الإسلام السياسي.. وأوان التغيير

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

شكل وصول الإسلاميين إلى السلطة في دول الربيع العربي علامة فارقة، ليس فقط في مسار التحول الديمقراطي؛ وإنما أيضا في مسيرة ومستقبل حركات الإسلام السياسي بوجه عام، السلفية منها على وجه الخصوص. ففجأة - ومن دون مقدمات تذكر- وجد الإسلاميون أنفسهم إزاء تحديات جمة تتعلق بإدارة الشأن العام، بعد أن تخندقوا طويلا في موقع المعارضة متخففين من مسؤولية تطبيق البرامج التي وضعوها بأنفسهم!! وقد دفع ذلك العديد من الباحثين الغربيين إلى إطلاق مصطلح «ما بعد الإسلام السياسي»، على هذه الحقبة، في إشارة إلى دخولنا مرحلة جديدة تختلف في بنيتها عن مرحلة الإسلام السياسي التقليدي (بأشكاله المعروفة)، وما يصاحب ذلك من أفول أنماط آليات الصراع على السلطة ليحل مكانه نمط جديد يقوم على تسلم السلطة بالفعل!! لكن في المقابل من ذلك؛ ثمة من يرفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا رفضه الاحتكام لمفردات الخطاب الاستشراقي، وثمة من يرى فيها محفزا للتفكير بموضوعة الإسلام في الحكم بطريقة مختلفة، وثمة من يصل إلى نتائج تزيح هذه المقدمات كلية! وفي الأحوال كلها؛ يبدو أن هناك وجهتي نظر فيما يتعلق بوصول الإسلاميين إلى السلطة: الأولى ترى في ذلك استحقاقا تاريخيا، أما الأخرى فتبشر بأن ذلك يمثل خطوة أولى في طريق نهاية آيديولوجيتهم، وأنهم سرعان ما سيكتشفون - عاجلا أم آجلا - أن الشعارات وحدها لا تكفي، وأن المشاكل المتراكمة في المجتمعات العربية لا تمكن مواجهتها بمجرد التأكيد على ضرورة التمسك بـ«الهوية»؛ وإنما هي في أمس حاجة إلى تكاتف جميع القوى الوطنية من أجل وضع خطط عاجلة وآجلة للقضاء عليها.

في مرحلة ما بعد الإسلام السياسي تتساقط إذن الأقنعة تدريجيا، وهنالك تكتشف الجماهير العريضة التي منحت الإسلاميين ثقتها أن حركات الإسلام السياسي التي اعتادت رفع «تطبيق الشريعة» عنوانا لبرامجها قد غادرت المحيط الذي تجيده وتتقنه «العمل الدعوي» إلى فضاء آخر، لا يعرف سوى الإقصاء لغة للواقع، ولا يتقن غير لعبة واحدة تجسدها كلمات ميكافيلي الخالدة: «السياسة فن الممكن»، و«الغاية تبرر الوسيلة»!! يبدو المشهد مربكا، والحال هذه، حتى في أدق تفاصيله؛ ولا سيما أننا إزاء خطاب، وخطاب مفارق، أو بالأحرى إزاء عالمين متباعدين يبدو وكأنه لا مجال - ولا إمكانية - للجمع بينهما: عالم أول مجاله «المثال» برومانسيته المفقودة، وعالم ثان مجاله «الواقع» بكل ما يحمل من ضغوط وإكراهات تتراجع أمامها منظومات القيم، والمثل، والأخلاق، والمبادئ!! ومن هنا برز على سطح الأحداث هذا التساؤل: لماذا لا تدرك حركات الإسلام السياسي حقيقة الهوة الفاصلة ما بين العالمين، وتعترف بها؟! ولماذا - مرة أخرى - تبيح لنفسها أن تتحدث باسم «الشريعة» من دون أن تقوم بعرض ممارساتها «السياسية» على ميزانها، في الوقت الذي لا تنفك تطالب فيه بضرورة تطبيقها؟! ولماذا - أخيرا وليس بالطبع آخرا - لا تؤمن بأن السلطة هي السلطة، لا تكف أبدا عن إعادة إنتاج «البغي» في دنيا الواقع، ولا تألو جهدا في توظيف الجميع في خدمة مصالحها، بما في ذلك شعارات الحركات الإسلامية ذاتها؟! وبالعودة إلى مسألة وصول الإسلاميين إلى السلطة، فإن الأهم من وصول الإسلاميين أو غيرهم إليها - كما لاحظ سعيد ناشيد بحق - هو أن تكون الأخيرة خاضعة في مبناها لمبدأ التداول، بما يجعل وصول طرف إليها ليس نهاية التاريخ، وبما يرسم للأغلبية حدودها، ويحفظ للأقلية حقوقها. بمعنى آخر، المهم هو أن يعترف الإسلاميون بقواعد اللعبة الديمقراطية ويرضخوا لأحكامها، وأن يكف المتشددون منهم عن تهديد مكتسبات الدولة المدنية، فضلا عن تخويف الأقليات الدينية.

صحيح أن تغيرا تدريجيا طرأ على فهم الحركات السلفية للديمقراطية، لكن التجربة القصيرة نسبيا تكشف أن السلفيين تحديدا لا يزالون متخندقين في حالتهم النمطية، إذ يمارسون السياسة وفقا لغاياتها ومآلاتها وليس وفقا لوظائفها وأدواتها. ومن ثم أصبح العمل السياسي لديهم مجرد أداة لتحقيق أهداف أخرى: تطبيق الشريعة وإقامة الخلافة. ومن هنا، تبرز مسألة الضمانات الواجب توافرها حتى يطمئن المجتمع - والأقليات الدينية بصفة خاصة - إلى أن الإسلاميين لن ينقلبوا على الديمقراطية بمجرد وصولهم إلى السلطة عبر آلياتها الشرعية.

وفي السياق ذاته، تبرز مسألة الانتقائية الشديدة التي يقوم بها بعض الإسلاميين حين لا يقبلون من الديمقراطية سوى وجهها الإجرائي (الانتخابات التشريعية) فيما يعلنون رفضهم لفلسفتها المستندة إلى قيمة «الحرية» بحجة أنها لا تخالف الشريعة فحسب بل تعتبر «كفرا بواحا» أيضا! وهو ما يؤشر إلى استعداد السلفيين للاعتراف بالديمقراطية في جانبها الإجرائي متى أوصلتهم إلى السلطة، ومتى وصلوا إليها ألقوا بها وراء ظهورهم!! ولا شك أن سوء الفهم المفترض ما بين الإسلام والديمقراطية ناشئ في الأساس عن التباس أكبر في فهم رؤية الإسلاميين للنظام السياسي وركائز مشروعه لإقامة المجتمع وعمارة الدنيا. وقديما كان ثمة من يرفض الدستور لمجرد أنه غربي المصدر، أو لمجرد عدم إشارته إلى الإسلام كدين الدولة الرسمي!! والواقع، أن توجس أتباع الحركات الإسلامية من الديمقراطية ككل، والدستور بصفة خاصة، لم ينته بعد ولا تزال صوره تبدو من فينة لأخرى. لكن، وفي المقابل، لا يزال هاجس الخوف من وصول الإسلاميين للحكم، ولو عبر آليات ديمقراطية، يسيطر على أذهان القوى السياسية ذات المرجعية العلمانية!! ثمة التباسات مركبة ومعقدة إذن تبدو على السطح أحيانا وتتخفى في لبوس ديني أو ليبرالي أحيانا أخرى من دون مقاربة موضوعية لحلها، أو لفض الاشتباك القائم فيما بينها. لكن ذلك لا يمنع من القول: إن موقف القوى السلفية من الديمقراطية يبدو دائما وأبدا كما لو أنه بؤرة موبوءة ومسكونة بالتباسات شتى! فعادة ما يتم النظر إليها، ليس باعتبارها نظام حكم رشيد يقوم على الحرية والمشاركة الانتخابية والتعددية الحزبية مع ضمان حق الأقلية؛ وإنما كرمز لهيمنة غربية - صهيونية تحاول إبعاد المسلمين عن دينهم وتروم تفكيك بنية العالم الإسلامي ونهب موارده!! لا تنفك إذن ذهنية «المؤامرة» تحكم سياق التفكير عند قطاعات كبيرة من أتباع الحركات الإسلامية في طول البلدان الإسلامية وعرضها. وهو أمر ربما يعد مبررا تاريخيا بالنظر إلى إرث الاستعمار الثقيل الذي أرهق كواهل تلك البلاد، لكن التساؤل الذي يفرض نفسه وبقوة هنا هو: لماذا استطاعت دول أخرى، عانت طويلا من ربقة الاستعمار، أن تتحرر منه ثقافيا مثلما تحررت منه سياسيا، بل وأصبح بعضها يقف موقف الند من المستعمر القديم؟! هل المشكلة تكمن في بنية الثقافة العربية - الإسلامية كما لو أنها تحول بالفعل دون الإيمان بقيم الديمقراطية والتعويل عليها، أم إلى النظم الإسلامية المتسلطة والتي تتابع على ممالك الإسلام واحدة تلو الأخرى؟! على أية حال، لا شك أن الآيديولوجيا السلفية بشكل عام ترى أن العملية الديمقراطية كفر محض؛ لأنها تجعل لله شريكا في التشريع والحكم! وحجتهم في ذلك أننا حتى على فرض اتخذنا الديمقراطية وسيلة لتطبيق شرع الله؛ فإن ذلك لن يتم في النظام الديمقراطي إلا من خلال التصويت البرلماني الذي يمنح سلطة التشريع لنوابه باعتبارهم ممثلين للشعب!وكما تعددت مواقف التيارات السلفية من الثورة المصرية، تعددت مواقفها أيضا إزاء الممارسة الديمقراطية ما بين مؤيد يسعى للانصهار داخل المجال السياسي، ويغلب المصالح على المفاسد كالدعوة السلفية بالإسكندرية وجناحها السياسي حزب النور، وبين ممانع يرفض الديمقراطية شكلا ومضمونا، وسيلة وغاية، كالسلفية المدخلية وطيف كبير من السلفية التقليدية. وثمة آخرون آثروا أن يمسكوا بالعصا من المنتصف فلا هم رافضون للديمقراطية ولا هم يشاركون فيها بأنفسهم، لكنهم قد يوجهون الآخرين باتجاه المشاركة أو المقاطعة، كجماعة أنصار السنة المحمدية، ومجلس شورى العلماء، وغيرهما.. وتلك قضية أخرى!

* كاتب مصري