مسلمو بورما.. من يوقف الإبادة الجارية هناك؟

إميل أمين

TT

«تتعامل معنا السلطات والجيش كأننا وباء لا بد من القضاء عليه، فما من قرية فيها مسلمون إلا وتمت إبادة المسلمين فيها، ويسارع النظام العسكري الحاكم بوضع لوحات على بوابات هذه القرى، تشير إلى أن هذه القرية خالية من المسلمين».. بهذه الكلمات الحزينة، وصفت فتاة من بورما حال ومآل المسلمين هناك في ظل إبادة حقيقية يتعرضون لها، وصمت دولي مخز تجاه ما يجري هناك، بعد سلسلة من المذابح التي شنتها جماعات بوذية ضد المسلمين من دون أن تتمكن الحكومة من إيقافها.

ما الذي يجري في بورما - ميانمار حاليا؟ وهل الأمر يتجاوز صراعا بين أغلبية قادرة وأقلية مستضعفة أم أن المسألة لها جذور تاريخية؟ الشاهد أنه إذا كنا كثيرا جدا نتناول إشكالية الإسلام والمسلمين مع الغرب المسيحي أو اليهودي، فإنه في القليل النادر ما نتحدث عن الشرق الآسيوي المليء عن أخره بديانات ومذاهب وضعية، وعلاقاتها وتقاطعاتها بالإسلام فكرا ودينا، وبالمسلمين شعوبا وقبائل، ولهذا ربما كان هذا الحديث فرصة لاستجلاء مناطق غابت كثيرا عن تفكيرنا.

كيف وصل الإسلام إلى بورما؟ وكم يبلغ عدد المسلمين هناك؟ بحسب الموسوعة العالمية «ويكيبيديا»، فإن الإسلام هو ديانة الأقلية في بورما، ويعتنقه نحو 4 في المائة من سكان الدولة كما جاء في الإحصاء الرسمي لحكومة ميانمار، بينما يقول تقرير آخر صادر عن لجنة الحريات الدينية التابعة لوزارة الخارجية الأميركية إن السلطات الرسمية هناك تتعمد التقليل من عدد السكان غير البوذيين، الذين قد تصل نسبتهم العددية إلى 30 في المائة من السكان، أما الغالبية المسلمة في بورما فتقطن إقليم أراكان، حيث تصل نسبة المسلمين فيه إلى أكثر من 70 في المائة والباقون من البوذيين الماغ وطوائف أخرى، والمعروف أن بورما بلد مليء بعرقيات متعددة وطوائف تكاد تصل إلى 140 عرقية، والمسلمون هناك يعرفون بـ«الروهينغا»، وهم الطائفة الثانية بعد البورمان.

أما كيف وصل الإسلام إلى أراكان في بورما، فتشير غالبية المصادر التاريخية إلى أن ذلك حدث في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن السابع الميلادي، وذلك من خلال التجار العرب الذين امتدت تجارتهم إلى شرق آسيا. إلا أن عدد السكان المسلمين في بورما قد ازداد ولا شك خلال الحكم البريطاني في القرن العشرين، من جراء موجات جديدة من المسلمين الهنود المهاجرين، غير أنها انخفضت انخفاضا حادا بعد 1941 بسبب الاتفاقية الهندية – البورمية، ثم ما لبثت أن توقفت رسميا عند استقلال بورما في 4 يناير (كانون الثاني) 1948.

ومن التاريخ القديم إلى الواقع المعاصر الأليم ما الذي يجري الآن في بورما؟ باختصار غير مخل، يتعرض المسلمون هناك إلى حرب إبادة جماعية، أما عن ملابسات تلك الإبادة فقد جرت بعد أن أعلنت الحكومة البورمية نيتها منح هوية المواطنة للمسلمين من عرقية «الروهينغا». كان ذلك الإعلان كفيلا بإثارة جحيم التعصب البوذي عند البعض، فتربصوا لحافلة تقل عددا من علماء المسلمين البورميين كانوا عائدين من أداء مناسك العمرة وانهالوا عليهم ضربا بالعصي حتى قضوا عليهم. يتساءل المرء: ما هو موقف الحكومة الرسمي تجاه هذه الإبادة؟ وهل تتصدى لهذا العنف أم أنها بدورها تدعمه على نحو أو آخر؟

لعل التصريح الذي صدر عن رئيس بورما ثين سين يثير الاستياء، ذلك أنه عوضا عن الدفاع عن حقوق مسلمي بورما، وأولها حقهم في الحياة، فإنه يرى رؤية عنصرية مقيتة تتمثل في القول إن الحل الوحيد المتاح لأفراد أقلية «الروهينغا» المسلمة غير المعترف بها - بحسب زعمه - يقضي بتجميعهم في معسكرات لاجئين أو طردهم من البلاد. ويضيف «ليس ممكنا قبول (الروهينغا) الذين دخلوا بطريقة غير قانونية، وهم ليسوا من إثنيتنا»، وأن الحل الوحيد في هذا المجال، هو إرسال «الروهينغا» إلى المفوضية العليا للاجئين لوضعهم في معسكرات تحت مسؤوليتها. وأكثر من ذلك يكمل: «سنبعث بهم إلى أي بلد آخر يقبلهم، وهذا ما نعتقد أنه الحل للمشكلة».

هل هذه هي موجة الإبادة الأولى لمسلمي بورما؟ في 1784 احتل الملك البوذي بوداياي، منطقة أراكان المسلمة وضم الإقليم إلى بورما خوفا من انتشار الإسلام في المنطقة، وقد دام ذلك الاحتلال نحو أربعة عقود، أي حتى موعد وصول الاستعمار البريطاني عام 1824، وفي تلك الأثناء حاول جاهدا مسح علامات الحضور الإسلامي هناك، فقتل العلماء والدعاة المسلمين، ودمر المساجد، وأغلق المدارس وشجع البوذيين الماغ على التنكيل بالمسلمين. أما المذبحة الأكثر هولا في تاريخ مسلمي بورما فقد جرت في عام 1942 وراح ضحيتها نحو مائة ألف مسلم أغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وقد حدثت بعد أن استطاع البوذيون الماغ الحصول على الأسلحة والإمدادات من أنصارهم.

والثابت أنه منذ زمن الانقلاب العسكري الذي جرى في أوائل الستينات على يد الجنرال البورمي الفاشي نيوين عام 1962، ومسلمو أراكان ضحية يومية لجميع أنواع الظلم والقتل والاضطهاد والتهجير، والتشريد والتضييق الحياتي عليهم، بجانب مصادرة أراضيهم، والأسوأ التشكيك في مواطنتهم بزعم أن لغتهم ودينهم يتشابهان مع البنغاليين! هل ما يجري الآن تهجير نظامي ممنهج يسعى إلى تفريغ بورما من مسلميها؟ في عام 2006 رصد مكتب الهجرة في مدينة مينغدو الحدودية البورمية هجرة نحو 6145 مسلما، وبالطبع كان التهجير منظما عبر وسائل ضغط فاعلة لا يمكن مقاومة شراستها تمثلت ولا تزال في القيام بعمليات عسكرية ضد التجمعات الإسلامية المدنية، ثم مصادرة الأراضي والمنازل والحقول، عطفا على نزع الجنسية البورمية منهم، وإلغاء الوثائق الثبوتية.. هل هذا يكفي لإبادة شعب وتهجيره؟ ربما كان في جعبة أولئك الكارهين ما هو أكثر من ذلك.. مثل ماذا؟ التحكم في عملية الزواج والولادة بمعنى محاولة تحجيم التعداد السكاني للمسلمين هناك، وتقليصه إلى أن يذوب في قلب الغالبية البوذية، وذلك عن طريق قوانين تدعي أنها تنظم عملية الزواج والإنجاب، مثل رفع سن زواج الفتيات إلى 22 عاما والرجال إلى 30 عاما، ومن ثم تعقيد الإجراءات الرسمية، وإطالة وقتها إلى حين الحصول على التصريح الرسمي، ومن ذلك أيضا منع السلطات هناك زواج أكثر من 20 شخصا في القرية التي تعدادها 2000 أسرة في السنة الواحدة. أما تعدد الزوجات فهو ممنوع، والأرامل والمطلقات لا بد من مرور أكثر من عام قبل أن يسمح لهم بالزواج ثانية، والفحوصات الطبية الإجبارية للنساء الحوامل يشك كثيرا في أنها عادة فرصة لحقنهن بمواد تسبب العقم وتقلل الخصوبة.

أما الاضطهاد المستتر فيتبدى في المدارس، حيث يجبر أطفال المسلمين على تعلم مناهج بوذية تخالف معتقدات المسلمين الإيمانية، وإغلاق أبواب الوظائف في وجه مسلمي بورما، وحظر تأسيس مساجد جديدة وعدم إصلاح ما هو قائم منها، ومنع المسلمين من إطلاق لحاهم أو ارتداء الزي الإسلامي.

ومما لا شك فيه أن الحديث عن مسلمي بورما اليوم ومأساتهم في حاجة إلى أبحاث مطولة، وما تقدم ليس إلا لمحات سريعة لحالة مزرية لقطاع من المسلمين حول العالم، غير أن علامة الاستفهام التي تواجه الباحث فيما وراء الأحداث، ولا سيما ذات الملمح والملمس العقائدي.. هل البوذية تحث على هذه الإبادة؟ وما هي رؤية البوذية للإسلام والصلات التي قامت يوما بين الحضارتين؟

تعود البوذية كما يعلم القاصي والداني إلى التعاليم التي تركها بوذا المستنير أو المتيقظ، وعلى هذا الأساس فهي بالنسبة للموحدين من أبناء إبراهيم ليست دينا سماويا إلهيا، بل ديانة وضعية، نشأت في شمال الهند، وتدريجيا انتشرت في أنحاء آسيا، والتبت، وسريلانكا، ثم إلى الصين ومنغوليا وكوريا واليابان.. هل تحث تعاليم المتنور بوذا على القتل والإبادة التي تجري من قبل أتباعه في بورما ضد المسلمين اليوم؟

نقرأ في دائرة معارف البستاني، أنه من بين نحو 250 وصية ضمن الوصايا التي تركها بوذا لأتباعه، حث أكيد على البعد عن القتل، كما أن في مقدمة القواعد الخمس التي تشكل أساس الممارسات الأخلاقية للبوذية، الكف عن القتل، والكف عن أخذ ما لم يعط لك، والكف عن الكلام السيئ، والكف عن تناول المشروبات المسكرة والمخدرات، وباتباع هذه التعاليم يمكن القضاء على الأصول الثلاثة للشرور: الشهوانية والحقد والوهم.. هل من رابط ما بين تلك التعاليم مع عدم ربانيتها وشرور الماغ الجارية هناك بدعم حكومي بورمي؟

كيف ينظر البوذيون للمسلمين؟ لعل أفضل من يقدم جوابا للسؤال المتقدم هو البروفسور الأميركي ألكسندر بيرزين أستاذ قسم الدراسات الشرقية بجامعة هارفارد، والمترجم والصديق المقرب من الرمز البوذي الأشهر في عالمنا المعاصر الدالاي لاما. يقدم البروفسور بيرزين دراسات أكثر من رائعة تاريخيا وفكريا، ويلفت في جوهر الأمر إلى أنه في الوقت الراهن هناك سبع مناطق رئيسية يحيا فيها البوذيون والمسلمون، إما معا وإما على مقربة من بعضهم، ويتفاعلون مع بعضهم.. هذه المناطق هي التبت ولاداخ وجنوب تايلاند وماليزيا وإندونيسيا وبورما وبنغلاديش. ومع هذا ففي كل منطقة من المناطق السبع يتأثر التفاعل بين المجموعتين أساسا بالعوامل الاقتصادية والسياسية بدلا من معتقداتهم الدينية.. هل هذا إذن هو بيت القصيد؟

في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2006 وفي النادي الصحافي للمراسلين الأجانب في نيودلهي بالهند حذر الدالاي لاما، أكبر قامة روحية بوذية في العالم، من تصوير الإسلام على أنه دين عنف، قائلا: «إن المسلمين ظلموا بتصويرهم بصورة بشعة في الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر». ودعما للتسامح الديني قال الرجل: «إن الحديث عن صدام الحضارات بين الغرب والعالم الإسلامي خطأ وخطير، فقد شوهت الهجمات الإرهابية آراء الناس عن الإسلام، وجعلتهم يصدقون أنه دين متطرف بدلا من كونه معتمدا على الرحمة»، وأردف أنه في كل الأديان متطرفون، ومن الخطأ التعميم على المسلمين، فالإرهابيون لا يمثلون النظام بأكمله.. وأبعد من ذلك ذكر الدالاي لاما أنه وضع نفسه في دور المدافع عن الإسلام، لأنه يريد أن يعيد تشكيل آراء الناس حيال هذا الدين! لماذا لا يعلو صوت الدالاي لاما في مواجهة مذابح بورما إذا كان يؤمن عن حق بما قال به من قبل، الأمر الذي يمكن أن يدعم جهود القادة الروحيين البوذيين والمسلمين في إيجاد درجة ما من التفاهم الإنساني المشترك، والقادر على كبح جماح العنف؟

صمت الدالاي لاما تحديدا تجاه ما يجري في بورما يجعل المرء في حقيقة الأمر يتساءل: هل الرجل متصوف وقديس عصراني، أم أداة عملانية استخبارية أميركية كما يتهمه البعض؟

* كاتب مصري