رمضان الخير في بلاد المسلمين

موئل يوسف عز الدين

TT

شهر الروح قد حل علي كما تحل قطرات المطر على وجه الصحراء بعد حول من غياب. وكان تناسب مقدمه الميمون مع إجازة الصيف سببا أتلفت فيه حولي بحثا عن مكان أذهب إليه كي أصوم فيه بعيدا عن شمس غرب الأرض الخجولة وأمطارها الباردة وبعيدا عن أشباح الأشجار وعواء ريحها العاصفة.

وبعيدا عن طبيب أسناني المرعب وموعده القادم بعد أيام.. وأنا لا أحب أطباء الأسنان وخصوصا في بريطانيا، لأن أكثر من زرت منهم كانوا يتعاملون مع فمي كما لو كانوا عمالا يرصفون الطريق العام بالحفارات المدوية وموتورات سحب المياه.. قررت الهروب إلى عمان، فنحن العراقيين نحب الأردن وأهله لقربهما من العراق وأهله.. ووجدتني جالسا على طائرة الخطوط البريطانية إلى عمان أقرأ الـ«ديلي تلغراف».. وأثار اهتمامي خبر عن حادث أقام أميركيا وأقعدها عن قاتل في مدينة دنفر في أميركيا أطلق النار على نحو 70 شخصا فنحر منهم 12 رجلا وامرأة كانوا يصطفون للدخول إلى السينما لمشاهدة فيلم «الفارس الأسود» الذي يروي قصة الصراع بين شخصية خرافية تمثل الخير اسمها «الرجل الوطواط» أو «باتمان» وعدوه اللدود الذي يطلق عليه اسم «المضحك» أو «الجوكر» وكان أول ما دعوت ربي وأنا أقرأ السطور أن لا يكون القاتل مخبولا مسلما آخر يحتفل بمناسبة رمضان بنحر أبناء الأميركان. وحمدت الله حين علمت أنه مخبول أميركي وليس عربيا أو مسلما.

وعندما ألقت الشرطة القبض على القاتل البالغ من العمر 24 سنة، واسمه جيمس هولمز، وجدوه قد صبغ وجهه وشعره باللون الأحمر وبنفس الطريقة التي يظهر فيها المضحك في أفلام «الرجل الوطواط»، وكان يضحك وهو يقول: أنا المضحك. وأعرب مخرج الفيلم المشهور كريستوفر نولن عن حزنه الشديد إزاء «المأساة التي لا مبرر لها» كما نقلت عنه وكالة الأخبار الأميركية.

وعندما قرأت كلماته تساءلت مع نفسي: كم هو صحيح يا ترى ما يقول؟ ومن هو الذي خلق المأساة؟ وهل يمكن أن يكون هناك مبرر لمثل هذه الجرائم؟ ومن هو المجرم الحقيقي؟ أهم الأفراد الذين يعتريهم الجنون أم المجتمع الحديث الذي ذبلت فيه كل معاني الخير فأنجب مثل هولمز؟ وحقيقة المأساة هنا تأتي من أثر السينما وأوهامها على الناس حين تحول الخرافة إلى حقيقة، وخيال الراوي إلى أمر ملموس.

والسينما عندي أخطر تصور للحياة طرحته حضارة العصر على الإنسان.. وأنا لا أنكر أن كثيرا من الأفلام ينتهي بانتصار الخير على الشر وزواج البطل بالبطلة.. إلا أنها أيضا تؤصل قيما ومبادئ لا يدعمها شيء سوى وجهة نظر مؤلف القصة ومخرج الفيلم، وكل منهما غالبا لا يهدف إلى شيء سوى حصد أكبر نصيب ممكن من المال.

ورغم أني مؤمن بالحق الفردي وحرية التعبير عن الذات، فإنني أرى أن حضارة العصر الحديث قد فقدت توازنها بسبب ماديتها الطاغية. وما نراه منها إن هو إلا ظواهر وأعراض لا بد من أن تدرس من قبلنا، نحن المسلمين، قبل غيرنا لإصلاح أمتنا التي أصبحت تستورد كل شيء من هذه الحضارة العرجاء حتى فلسفة الـ«باتمان»! ولنكن صادقين مع أنفسنا فنقر بأن شرائح كبيرة من الناس في مجتمعاتنا الإسلامية تقلد هذه الحضارة في كل شيء في لباسها وطعامها وكيفية حياتها وعيشها، بل حتى في حبها وكرهها.. وأسوأ ما تقلدها فيها هو جنوحها في الابتعاد عن الله بشكل أعمى وهي تدري أو لا تدري، لأن معنى الله في الغرب تختلط فيه كثير من المعاني والتصورات التي أتت بها الديانات المختلفة من وثنية وحلول وتناسخ. في حين أن فهمنا لله يأتي من كتابه الكريم ومن سنة نبيه التي يحزنني أن أرى أهلها وقد هجروها كما تهجر الآبار الصحية العذبة ليستبدل بها مشروب الـ«كوكاكولا».. وإن الأوان قد آن للعودة إليها. فكل ما قال به نبيه يأت من إذن أعطاه الله له، صلوات الله عليه وسلامه، بأن يدعو ويأمر وينهى، كما أمره ربه. فما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم هو قول نبي مأذون أعطاه الله الحق أن يدعو إليه، كما ورد في سورة «الأحزاب»: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا». وشتان ما بين نبي مأذون وراوي قصة ينسج من خياله فيؤدي بمتبعه إلى الوهم والضياع.

ومن أكثر ما ركز عليه دين الإسلام هو عنايته بالبنية الاجتماعية من خلال الفرد ذاته، بالإضافة إلى مؤسساته، إذ إنه قد ركز على الأسرة الصالحة وأمر بصلاة الجماعة وعالج النفس الإنسانية بالدين والعبادات.. وفوق هذا كله، فقد أقام العلاقات الإنسانية على مبدأ التقوى وخدمة الآخرين، وكثير من هذه المعاني لا يزال موجودا في ديار المسلمين التي يبدو عليها التخلف، إلا أني أحسبه تخلف ظاهري يعزى إلى تخلف مؤسساتهم، وهذا ما وجدته في رمضان في زيارتي للأردن هذه المرة.

وصلت عمان وكانت تبدو من الطائرة كغادة جميلة مسلمة غطت غدائرها بحجاب الغيوم، وعندما نزلت الطائرة كانت أضواؤها تتلألأ كالجواهر فوق أكتاف المنارات الصائمة احتفالا بالشهر الفضيل.. كان بي شوق قديم إلى رمضان يشبه «رمضان عراق الخير» الذي فقدته منذ أكثر من عشرين عاما، وغدوت أبحث عنه كطفل فقد أمه فقالوا له ستعود قريبا.. وظل ينتظر.

في عمان كان بانتظاري شاب صديق طيب يعمل طبيبا للأسنان. وكنت لا أزال أعاني من أسناني فشكوت لصاحبي منها فأكد لي ما سمعته من آخرين عن أن طب الأسنان في الأردن وعموم الطب فيها بدأ ينافس أوروبا في تقدمه وتقنياته، لذا فقد طلبت من صاحبي أن يأخذني لأحسن طبيب أسنان يعرفه لعلاج أسناني التي أتلف شطرها أكل الشوكولاته وأتلف أطباء أسنان بريطانيا ما تبقى منها.. وتفاءلت بطبيب الأسنان في إربد، فقد أعطانا موعدا بعد «التراويح»، وكان اسمه ولقبه مكررا لاسم أبي الأنبياء إبراهيم، وتفاءلت أكثر وهو يسمي باسم الله قبل أن يرعبني بآلة حفر الأسنان ثم يبدأ بالجانب الأيمن من أسناني قبل الأيسر.. وأنا مستسلم أمامه على السرير فاغرا فمي بالدعاء.. وذكرني هذا الطبيب بحلاق حجام فقيه بصنعته.. علم أبا حنيفة ما لم يعرف وهو فقيه أمته.. حيث يروي لنا علماء الأحناف مثل محمد بن عمر السنامي في كتاب «نصاب الاحتساب» عن أبي حنيفة أنه قال: «حلقت شعري فخطأني الحجام في ثلاث. جلست مستدبرا القبلة فقال لي: استقبل القبلة.. وناولته الجانب الأيسر فقال: ابدأ بالأيمن.. وعندما أردت أن أقوم قال لي: ادفن شعرك.. فرجعت ودفنته».

أعترف أن الرجل قد أحسن صنعته وخفف معاناتي.. وخرجت من عيادته وأنا أدعو له بدلا من أن أدعو عليه كعادتي مع سابقيه من أطباء أسنان غرب الأرض الذين ما أكثر ما حولوا أسناني إلى ساحة معركة سالت فيها الدماء!