رحيل غارودي.. صوت الإنسانية ضد حفاري القبور

إميل أمين

TT

«يوجد عيبان في السيد غارودي، أنه مسلم وفرنسي.. لقد طلبوا منكم محاكمته لمجرد أنه تساءل - ولم ينف المحرقة - عن العدد الحقيقي للضحايا اليهود في ظل النازية».

هكذا تكلم المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس مستهلا مرافعته الشهيرة أمام القضاء الفرنسي الذي حاكم الفيلسوف الفرنسي، والذي تغيبه اليوم يد المنون بتهمة معاداة السامية وإنكار المحرقة، وربما أوجز فيرجيس فشمل وأحاط بأبعاد الإشكالية الحقيقية للرجل الذي فضح زيف الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها.. يرحل روجيه «رجاء» غارودي في توقيت يبلغ فيه الاحتقان العالمي إنسانيا وحضاريا، دينيا وعنصريا أوجه، بل وعلى أبواب عودة للتيارات العنصرية السياسية والإيمانية.

.. هل نحن بصدد تأبين الرجل - الفيلسوف بالحديث عن نشأته الأولى في مرسيليا بجنوب فرنسا عام 1913؟ أم بصدد الحديث عن درجاته العلمية التي حازها دكتوراه من السوربون عام 1953؟.

ثم كيف لسطور قلائل أن توجز ستة عقود ونيفا من الكفاح الفكري كاثوليكيا رومانيا متزمتا، ثم شيوعيا ملتزما، ومسلما باحثا عن الحقيقة؟ من أين للمرء أن يبدأ الحديث؟

من اقرب أعمال الرجل لقلب صاحب هذه السطور عمله البديع «حفار القبور» وفيه تشخيص لواقع حال حضارة مأزومة تسعى للخلاص، ولا يقدر لها الطريق، وتتخبط على الطرقات، والنتيجة صدام في الظلام واحتكاك في الزحام وحروب ودماء، وتسليع للإنسان في زمن عولمة متوحشة وسوق رأسمالية لا ترحم ضعيفا ولا تقيم وزنا للأخلاقيات والقيم والمبادئ.

يعترف غارودي بأنه «وجد أن الحضارة الغربية قد بنيت على فهم خاطئ للإنسان وأنه عبر حياته كان يبحث عن معنى معين لم يجده إلا في الإسلام»، لقد بات العالم يعاني بحسب غارودي من حالة تفكك حضاري تتراجع فيه المسؤولية الجماعية، وتزداد من حوله فجوات التفاوت بين الناس، وقد كان التفاوت متفاقما في عصر انحطاط أثينا وبصورة أكبر في روما.. هل يعني ذلك إن الحضارة الغربية بدورها اليوم تدخل في سياق مشابه؟

إن إشكالية الغابة تعيش فيها الجماعة البشرية اليوم؛ والغابة متحللة من القواعد والقوانين المنظمة للحياة الإنسانية الراقية، ولعل أخطر قبر تحدث عنه غارودي في كتاباته هو ذاك المتعلق بالتفاوت وعدم المساواة، والتفاقم الفاضح لهذا المشهد يؤدي حتما ولا شك إلى انهيار المجتمع والحضارة، فقد امتلك ستة من كبار الأثرياء الرومان نصف أفريقيا أيام نيرون، وفي أيام قيصر كان هناك ثلث مليون رجل دون عمل في روما عاصمة الحضارة الإنسانية، ولذلك تصاعدت وتكررت ثورات العبيد.. ما السبب الذي يجعل البشرية تحفر لنفسها قبورا في القرنين العشرين والحادي والعشرين على غرار ما كان قائما في زمن الرومان؟

إنها العجلة والتضحية بالمستقبل من أجل الحاضر، في سبيل أرباح البعض. يتشدق الغرب بأنه حامي حمى المسيحية، لكن عمق المسيحية الحقيقية يفضح زيف تلك الدعاوى، هكذا يؤكد غارودي المسلم المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق بين أحد منهم، ولهذا نراه كشاهد من أهلها يذهب إلى أن الهدف الرئيسي لما يسمى بالسوق الحرة هو الربح والربح من أجل الربح وهذا هو النقيض التام لما جاء في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» وهو بالطبع النقيض التام لرسالة السيد المسيح التي قامت على الزهد في الدنيا ومحبة البشر بل محبة الله فقط «لا يستطيع المرء أن يعبد ربين الله والمال»، وهو الأمر الذي وجد له غارودي صنوا في الإسلام، ويكفينا أن نتذكر الآية الكريمة «آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» سورة الحديد 7.

لم يكن إسلام غارودي دعاية فكرية كما تندر البعض بل كان الأمر بالنسبة له بحثا ملتزما عن قيم العدالة الاجتماعية التي آمن بها في الحزب الشيوعي من قبل ووجد أن الإسلام ينسجم مع ذلك ويطبقه بشكل فائق في هذا السياق الابستمولوجي الرحيب والبعيد عن الضيق والتعصب الآيديولوجي المقيت.

لهذا كان من الطبيعي أن يرتبط غارودي بصداقة عمرها أكثر من أربعين عاما مع أحد الآباء الفرنسيين المشهورين برعاية الفقراء والمشردين (الأب بيير) صاحب مؤسسة «عماوس»، وبنفس الصداقة مع «يهودي منوهن» الذي يرى فيه صورة والده الحاخام موسى منوهن ولكنه تجسد في إطار الدين الإسلامي.

هل يمكننا الحديث عن فيلسوفنا الراحل دون التوقف طويلا أمام عمله الذي جلب عليه معارك ضارية «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل»؟

حكما لا غير أن علامة الاستفهام الحقيق بنا طرحها هل كان دافع هذا العمل رغبة في الانتقام والتشويه تزكيها روح تعصب أعمى أم جاء هذا الكتاب الخامس ضمن سلسلة مرتبطة ببعضها فكريا كتبها الرجل في مواجهة ظاهرة التعصب، كل صور التعصب سواء أكان شيوعيا أم مسيحيا، إسلاميا أم صهيونيا؟

في الدخول إلى عمق كتب وأفكار وقراءات روجيه غارودي أمر يفاجئ المرء وهو أن الرجل قد أوقف جزءا كبيرا من حياته وقلمه وكتاباته لمحاربة نزعات التعصب باعتبارها منبعا للعنف والحرب.

مثير جدا شأن غارودي الفكري ومحزن إلى أبعد حد ومد جهل الأجيال العربية الشابة بجزالة أفكاره وعمقها وإنسانيتها، ففي عام 1945 وقد كان غارودي حينها شابا وقائدا شيوعيا اتضحت رغبته في تعميق الحوار بين الثقافات فألف كتابه «من الرأي الواحد إلى الحوار» والمثير أن الذي كتب له مقدمة الطبعة الألمانية كان الأب اليسوعي الألماني كارل رانر أحد أهم المنظرين والخبراء في الفاتيكان.

لم تكن شيوعية غارودي لتمنعه من أن يصرح بما يجول في صدره من أفكار يؤمن بها، حتى لو كلفه ذلك استبعاده من الحزب الشيوعي الفرنسي كما حدث عام 1970، وقد كان من قادته ومنظريه بسبب ما أعلنه وقتها من أن «الاتحاد السوفياتي ليس اشتراكيا».

كان غارودي قاسيا في نقده لدخول الدبابات السوفياتية إلى براغ واعتبر الأمر بمثابة امتهان لجوهر الاشتراكية الحقيقية القائمة على العدالة في التوزيع والتكافؤ في الفرص والمشاركة في ثمار الحياة.

بنفس القدر وجه نقدا لما اعتبره تزمتا كاثوليكيا، ففي كتابه «هل نحن بحاجة إلى إله» كتب غارودي أن «السيد المسيح لا يوافق على النظريات المسيطرة على العالم اليوم» وقد كان هذا القول كفيلا بأن يستدعي مخزونات الرفض والغضب عليه من المؤسسات الكاثوليكية والتابعين لها.

وبنفس القدر لم يكن إسلام غارودي حائلا دون نقد للفكر الإسلامي لا لجوهر الدين، مع الفارق بينهما، ففي كتابه «عظمة وانحطاط الإسلام» أدان غارودي الحركة الإسلامية المريضة بالسالمة..

على أن نقده التزمت الكاثوليكي أو عدم رضاه وإدانته للحركات السياسية المتسلمة لم يقده إلى المحاكمة أو التشهير به.. من قاده إذن؟

في كتابه «الأساطير المؤسسة للدولة الإسرائيلية» حلل غارودي «البدعة الصهيونية التي استبدلت بإله إسرائيل دولة إسرائيل، والتي أنكرت بقوميتها القبلية الإيمان العالمي بكبار الأنبياء اليهود».. يقول غارودي «لقد أثارت انتقاداتي المتشددة للتزمت الإسلامي المسيحي كثيرا من الجدل وكان ذلك طبيعيا وأيضا مثمرا، لكنني اقتربت في كتابي الأخير (من تابوه) ولأنهم لا يملكون الحجج لمواجهتي استدعوا الشرطة وبقية القصة معروفة»، والغرامة المالية التي وقعت على المفكر والفيلسوف الفرنسي الكبير كانت لطمة للحضارة الغربية المتشدقة بحرية الرأي والاعتقاد. هل نتحدث عن غارودي الراحل الكبير وننسى رؤية الرجل لأميركا طليعة الانحطاط.. لماذا يحمل فيلسوفنا بهذا الشكل القاسي على الولايات المتحدة الأميركية؟ أليست هي المدينة فوق جبل «كما حاول أن يسوقها لنا دعاة المحافظين الجدد» وأي تضاد جوهري بين المشهدين الانحطاط والقمة؟ عبر ثلاثمائة صفحة يقدم غارودي الرد ويفند الحجج التي يتذرع بها دعاة الأمركة، وعنده باختصار غير مخل ضرورة وضع المشكلة في إطارها التاريخي الأميركي حتى ندرك كيف أصبح انتشار «طريقة الحياة الأميركية» وذيوع أوهامها المتعددة أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الأخلاق والفنون في عالم اليوم بحسب تحليلات غارودي، فإن انحطاط الثقافة ينبع من تاريخ الولايات المتحدة ذاتها ومن تكوينها لأن الثقافة لا تلعب أي دور منظم في حياة المجتمع الأميركي، بينما لعبت الثقافة والإيديولوجية دورا مهما ودائما في أوروبا وحياتها السياسية سواء في العصر المسيحي أو عصور التنوير والثورة الفرنسية أو في قرن القوميات أو عصر الماركسية وثورة أكتوبر.. أين جوهر المشكل؟

نجده حقيقة أن كل سكان أميركا مهاجرون من الخارج عدا سكانها الأصليين من الهنود الحمر الذين كانت ثقافتهم تنظم علاقتهم الاجتماعية غير أن أميركا الحالية قامت على إبادة 80 في المائة منهم إبادة كبرى لتتحول من 13 مستعمرة صغيرة في الغرب إلى ولايات تمتد لأقصى الغرب والجنوب والشمال وما لا تحصل عليه بالمال تحصده بالمدافع والرصاص.

هل كان غارودي ضوءا كاشفا لعورات الإمبراطورية الأميركية المنفلتة؟

الحديث في هذا الشأن في حاجة لصفحات بذاتها عما قاله الرجل عن لاهوت الهيمنة الأميركية والدولارات والإنسان ووحدانية السوق والفوضى العالمية الجديدة التي ترسم واشنطن في العقدين الأخيرين ملامحها في تشويه كامل لأي كرامة إنسانية خلاقة...

يرحل غارودي لكنه يرسم لنا عبر إضاءاته الذهنية طريق المستقبل.. كيف ومن أين السبيل؟

«المستقبل ليس ما سيكون لكن ما سنصنعه، التاريخ لم يكن أبدا محتوما لأن الإنسان ليس جمادا أو حيوانا إنه ليس أسير إحدى الغرائز ولا عبدا لقدر ولا الطفل المدلل للعناية الإلهية ولا دمية متحركة لأي حتمية»..

على هذا النحو يقرر فيلسوف النظرية المادية في المعرفة ملامح المستقبل وهي رؤية تتفق والتوجه الفكري القائل بأن أفضل طريقة يمكننا من خلالها أن نتنبأ بالمستقبل هو صناعته، فالمستقبل القادم هو الواقع الحاضر عندما يتشكل في بطن التاريخ وأحداثه ومنعرجاته ومنزلقاته.

قبل ظهور باراك أوباما صاحب «الجرأة على الأمل» بأربعة عقود كتب غارودي كتابا حمل عنوان «استعادة الأمل»، وفي حينها اتهمه البعض بأنه حالم وواهم، لكن الرجل كان موقنا بأنه دون يوتوبيا لن يكون للحياة معنى..

يرحل غارودي تاركا الإنسانية في حال البحث عن اليوتوبيا رغم ضبابية المشهد العالمي الآني وحفاري القبور الذين لا يستنكفون يحفرون.

* كاتب مصري