إنجازات الشافعي ومآخذ نقاده

رضوان السيد

TT

لا يكاد يمضي شهر إلا وتصدر قراءة جديدة للإمام الشافعي، وبخاصة لنصّه في «الرسالة». والذي قرأته في الشهور الماضية مقالة طويلة في الثناء على منطقيته وتماسك آرائه في مجلة Islamic Law and Society في نقد رأيه في استنباط الأحكام حصرا بالقياس، بحيث ضيّق ما كان واسعا في زمن شيوخه، في النصف الأول من القرن الثاني الهجري.

ولست بالطبع في مجال حسم الأمور لصالح نظامه الفقهي أو ضده. لكنني بصدد القيام بمراجعة سريعة لوجوه القوة أو الانتقاد في ذاك النظام. إنّ الواضح أنّ الشافعي كان يريد إقامة نظام في استنباط الأحكام يفارق مذهب أهل المدينة، ومذهب أهل الرأي على حد سواء. والواقع أنّ الاتجاهين القديمين هذين، كانا متلاقيين أو متقاربين على الرغم من حدة الجدال بينهما، لتقارب الرأي في مفهوم «السنة»، بينما رأى محمد بن إدريس الشافعي أن هذا المفهوم ما عاد من الممكن الدفاع عنه أو الاحتفاظ به وسط نقد المعتزلة أو العقلانيين أو منكري حجية السنة. فالتوجه الأكثر تحديدا (وإن فارق الغموض القديم) أكثر قابلية للفهم والدفاع، ومشعر بالانضباط والعملية. ومن طريق التحديد الدقيق للسنة تتمايز مفاهيم الإجماع والعرف وأقوال الصحابة. وإلى جانب هذا الهدف المزدوج (ضبط المفهوم، والرد على المعتزلة وآخرين من منكري حجية الحديث)، كان هناك هدف الاقتراب من اليقين في مناهج إصدار الأحكام. فقد كان الاختلاف بين فقهاء الأمصار وداخل المصر الواحد هو السائد، وكانوا يحمدون لبعضهم بعضا هذا «التقليد» في الاعتراف بضرورات الاختلاف ليس لاختلاف التقدير في تكييف الواقعة أو الحدث وحسب؛ بل وللأعراف الموروثة في كل مصر وناحية بالحكم في هذه المسألة ومشابهاتها بهذه الطريقة أو تلك. ونعرف انتقادات متذمرة لهذه الخصوصيات والفوضى التشريعية. وأقدم نص نعرفه ما ورد عند ابن المقفع (139هـ أو 142هـ) في رسالة «الصحابة» الموجّهة إلى الخليفة المنصور، والتي ينصح له فيها أن يكتب للقضاة «كتابا جامعا» لشدة الاختلاف في الحكم في الدماء والأموال حتى بين القضاة في المصر الواحد. ونعرف من كتاب ابن عبد الحكم في مناقب عمر بن عبد العزيز أن الخصوصيات الفقهية والقانونية في الأمصار أو كما يسميها: الأجناد، أزعجته إزعاجا بالغا، لكنه ما استطاع فعل شيء إزاء ذلك. وتدلّ انتقادات أبي حنيفة للأوزاعي وعثمان البتّي وابن أبي ليلى على شعور من جانب شيخ أهل الرأي بعدم جدوى التشبّث بخصوصيات الأمصار. لكنّ أبا حنيفة ما كان يمتلك بديلا غير رأيه الفردي ومنهج: أن لا ترى كذا أو كذا. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل من رأي أبي حنيفة مقدّما على رأي ابن أبي ليلى أو الأوزاعي؟ ابن المقفع قال للمنصور إنه ينبغي الاحتكام إلى الكتاب والسنة، وبعد ذلك مباشرة يأتي رأي أمير المؤمنين إن لم يكن هناك حكم في الكتاب أو السنة، وربما بهذه الطريقة فكر المنصور عندما طلب من الإمام مالك تحويل كتاب «الموطأ» الذي كان قد طلب إليه تأليفه - إلى كتاب جامع أو بمثابة دليل للقضاة. لكنّ مالكا خشي من الاقتراب من السلطة إلى هذا الحدّ بحيث تفرض «قانونه»؛ وهذا فضلا عن خلاف زملائه ومعاصريه عليه بما في ذلك أولئك الذين ينتسبون إلى الحجاز أو إلى المدينة. فالليث بن سعد (175هـ) الفقيه المصري محسوب في الأصل على فقه أهل المدينة وليس أهل الرأي، لكنه كتب إلى صديقه مالك بن أنس معترضا على اعتباره «عمل أهل المدينة» دليلا شرعيا أو أصلا في استنباط الأحكام.

ولقد أطلت في هذا القسم من هذه المداخلة لأستنتج أنه كان لدى الشافعي هدف أو طموح ثالث وهو الخروج من فقه الأمصار وفقهائها إلى فقه المذهب أو المدرسة. وهذا أمر لا يمكن الوصول إليه إلا بتحديد شامل لأدلة الأحكام، والاحتكام في ذلك إلى ما لا يمكن الخلاف عليه، بالخروج من الخاصّ إلى الإسلامي العام.

ولذا فقد بدأ الشافعي بالدليل المجمع عليه وهو كتاب الله. وقد سبقته إلى العمل عليه مجموعتان: المجموعة التي اهتمت بلغويات القرآن، ووصلت مع كتاب: «مجاز القرآن» لأبي عبيدة معمر بن المثنّى (209هـ) إلى مستوى رفيع يقع بين الفيلولوجيا (=المعاجم الشاملة والخاصة) واللسانيات (قراءات القرآن) وآفاق التخييل (المجاز والاستعارة والكناية.. الخ). والمجموعة الثانية انشغلت بتفسير فقهي للقرآن، أو لنقل إنها حددت خمسمائة آية باعتبارها هي الآيات التي تتضمن أحكاما (= تفاسير الخمسمائة آية لقتادة بن دعامة ولأبي الحواري ولمقاتل بن سليمان وغيرهم). واستنادا إلى هذه البحوث ونتائجها التي قادها الشافعي إلى مديات أبعد، عقد في مطلع الرسالة فصلا بعنوان البيان عالج فيه الإشكاليات والأواليات المعينة على قراءة سليمة وصحيحة للقرآن من ناحية المفرد اللغوي فالمصطلح القرآني، ومن ناحية الأسلوب والتركيب العام. وكان الشافعي هو الذي استعمل مصطلح «الخطاب» Discourse للتدليل على الرؤية الكونية والتشريعية للقرآن الكريم، وصار بعد ذلك مصطلحا عاما لدى الفقهاء وعلماء الأصول. ويمكن القول إنّ تجديد الشافعي في هذا المعرض يتركز في ثلاث نقاط: مسألة البيان والتي انتهت لتكون خطاب الله سبحانه المتعلّق بأفعال المكلّفين. وقد اعتمد في ذلك على «ما تعرفه العرب من كلامها»، ثم على ما صار متعارفا عليه بين المسلمين منذ زمن الصحابة وإلى زمن تابعي التابعين. فالأساس الأول (اللغوي والأسلوبي) تأسيسي، والأساس الثاني اصطلاحي وعرفي. والمسألة الثانية أنّ الخطاب الإلهي خطاب هداية واشتراع في الوقت نفسه، وأنه متضمن سائر مفردات الكون. والمسألة الثالثة أنّ الاختلاف يمكن أن يكون في تأويل مفرد أو تعبير، لكنّ مرجعية القرآن الكريم لا تتزعزع ولا تداخلها الشكوك حتى تلك الناجمة عن الاختلاف في التأويل ويرجح Madelung عدم وجود أبعاد كلامية لـ«رسالة» الشافعي، لأنّ مسألة خلق القرآن ظهرت فيما بعد في زمن تلامذته؛ ولذا فهي تبدو أكثر في كتب تلامذته مثل أبي عبيد القاسم بن سلاّم، ومثل الحارث بن أسد المحاسبي. فأبو عبيد كتب رسالة في الإيمان، وكتب في فضل القرآن وقِدم كلام الله. والمحاسبي ردّ على القائلين بخلق القرآن مباشرة. إنما الذي يقرأ فصول «الرسالة» عن القرآن، والرسائل الأخرى، يشعر أنّ الشافعي كان يعرف النقاشات الدائرة حول كلام الله، ومصطلح الخطاب نفسه دالّ على الفعالية والتأثير من خلال الدعوة ومن خلال الاشتراع. ونحن نعلم أنّ الذين قبض عليهم بمصر (بعد وفاة الشافعي) من القضاة والقراء والمحدّثين، لإرغامهم على القول بخلق القرآن، كانوا إمّا من تلامذته أو تلامذة مالك شيخه. وخلاصة الأمر أن الشافعي ما كان الأول في اعتبار القرآن المصدر الرئيسي للتشريع، لكنه كان الأول في صنع مصطلح الخطاب، وتطوير مسائل البيان وطرائقه.

بيد أنّ الأبرز في الظاهر بين بحوث الشافعي في «الرسالة» هو التركيز على السنة (باعتبارها هي الحديث النبوي)، واعتبارها مصدرا ثانيا ومستقلا للتشريع. كانت السنة تعني لدى القدماء من التابعين قبل الشافعي قول وعمل النبي وأصحابه والسلف الصالح. ولأنها كذلك فهي لا تنضبط، وقد داخلها الكثير من الوضع والانتحال. وقال الشافعي إنّ السنة هي الحديث الصحيح (من طريق الرواة والثقات واحدا عن واحد وأكثر) المرفوع إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه. فعندما يذكر القرآن (الله ورسوله) ويطلب منا طاعتهما، فالمعني بذلك كتاب الله، وسنة رسول الله التشريعية دون غيره. لقد ذهب أهل الرأي إلى تضعيف وعدم اعتبار الكثير من الأحاديث، باعتبارها سننا لا تنضبط، ولا يمكن الاستناد إليها. فتجرأ المعتزلة ومتكلمون آخرون على إنكار حجية السنة كلها، باعتبار عدم الثقة بالنقل والناقلين، وباعتبار عمومية التسمية مثل سنة الشيخين وسنن علي أو غيره من كبار الصحابة. وكان هناك من قال إنه حتّى لو صحت النسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ فإنّ الشارع هو الله سبحانه وليس أحدا سواه، وإنما كان رسول الله مبلِّغا. والشافعي بفهمه اللغوي واللساني للقرآن، يرى أنّ القرآن قال باشتراع الرسول بشكل مستقلّ. لكنّ الوحيدة التي تكتسب مرجعية وتتطلب الاتّباع هي سنة الرسول (ص). ولذلك فقد حدّد أولا مصطلح السنة، وأنها القولية المسندة من طريق الثقات إلى الرسول. وما كان «أهل الحديث» و«أهل السنة» أيامه يدقّقون في هذا الأمر، فأرغمهم عمل الشافعي على التدقيق وصنع علوم الحديث ومصطلحه. ثم مضى بالأمر إلى نهايته، فإذا كانت السنة ثابتة النسبة إلى الرسول سواء في حديث الواحد (عن الواحد) أو في الحديث المتواتر؛ فإنها تصبح مصدرا مستقلا للتشريع. لكن وبما أنهما مصدران مستقلان، فما العلاقة بينهما؟ كان العلماء قبل الشافعي يقولون إنّ القرآن قاضٍ على السنة وليست السنة بقاضية على القرآن، بمعنى أنّ القرآن ينسخ السنة وليس العكس. لكنّ الشافعي ذهب إلى أنّ الحديث الصحيح (أو المتواتر؟) يمكن أن ينسخ القرآن. وما وافقه الأكثرون على ذلك، لكنهم أخذوا بكلّ نتائجه الأخرى.

وفي الخلاصة؛ فإنّ عمل الشافعي على السنة نقل البحوث الفقهية والأصولية من حال إلى حال. بيد أنّ آراءه في الإجماع والقياس ما كانت أقلّ تأثيرا.