الإمام الشافعي: الإجماع والقياس

رضوان السيد

TT

اعتبر الشافعي الكتاب والسنة المصدرين الرئيسيين لخطاب الله سبحانه، المتعلق بأفعال العباد. وقد استشهد بقوله تعالى:«ما فرطنا في الكتاب من شيء» ليدلل على أن نصوصه لا تتناهى، وبالتالي فإن الأحكام متضمنة في كل حال، وهي إنما تنكشف للفقيه المجتهد ولا تنشأ. والانكشاف إنما يكون من طريق السنة أو من طريق الإجماع أو من طريق القياس. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا اعتبر الشافعي النبي (ص) شارعا على استقلال، بل ومضى بعيدا ليعتبر أن السنة المتواترة(أو الصحيحة؟) يمكن أن تنسخ الكتاب؟! لا علة لذلك فيما أقدر غير تلك الحملة التي عاصرت الشافعي على السنة وعلى أهل الحديث. وما مشى الشافعي مع حرفية المحدثين، لكنه ما كان يتصور بقاء للحكم الشرعي بدون السنة، ليس لأن الرسول شارع، بل لأن الله سبحانه وتعالى، فرض في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه. فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قَبِل.

والإجماع عند الشافعي هو اتفاق المجتهدين. وهذا الاتفاق يكشف الحكم ولا ينشئه. لأن الإجماع ليس كتابا ولا سنة، ولذا فلا يمكن له إنتاج شرع جديد، بل إنما ينكشف الصحيح للمجتهدين. وكما نُوزع الشافعي في السنة بالمعنى الجديد، فقد نُوزع نزاعا شديدا في الإجماع. فالشافعي يرى أن الإجماع لا يكون أبدا إلا على سنة ثابتة وإن لم يحكوها. والضمان لتحول الإجماع إلى دليل هو أمر النبي بلزوم الجماعة، وهذا اللزوم ليس له معنى زماني أو مكاني، فيصبح المعنى لزوم الجماعة في التحليل والتحريم والطاعة فيهما. وما أطال الشافعي في باب الإجماع، ويكاد يقصره على ما اصطلح عليه في زمن الصحابة. وهو عندما يعطيه قوة الحجة والدليل لا يستند إلا إلى بعض الأحاديث التي تأمر بلزوم الجماعة. والجماعة لن تغفل جميعها عن الكتاب والسنة والقياس. بيد أن هذه الإشارات جميعا لا تجعل من الإجماع دليلا في صفحتين وحسب. فلا بد أن يكون الإجماع متوارثا من عصر سابق، وما استطاع الشافعي نفيه فانصرف إلى تضييقه أو التضييق عليه، بالقول إنه لا يخرج عما في الكتاب أو السنة وإن لم ينطقا بذلك. لكنه من جهة أخرى مثل الليث بن سعد المصري (ت 175هـ) ما قبل إجماع أهل المدينة، رغم أن أكثر إجماعاتهم يمكن أن تستند إلى سنن قولية أو فعلية. وهكذا فإن الشافعي كان يعي هنا أنه يخرج من فقه المصر الخاص إلى فقه المدرسة العامة والمذهب. فلا يمكن التسليم بحجية إجماع أهل المدينة بحجة وجود النبي (ص) ثم صحابته الكُثُر فيما بينهم. والشافعي يرى أن الجميع نقلوا السنة عن الصحابة الذين نزلوا بالأمصار، ولأن التابعين جميعا ذهبوا إلى المدينة واشترعوا «الرحلة في طلب العلم» منذ ذلك الحين (أواخر القرن الأول الهجري)، فالذي يختص أهل المدينة بشيء يجعل من أقوالهم حجة علمية دون الآخرين. والواقع أن الشافعي وجد نفسه ملزما بدليل الإجماع، ولذا فقد وجد الحجة عليه في الرسالة من طريق الآثار، ثم في«جماع العلم» بآية «سبيل المؤمنين». وها هو في الرسالة يذكر إجماعا تحول إلى دليل لا يدحض وهو: «أجمع المسلمون على أن يكون الإمام واحدا والقاضي واحدا والأمير واحدا». وهذه كلها إجماعات سياسية وإدارية سكت عنها الكتاب، ولا ندري كيف يمكن القفز من هذا الشأن السياسي إلى الشأن التشريعي دونما إحساس باختلاف المجالات واختلاف الأدوات والأساليب. لقد رأى الشافعي أن الصحابة والتابعين أجمعوا في مواضيع سياسية وأخرى تشريعية، وما كان واثقا ثقة الإمام مالك بعمل أهل المدينة، وتصور إمكان اجتماع المسلمين من بعد على هذا الأمر أو ذاك فصار تحت تأثير التاريخ والمجتمع واعتبر الإجماع دليلا شرعيا، وسارع إلى ربطه على أي حال بالكتاب والسنة، بحيث يظل الخط العام منضبطا. وما سر بهذه الحماسة للإجماع أهل الحديث ولا أهل العقل. أما أهل الحديث فقد اعتبروا السنة بمفهومها الواسع، ولأول وهلة، كافية - وتحدثوا عن التواتر الذي يفيد العلم، واستصعبوا من الناحية العملية وقوع الإجماع. وأما المعتزلة فقد اعتبروا أن آراء العامة وإن أجمعت لا تفيد العلم. واعتبروا أن «الخبر المجتمع عليه» (أي الحديث المتواتر بحسب تعبير واصل بين عطاء) يشكل بديلا تتحقق به المعرفة، في حين لا تتحقق باجتماع العامة على أمر من الأمور. لكن ماذا نفعل بالإمامة، وما هو مستند شرعيتها؟ لا شرعية لها بالفعل غير الإجماع. ويستطيع الشافعي أن يورد حالات كثيرة جرى الاجتماع فيها على أمر تعبدي أو تشريعي، بيد أن قوله إن المسلمين أجمعوا على وجود الإمام وواحديته يعطي شرعية لا ترتبط بالكتاب والسنة، إلا بمعنى أن الله ورسوله أمرنا بالخضوع لما يجتمع عليه الناس في شتى المسائل. وهذا قول بالاجتهاد الجماعي لا يقلل من أهميته الذهاب إلى أنه كاشف للحكم وليس منشئا له.

في الدليل الرابع أو الأصل الرابع قرر الشافعي عدة أشياء، أولها اعتبار القياس دليلا رابعا، وهو إلحاق فرع بأصل(الكتاب والسنة والإجماع) لاتحاد العلة. والعلة أو الشبه أمر ظاهر لا بد من التثبت منه بين الأصل والفرع، لكن لا يجوز التقليد فيه. ففي رسالة الشافعي في «اختلاف الحديث» أن العلم من وجهين: اتباع واستنباط. والاتباع هو اتباع الكتاب أو السنة أو الإجماع. فإن لم يجد الحكم في واحد منها، اجتهد فقاس عليها وهذا هو الاستنباط. ولذا فقد وحد الشافعي في مطلع الفصل بين الاجتهاد والقياس، فلم ير للاجتهاد مسلكا أو إمكانية غيره. وهكذا فالقياس عنده هو الاجتهاد الفردي بالشرط السابق، أو يكون المرء مقلدا وهذا لا يجوز. والاتباع عند الشافعي غير التقليد كما سبق القول. وكما في الإجماع فإن الشافعي مسبوق لمسألة القياس. لكنها لم تكن على هذا التحديد، بل كان الوصول إلى حكم على أحد ثلاثة أقسام: اتباع الكتاب، أو اتباع السنة والإجماع (وهما عند الفقهاء القدامى بمعنى واحد) أو الوصول بالرأي إلى الحكم. وقد أعاد الشافعي بناء النظام، فجعل الكتاب أصلا، وجعل السنة أصلا (ليس بمعنى العرف أو الاصطلاح بل بمعنى قول الرسول وفعله)، وجعل الإجماع (الاجتهاد الجماعي) أصلا، وجعل القياس (أي الاجتهاد الفردي) أصلا. فالمستند الأول والأخير هو الكتاب. أما الأصول الأخرى ليقول الشافعي بها لأن الكتاب أمر بطاعة الرسول (السنة)، كما أمر باتباع الإجماع (اتباع سبيل المؤمنين، وأمر الرسول باتباع الجماعة)، كما أمر بسلوك سبيل الاجتهاد الفردي عند خفاء الحكم بعد تفحص الكتاب والسنة والإجماع. إنما ما هو «مقياس» هذا القياس، أو كيف ينضبط؟ أو كيف يتمايز عن «الرأي» الذي كرهه الشافعي وكرهه أهل الحديث من العراقيين؟ يتمايز بالارتباط بأحد الأصول الثلاثة من طريق الاتحاد أو التشابه في العلة. فإذا كان كل مسكر حرام، وكان النبيذ مسكرا، فإنه يكون حراما، لاتحاد العلة وهي الإسكار. وهذا مثل بسيط، والأمر في أكثر الحالات أكثر تعقيدا، والاعتماد فيه على الشبه الظاهر. والشبه الظاهر له مساربه ومسالكه في الإشارة والعبارة والتخييل. وهذا كله يوسع من إمكانيات الاجتهاد أو الاستنباط. إنما قد بلغ من كراهية المحدثين للرأي أن ذهب بعضهم إلى إنكار المجاز في النص، والتمسك بظاهر الكتاب في كل الأحوال. والشافعي واع تماما لغنى النصوص، والإمكانيات الكثيرة للقياس عليها. لكنه ما استطاع الخروج على ما استقر لدى أهل السنة والحديث من كراهية لرأي العراقيين واجتهادهم غير المنضبط أو غير المستند إلى أي أصل من أي نوع.وقد بلغ من شدة النزاع بين الطرفين على قول معاذ بن جبل في الحديث المشهور:«أجتهد رأيي ولا آلو»، أن حاول المحدثون إنكار هذه الرواية التي يرد فيها مفرد الرأي. وعقد ابن أبي شيبة(ت 235هـ) بابا في مسنده أكثر فيه من الروايات في ذم الرأي والقائلين به. وعلى أي حال فإن تلامذة أبي حنيفة اضطروا للأخذ ببعض الضوابط للقياس، إنما ظلوا يفرقون بين نوعين من أنواع الاستنباط أو الاجتهاد: القياس والاستحسان، أو القياس على النص، والقياس على العرف أو المصلحة المستقرة. وتحت وطأة تدقيق الشافعي أيضا ذهب تلامذة الإمام مالك للقول بالمصالح المرسلة أو اعتبارها مصدرا فرعيا للاستنباط. فقد بلغ من قوة نفوذ الشافعي وأهل الحديث أن صار «الرأي» لأول وهلة عارا، بينما هو في الواقع لا يعدو كونه قياسا غير منضبط، أو قياسا اجتهاديا إذا صح التعبير، أي أنه يعتبر المصلحة أو العرف من ضمن علل القياس. لقد رد الشافعي على أهل «الاستحسان» في الرسالة، ثم أفرد نقده في رسالة سماها إبطال الاستحسان، أي إبطال تعليل الاجتهاد بالمصالح أو الأعراف المستقرة، لأنها لا تنضبط! إن الطريف أن أصول الشافعي الأربعة أو أدلته صارت هي الأساس لأصول الفقه لدى أهل المذاهب جميعا باستثناء الظاهرية. وقد دخل الشافعية والحنابلة أيضا في فقه المصالح والمقاصد، ناسين سخطهم على الرأي والاستحسان. ولذا فإن الدراسات الحديثة المتشددة مع الإمام الشافعي من شاخت وإلى محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، ما لقيت أصداء كبيرة، لأن الأساس الذي وضعه الشافعي في الرسالة عمل عليه قراءة ونقدا ومراجعة مئات الأصوليين من بعد، دونما افتئات أو تعسف أو تبعية.