براهين وجود النفس عند ابن باجة والشيرازي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

عرضنا في المقال السابق للبرهان الطبيعي الذي استخدمه كل من ابن باجة، الفيلسوف الأندلسي، وصدر الدين الشيرازي، الحكيم المتأله الصوفي الإشراقي، في سياق إثبات وجود النفس الإنسانية بأدلة فلسفية عقلية. ونستكمل اليوم حديثنا عن باقي البراهين ونبدأ ببرهان «الرجل المعلق في الهواء»!! ففي تصوره لصورة رجل يهوي في الفضاء السحيق، بحيث يوجد في وضع لا يحس فيه بأي عضو من أعضائه الظاهرة أو الباطنة، يؤكد ابن سينا أن هذا الرجل في تلك الحالة يشعر تماما بوجود نفسه باعتبارها جوهرا بسيطا مخالفا في حقيقته للبدن، فعلي الرغم من أن أعضاءه لا تتلامس مطلقا، أو تصطدم بشيء من الأشياء؛ فإنه يدرك ذاته مع إغفاله جميع أعضائه!! ومن الملاحظ أن ابن باجة لم يشر إلى هذا البرهان مطلقا، ولو ضمنيا، في مؤلفاته، دون أن يذكر سببا لذلك. فلو أنه تجنب الخوض في أدلة ليست يقينية، لتعرض قائلوها، وفي مقدمتهم ابن سينا، لأوجه النقد المتعددة من قبل الباحثين، فإن ذلك لا يعفيه من ارتكابه خطأ أفدح، ألا وهو عدم مناقشته الأدلة التي تتعارض مع مذهبه طالما أنه ليس مقتنعا بها. هذا ما يمليه الموقف الفلسفي الأصيل في رأينا، وليس التجاهل، أو عدم المواجهة!! خصوصا أنه على الرغم من نقاط الضعف التي أبداها الباحثون في ما يتعلق بهذا الدليل؛ فإنه يحسب لابن سينا محاولة فلسفته لهذا البرهان، وإضافة صياغة جديدة له تعتمد على توهم حالة ما خيالية؛ ولو أنها أدت إلى انتشار هذا البرهان لاحقا لدى كثير من المتأخرين عنه، وخصوصا ديكارت.

أما صدر الدين الشيرازي؛ فإنه يعتمد هذا البرهان في استدلالاته، على نحو ما يبدو واضحا من سياق كلامه: «لو فرضت أنك في أول الخلقة كامل العقل، صحيح البدن، في هواء مطلق، منفرج الأعضاء غير متلامسها، ولم تكن مستعملا الحس في شيء أصلا، وجدتك فاقدا لكل شيء إلا ذاتك، فوجدتها لا من دليل ووسيط، فذاتك غير ما لم يدرك بعد من جسم أو عرض».

بل نراه يعود مرة أخرى ليؤكد أن الإنسان بمقدوره أن يحس وجود ذاته في كل وقت وحين، حتى وإن كان ناقص الإدراك، مثلما هو الحال بالنسبة لكل من النائم والسكران!! على الرغم من أنه في الحالتين السابقتين يكون غافلا عن أعضائه جملة؛ ولذا أقرت الشريعة برفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؛ لأنه يكون غافلا عن أعضائه مع إدراكه لذاته. وهذا دليل قاطع على أن شيئا ما، بخلاف البدن، يبقى حاضرا أبدا في كل الأوقات؛ حتى ولو فارق هذا الشيء جسد الإنسان بالموت؛ لأنه يلحق بالبدن دون النفس. وهو ما أكده الشيرازي بالقول: «أنت لا تغيب عن ذاتك في جميع أوقاتك؛ حتى في حالتي النوم والسكر، وتغيب أحيانا عن أعضائك كلها أو كل واحد في وقت، فأنت وراء الجميع».

والحال أن الهدف الأسمى الذي سعى إليه ابن سينا والشيرازي من خلال تعويلهما على هذا الإثبات، هو التأكيد على أن الإنسان لا يغفل عن إدراك ذاته حتى لو غفل عن إدراك أعضائه. وهو ما يبدو واضحا من خلال قول ابن سينا: «ارجع إلى نفسك وتأمل، هل إذا كنت صحيحا، بل وعلى بعض أحوالك غيرها، بحيث تفطن للشيء فطنة صحيحة، هل تغفل عن وجود ذاتك ولا تثبت نفسك؟ ما عندي أن هذا يكون للمستبصر، حتى إن النائم في نومه والسكران في سكره لا تغرب ذاته عن ذاته، وإن لم يثبت تمثله لذاته في ذكره، ولو توهمت أن ذاتك قد خلقت، أول خلقها، صحيحة العقل والهيئة، وفرض أنها على جملة من الوضع والهيئة بحيث لا تبصر أجزاءها، ولا تتلامس أعضاؤها؛ بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواء طلق، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنيتها».

ومن جملة البراهين التي استخدمها فلاسفة الإسلام لإثبات وجود النفس «برهان الاستمرار»، ومفاده أنه في الوقت الذي يخضع فيه البدن لتغيرات كثيرة على مدار النشأة الإنسانية منذ ابتدائه مضغة في الرحم، وتحوله عبر مراحل الطفولة والشباب حتى الكهولة، تستمر النفس على حالها بحيث لا تلحقها زيادة أو نقصان. والواقع أن ابن سينا يذكر في هذا الاستدلال أن التغير الذي يطرأ على الجسم إنما ينتج عن عملية التغذي، حيث يبدل النمو شكل الجسم، أما النفس التي تدبره فلا يلحقها تبدل أو تغير على الإطلاق.

ويسوق ابن باجة هذا الدليل بصورة مخالفة لفظا لا معنى، فيقول إنك «إن قطعت يدي إنسان أو انتزعت عينيه بالجملة، فانتزعت جميع أعضائه التي ليس بها قوام الحياة قيل إنه واحد بعينه. فظاهر من هذا القول أن المحرك الأول ما دام باقيا واحدا بعينه، كان ذلك الموجود واحدا بعينه سواء فقد آلاته ولم يجد عوضها كالشيخ الأدرد، أو وجد عوضها كحال من تنبت له الأسنان».

ولا يكاد يخرج صدر الدين الشيرازي عن برهان ابن سينا حين يقول: «بدنك وأعضاؤك دائمة الذوبان والسيلان بعكوف الحرارة الغريزية على التحليل والتنقيص، وكذا غيرها من الأسباب، كالأمراض الحارة والمسهلات، وذاتك منذ أول الصبا باقية، فأنت أنت لا ببدنك»!! ومن البراهين التي عول عليها الفلاسفة أيضا «البرهان السيكولوجي»، وينفرد باستخدامه ابن باجة دون صدر الدين الشيرازي، حيث أشار إليه في كل من «كتاب النفس»، و«تدبير المتوحد». وهذا البرهان يقوم، في جوهره، على توضيح الخصائص النفسية للنفس الناطقة وإبرازها. فأحوال النفس المختلفة، بما في ذلك انفعالاتها التي تصدر عن جملة الأحاسيس المختصة بالفرح والألم وما يتبعهما من ضحك وبكاء وتعجب واندهاش وخجل وحياء...إلخ، إلى جانب تصورها للمعاني ذات الدلالة العقلية المجردة، فضلا عن قدرتها على التوصل إلى معرفة هذه المجهولات ومعاينتها، كل هذه الأحوال وما يتبعها من عواطف وانفعالات تعد من الأشياء التي يختص بها الإنسان دون غيره من الكائنات بسبب وجود النفس.

وهو ما عناه ابن باجة بالقول إن «وجود القوة الناطقة يجدها الإنسان في نفسه ويعلمها علما يقينيا لا يشك فيه بشيء من التثبت، وذلك أننا نجد في أنفسنا ما نميز به ونفضل عن سائر الحيوان المتغذي الحساس. إن الإنسان يجد في نفسه معلومات تحتوي على ميز الجميل والقبيح والنافع والضار، ويجد في نفسه أمورا يرى صدقها لا يشك فيها، وأمورا على ما هي ظن، وأمورا هي كذب لا يجوز في الوجود، كل هذه المعلومات يجدها الإنسان في نفسه. وهذه المعاني المعلومة في النفس تسمى نطقا، وما يوجد في الإنسان يسمى ناطقا».

يتحصل مما سبق أن أسمى ما في الإنسان هو نزوعه الدائب لتحقيق الذات، فسواء كان النزوع نزوع الفكر أو نزوع التشوق؛ فهو لا يصدر إلا عن النفس. وكذلك سائر أحوال النفس المختلفة، فهي التي تهيمن على سائر هذه الأمور وتوجهها التوجيه الملائم. ويشير ابن باجة إلى هذا المعنى بالقول: «فالمحرك الأول الذي فينا مؤلف من خيال ونزوع، والنزوعي يعبر عنه بالنفس؛ ولذلك أقول: نازعتني نفسي».

أما «برهان التجرد»، فقد انفرد به صدر الدين الشيرازي دون ابن باجة، حيث حاول من خلاله التدليل على وجود النفس من جهة، وإثبات تجردها من جهة أخرى. وهو ما يبدو واضحا من قوله: «ونحن نريد أن نذكر في هذا الفصل البرهان على وجودها مطلقا، والحد لماهيتها نفسا». ومع أن البسيط لا حد له وليس عليه برهان من جهة هوية ذاته البسيطة؛ فإن الشيرازي أكد أن كل ما هو بسيط قابل للتحديد من جهة الفعل أو الانفعال، ويقام عليه أيضا البرهان. يقول في بيان ذلك: «أما البرهان على وجودها فنقول إننا نشاهد أجسامها تصدر عنها الآثار، لا على وتيرة واحدة من غير إرادة، مثل الحس، وكل قوة فاعلة تصدر عنها الآثار لا على وتيرة واحدة تسمى نفسا، وهذه اللفظة اسم لهذه القوة، لا بحسب ذاتها البسيطة فحسب، بل من حيث كونها مبدءا لمثل هذه الأفاعيل المذكورة؛ ولذلك صار البحث عن النفس من جملة العلم الطبيعي».

وواضح جدا أن الشيرازي يحاول من خلال التعويل على هذا البرهان، ليس فقط إثبات وجود النفس؛ وإنما البرهنة على تجردها أيضا. ذلك أن إدراك النفس لجملة من الأمور المعقولة، والتي هي بطبيعتها مجردة عن المادة، كاللانهاية والزمان وغيرها من المدركات التي ليس لها صور في المواد؛ إنما يدل على تجردها، هذا إلى جانب الأفعال المختلفة والإدراكات المتنوعة التي تجتمع في وعاء النفس، وهي أشبه ما تكون باللوح الذي تجتمع فيه علوم شتى، وصنائع تترقى، وأخلاق مختلفة، وأغراض متخالفة، وأهواء متفقة، فهي دفتر روحاني، ولوح ملكوتي لا تتراكم فيه الصور كما تتراكم وتتزاحم في الهيولي الجسمانية.

تلك كانت جملة البراهين التي استدل بها كل من: ابن باجة وصدر الدين الشيرازي على وجود النفس. وكما هو ملاحظ؛ فإنها لا تخرج في عمومها عما سبق أن أقره كل من: سقراط وابن سينا بصفة خاصة، ومن الملاحظ كذلك أن مسألة إثبات وجود النفس لم تستأثر بعناية ابن باجة على النحو المشاهد لدى صدر الدين الشيرازي!!

* كاتب مصري