواجسها ووساوسها، وغضبها وشهوتها، ورأفتها ورقتها، وجحودها ونكرانها.. إلخ. كل هذه الأشياء لا يستطيع الإنسان أن يصفها بأكثر من مجرد ذكر اسمها فهذا أبلغ وصف لها!! لكن ذلك قد يكون مقنعا لغير المشتغلين بالفلسفة، ولم لا؟ أليست الفلسفة في أبسط تعريفاتها هي ذلك العلم الذي لا يكتفي بما هو مشاهد وإنما يسعى وراء كل ما هو بعيد غامض، ومحاولة تفسيره وتبرير وجوده، والانطلاق نحو ما ينبغي أن يكون بعد تفهمنا لما هو كائن؟! لذا كان لزاما على الفلاسفة أن يقدموا براهينهم الفلسفية المحضة الخاصة بوجود النفس الإنسانية وعلائقها بمختلف النفوس الأخرى.

فعلى الرغم من تأكيد ابن باجة أن النفس من الأمور ظاهرة الوجود، وأن طلب تبيين وجودها شبيه بطلب وجود الطبيعة، وهو من فعل من لا يعرف الفرق بين المعلوم بنفسه والمعلوم بغيره؛ فإن ذلك لم يمنعه مطلقا من التدليل عليها انطلاقا من البراهين الفلسفية ذاتها التي قال بها من قبل كل من أرسطو وابن سينا على وجه الخصوص!! والأمر برمته نلاحظه أيضا ضمن تضاعيف فلسفات صدر الدين الشيرازي. فبعد تأكيده على ضرورة وأهمية دراسة النفس وتقريره عدم حاجتها للتعريف سرعان ما شرع في تقديم استدلالاته العقلية والنقلية ليثبت بها وجود النفس!! وبمقارنة الجهود التي قام بها كل من ابن باجة وصدر الدين الشيرازي حول هذه المسألة بالذات (مسألة التدليل على وجود النفس) تتأكد لنا مجموعة من الملاحظات المهمة في مقدمتها تميز صدر الدين الشيرازي عن ابن باجة في ثلاثة أمور:

أولها: أنه على الرغم من كون استدلالاته لا تكاد تخرج في مجملها عن تلك التي قال بها أرسطو وابن سينا من قبل؛ فإنه لم يكن لأحدهما تابعا وإنما ارتضى لنفسه بعضا منها وعارض الأدلة المخالفة لسياق منهجه الفلسفي.

ثانيها: أنه عادة ما كان يبدأ كلامه في مبحث النفس بإثبات وجودها أولا، قبل الخوض في تعريفها وبيان قواها لاحقا.

ثالثها: أنه على الرغم من تأثر ابن باجة الشديد بابن سينا في مبحث النفس ونقله لأدلة إثباتها عنه نقلا يكاد يكون حرفيا؛ فإنه لم يشر إليه صراحة!! بخلاف صدر الدين الشيرازي الذي أكد على فضل الشيخ الرئيس، والإشادة بمباحثه الإلهية بوجه خاص.

والحقيقة أن ثمة ما يدعو إلى الدهشة من موقف ابن باجة هذا؛ خاصة أن تأثره بابن سينا بين للعيان ويكاد يشمل نظرية النفس لديه برمتها من حيث البرهنة على وجودها، وتوضيح ماهيتها، والقول إنها علة الوحدة في الكائنات الحية.. إلخ.

والحال أنه لا مجال هنا مطلقا لتبرير موقفه هذا بأنه ناتج عن ارتباطه بالفارابي؛ لذلك برزت لديه النفس المنطقية والسياسية أكثر من النفس النزوعية كما يقول البعض؛ لأن تبريرا كهذا لا يخرج في جوهره عن بحث المسألة في إطارها العاطفي لا العلمي!! وفي الأحوال كلها، قدم الفلاسفة مجموعة من الأدلة العقلية والبراهين الفلسفية التي تثبت وجود النفس الإنسانية، وفي مقدمتها البرهان الطبيعي الذي يعد من أقوى وأقدم البراهين الفلسفية على الإطلاق! فقد قال به كل من: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو. وهو يعتمد - في جوهره - على التفرقة بين كل من النفس والبدن، باعتبار نسبة الحركة إلى كل منهما؛ فالجسم ليس مصدرا للحركات التي يقوم بها؛ وإنما هو متقبل لها فقط عن النفس!! ويعد سقراط أول من دلل على وجود النفس بالبرهان الطبيعي ثم تابعه في ذلك أرسطو، بيد أن غموض الأخير كان دافعا للفلاسفة المسلمين لكي يحاولوا توضيح هذا الغموض؛ فجاءت براهين ابن سينا دالة على هذا الجهد الجبار الذي بذله في هذا المجال، رغم ما يشوب بعضها من أخطاء! فقد قام ابن سينا - من بين فلاسفة المشرق جميعا - بتقسيم الحركة إلى قسمين: الحركة القسرية ومحدثها محرك خارجي عنها، والحركة الإرادية وتنقسم بدورها إلى قسمين: ما يحدث منها مطابقا لما تقضيه الطبيعة، كسقوط الحجر من أعلى إلى أسفل تبعا لقانون الجاذبية. وما يكون حدوثه مخالفا لمقتضى الطبيعة، كتحليق الطيور إلى أعلى بدلا من سقوطها على الأرض؛ إذ إن حركتها هذه تأتي مضادة لسير الطبيعة.

أما فيما يتعلق بابن باجة؛ فقد أكد أولا أنه ليس في المتحرك وجود مضاد للمحرك، إذ المتحرك قوته فقط بخلاف ذوات الأنفس التي لا تحتاج إلى محرك خارجي عنها؛ لذا فهي تتحرك بذواتها. يقول في ذلك «والمتحركة بذواتها بعضها لا يحتاج في تحريكه إلى آخر غيره كأنواع الحيوان والصنف الثالث المتحرك من تلقائه، وهو يتحرك كالحيوان، متحرك عن غيره ولكنه فيه»!! وحقيقة القول إن ابن باجة لم يفرد مبحثا خاصا بإثبات النفس؛ ولكن براهينه التي ساقها في هذا المجال نجدها متضمنة في تناوله لحد النفس، وفي تعليقاته على السماع، بالإضافة إلى براهين أخرى تتوزع رسائله الأخرى. وهو ما يكاد يفرق بين أنواع الحركة من حيث المتحرك بذاته والمتحرك بغيره، حتى يشرع في تقسيمه لأصناف الصور من أجل الوصول إلى نقطة البدء في تعريف النفس والذي تابع فيه أرسطو في القول إنها «استكمال أولي لجسم طبيعي آلي».

والواقع أنه في استدلاله بالبرهان الطبيعي لا يكاد يخرج حرفيا عما قاله ابن سينا من قبل، خاصة في تأكيده وجود حركتين في المتحركات بذواتها: حركة طبيعية، وأخرى قسرية «فالمتحركات بذواتها: منها ما يتحرك طبعا، ومنها ما يتحرك خارجا عن الطبع وقسرا؛ فإن حركة الحجر إلى فوق هي خارجة عن الطبع وقسرا؛ لأنه قد قهر على ما في طبعه ضده».

فالمحركات المضادة للطبيعة إذن، كرفع اليد إلى أعلى والارتفاع بالجسد كلية إلى فوق، لا بد لها من تدخل النفس؛ لأنها تعكسها في هذا الاتجاه، وتدخل النفس هذا يعني تحركها بآلة بإمكانها أن تقوم بمثل هذه الحركات المضادة في سيرها للطبيعة، وهي التي أطلق عيها ابن باجة لفظ «الحار الغريزي»، أو ما يجري مجراه!! أما صدر الدين الشيرازي؛ فقد دلل على البرهان الطبيعي بالقول: إننا نشاهد أجساما تصدر عنها آثار لا على وتيرة واحدة من غير إرادة، مثل الحس والحركة، والتغذية، والنمو وتوليد المثل، وليس مبدأ هذه الآثار المادة الأولى (أي الجسم)؛ لكونها قابلة محضة ليس فيها جهة الفعل والتأثير. فإذن في تلك الأجسام مبادئ غير جسميتها، وليست هي بأجسام فيها، بل هي قوة متعلقة بتلك الأجسام، وهذه القوة هي النفس التي هي مبدأ لمثل هذه الأفاعيل.

يتحصل مما سبق؛ أن الأفعال التي نباشرها في الحياة الدنيا لا يمكن أن تكون صادرة عن الجسم أو أن تطلق عليه بحال من الأحوال!! إذ لو افترضنا ذلك؛ لأصبح كل جسم ضرورة ذا حياة وهذا باطل بداهة. إذن ثمة قوة أخرى، غير الجسم، تصدر عنها أفعال الحياة، وليست هذه القوة غير النفس!!

* كاتب مصري