التقدير الربوبي في المشيئة لا تحتاج إلى وسيلة أو سبب لخلق الأشياء وتكوينها

راهن ستيفن هوكنز أحد زملائه على 100 دولار أن كلام هيغ غير صحيح.. ولا يمكن إثباته

TT

كان المساء يرخي سدوله ببطء في شهر شعبان - يوليو (تموز) الذي يطول نهاره ويصعب الصيام فيه حينما أعلن مذيع الأخبار عن اكتشاف يزعم علماء الفيزياء والفلك أنه من أهم الاكتشافات العلمية التي تفسر تكون الكون وبداية بنائه، وهي لا شك عندهم من أهم الاكتشافات بعد نظرية الانفجار الكبير (البغ بانغ) التي قال بها جورج لوميتر وإدوين هابل، ثم ناقشها وطورها العالم المعوق ستيفن هوكنز. وتزعم هذه النظرية أن الكون قد بدأ نتيجة لانفجار هائل نثر الكون في كل اتجاه فتكونت منه مع مرور الوقت الكواكب والنجوم والمجرات. وأهمية الاكتشاف الجديد تأتي من أنه قد أثبت صحة نظرية قال بها عالم شاب اسمه هيغ سنة 1964 تقول: إن الأجزاء التي تناثرت في الكون بعد الانفجار الكبير يسيطر عليها مجال أو حقل غير مرئي يحتوي على جزيئات (بوزونات) كونية تقوم بربط وتكوين ما تناثر في الكون ليأخذ شكل كتلته النهائية، سواء كانت على شكل نجوم أو أقمار، أو غير ذلك من أشكال الكون.

وقد استنتج هيغ وجود هذه الجزيئات عن طريق الملاحظة، إلا أنه لم يستطع إثبات وجودها بطريقة قطعية، فاتهمه بعض العلماء بالتخريف والجهل، بل إن ستيفن هوكنز راهن أحد زملائه على 100 دولار أن كلام هيغ غير صحيح ولا يمكن إثباته. وبعكس ذلك فقد أكبر علماء آخرون هذه الملاحظة ونشروا عنها الكتب والبحوث والمقالات، وقال عالم الفيزياء البروفسور ليون ليدرمان الحائز على جائزة نوبل: إن نظرية هيغ مهمة جدا وكتب عنها كتابا عام 1993 أحدث ضجة كبرى بين علماء الطبيعة والأديان، لأنه أطلق عليه اسم «جزيئات الله». وعندما سألوه لماذا سميتها بهذا الاسم؟ أجاب: «لأن هذه الجزيئات تمثل مركز اهتمام علم الفيزياء اليوم، وهي مهمة جدا في فهمنا النهائي لتكوين المادة رغم عدم وضوحها». وعندما ثبتت نظرية هيغ اليوم اعترف ستيفن هوكنز بخطئه وقال: خسرت مائة دولار.. فأصبح قوله مثلا! وأنا لا أخفي أنني أصبت بنفس الدهشة العلمية التي أصيب بها زملائي في الجامعة عند سماع الخبر.. وكنت أصغي إليهم وهم يتحدثون عن اكتشاف جزيء يمكن من خلاله معرفة الطريقة التي يعمل بها الكون الذي نعيش فيه، بالإضافة إلى أنه قد يفك رموز الكثير من الأسرار التي تلفه، إذ أنه قد يشرح أصل كتلة المادة، الأمر الذي من الممكن أن يعيد كتابة الكثير من المعادلات والنظريات المتعلقة بعلم الأوزان والكتل. وكان المؤمنون بالإله من زملائي يحاولون ربط هذا الاكتشاف باستنتاج آخر وهو أن القوة التي أوجدت هذه الجزيئات التي اكتشفت مؤخرا هي قوة مدبرة لا حد لها، وهي قوة الخالق، لأن هذه الجزيئات المكتشفة هي التي تتسبب في تشكل الذرات الكونية الأخرى فتتكون منها النجوم والأقمار والشموس. كنت أصغي إلى زملائي المؤمنين وهم يتحدثون وأنا أتأمل الغروب فأرى آخر أهداب الشمس وهي تنسحب من فوق أعناق الأشجار العالية التي بللها المطر.. وساورني إحساس بالحزن لهم ولكل المؤمنين بالله دون إسلام.. لأنهم يعومون في بحر الشك دون زورق، ولذا فإنهم يبحثون عن أي سبب يتعلقون به فيقوى به إيمانهم. ومشكلة الشك بالإله يعاني منها أكثر الأوروبيين، لأن فكرهم المادي قد انتصر على أصول فكرهم الديني الذي لم يعترف بالعقل كوسيلة للإيمان. وأحجمهم العداء السياسي للإسلام عن ربط الإيمان بالمنهج الإسلامي الذي يجمع بين العقل والتجربة والفقه والشرع، فكان العلم فيه سبيلا إلى الله، وكان منهج الله سبيلا إلى العلم، والحقيقة أننا لا نحتاج إلى نظريات هيغ وليون لإثبات وجود فاطر الكون، لأن آثاره موجودة أمام أعيننا بوضوح أكبر بكثير من بوزونات هيغ.. ونظريات هوكنز.. فيكفي غروب الشمس لكي نرى أن الله موجود في كل مكان.. يكفي أن نشاهد قطرات المطر وهي تنزلق على خيوط الضوء لنجد أثر الله في خلقه.. ورحم الله الفقيه الورع ابن الجوزي الذي صدر «تلبيس إبليس» وهو كتاب من أهم كتبه في فقه المعتقد بقوله: «..إن أعظم النعم على الإنسان العقل، لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل.. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس».

إن نصوص القرآن الكونية وحدها كافية لمن يبحث عن الله، ولعل من أوقع ما يمكن إيراده هنا قوله تعالى في سورة يس: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

وأمر آخر مهم.. إن المؤمنين اليوم بحاجة إلى أن يركزوا على مبدأ التقدير الربوبي المتمثل في المشيئة التي لا تحتاج إلى وسيلة أو سبب لخلق الأشياء وتكوينها، بل يكفي مشيئته التي تقع ما بين الكاف والنون.

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (الأنعام 73) والله الذي ليس كمثله شيء، لا تسري قوانين العلم التجريبي عليه، ولا على البعد الزمني والمكاني عنده، بل تسري على ما خلق مع هذه الأبعاد من عوالم ومجرات وكوازارات وأجرام سحيقة وثقوب سوداء.. ويخطئ من يحاول أن يفهم قوانين الحياة بشمولها لله، وكذلك يخطئ من ينفي البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة طالما أن هذا البحث يقوم على الحقائق المطلقة لا على التخمينات. فما هو ثابت في الإسلام لا يمكن أن يخالف ما قاله العلم مما هو قطعي، أما ما هو ظني فأمره أمر آخر. والكثير مما يقول به العلماء، وخاصة في مجال الفلك، هو ظني الثبوت أو ظني الدلالة أو كلاهما معا، وخير مثال على ذلك ما يسمى بمعادلة المخلوقات الذكية، وهي معادلة حسابية طريفة يعتبرها العلماء من أهم المعادلات التي تخمن وجود مخلوقات ذكية في مجرتنا السماوية. وقد تحدث عن هذه المعادلة الدكتور دالاس كامبل في الجامعة المفتوحة فوصفها بأنها «علمية وعقلية وبمنتهى الدقة». وهي عبارة عن حسابات قام بها الدكتور فرانك دريك عام 1961 في مرصد كرين بانك الأميركي مع 12 عالما من علماء العالم اجتمعوا خصيصا لهذا الغرض في غرب فرجينيا فتوصلوا إلى نتيجة سميت «معادلة دريك» على اسم البروفسور دريك منظم المؤتمر. وتوصلت هذه المعادلة إلى القول بأن هناك في مجرتنا 5000 حضارة ذكية منتشرة في الفضاء. وتتكون معادلته من فرضيات قائمة على تخمينات ضربت ببعضها وهي: 1 عدد النجوم المتكونة كل سنة. 2 عدد الكواكب السيارة منها. 3 عدد هذه الكواكب الموجودة ضمن المجموعة الشمسية والتي تتوفر فيها بيئة الحياة. 4 عدد الكواكب منها التي قد توجد فيها حياة فعلا. 5 عدد الكواكب التي قد توجد فيها مخلوقات ذكية. 6 عدد الكواكب التي يمكن أن تكون متطورة علميا فترغب في الاتصال بالإنسان. 7 مدة الزمن الذي يمكن لهذه المخلوقات أن ترسل فيها رسائلها إلينا! ورغم ما في هذه المعادلة من قصور واضح بقي علماء الفلك يعتبرونها «علمية وعقلية» حتى اليوم. وحتى اليوم لم يتصل بنا أحد من هذه الحضارات المزعومة رغم تطور وسائل الاتصال وأجهزة الكومبيوتر عالية الذكاء التي تتحكم فيها! أما أنا، فيكفيني قوله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وتكفيني قطرات المطر وهي تنزلق على خيوط الضوء.