الإساءة إلى النبي والإساءة إلى الإسلام

رضوان السيد

TT

أحدث الفيلم الأميركي المسيء للنبي صلى الله عليه وسلم والحاقد على المسلمين والإسلام ردود فعل عنيفة يبدو أنها ستستمر لمدة، لأن الفيلم وإن لم يعرض في قاعات السينما؛ فإنه معروض على أحد المواقع، وقد انتشر وينتشر بسرعة هائلة عبر وسائل التواصل. وقد كان من أولى نتائج ظهوره بمناسبة 11 سبتمبر (أيلول) امظاهرات أمام السفارة الأميركية في القاهرة وتونس، وإطلاق قذائف صاروخية على مبنى القنصلية الأميركية في بنغازي، مما أدى إلى مقتل السفير الأميركي وثلاثة من معاونيه حرقا واختناقا! وتشبه حادثة الفيلم، واقعتين جرتا من قبل، كلتاهما حاولت الإساءة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، أولاهما كتاب سلمان رشدي القاص البريطاني الهندي الأصل بعنوان «آيات شيطانية» (1989)، وثانيتهما الصور الكاريكاتيرية بالدنمارك عام 2007. وقد كانت هناك عبر أكثر من عقد عشرات الحوادث بل مئاتها تتعلق جميعا بالإساءة إلى الإسلام، مثل تمزيق القرآن أو تدنيس المقابر الإسلامية أو التعرض للمساجد أو للنساء المحجبات والمنقبات. وكلها مظاهر فرعية لحالة أو ظاهرة بالغربين الأوروبي والأميركي صارت معروفة باسم الإسلاموفوبيا. وقد كان يمكن اعتبار هذه الوقائع مهما تكررت من فعل أقليات معزولة أو فاشية، كانت تقوم بالأعمال ذاتها أو ما يشبهها تجاه اليهود، لولا أنه كانت لهذه الظاهرة آثارها القانونية التي تعني وجود أكثرية أو نسبة وازنة من المواطنين في الدول الأوروبية تدعم هذا التمييز ضد المسلمين. ومن ذلك تحريم الحجاب أو النقاب في الأماكن العامة والمدارس والمؤسسات الرسمية بقانون، ومنع المسلمين من بناء مآذن للمساجد باستفتاء شعبي! ولهذه الإسلاموفوبيا عدة أسباب، على الرغم من أن الفوبيات الشعبوية تستعصي على التعليل أحيانا. وأول هذه الأسباب تكاثر المهاجرين المسلمين في البلدان الأوروبية وغيرها، مما أدى إلى إثارة حساسيات منهم لدى العامة في المنافسة بسوق العمل والوظائف، ومزاحمة السكان الأصليين في الحركة بالمجال العام. وثاني تلك الأسباب: إصرار المسلمين على الظهور بالهوية الخاصة، مثل الحجاب للنساء واللحى للرجال وكثرة بناء المساجد. وثالث تلك الأسباب: وجود ميول عنيفة لدى شبان الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين بسبب التهميش والبطالة والوقوع في إسار الجريمة. ورابع تلك الأسباب: تلون اللباس الخاص، والسلوك العنيف بلون ديني إسلامي في زمن الصحوة والأصولية منذ الثمانينات من القرن الماضي، كالجاذبية التي صارت لـ«القاعدة» والجهاديين. وقد بلغت تلك الظاهرة الذروة في ظهور الإسلام الجهادي، والقيام بأعمال إرهابية وتفجيرات في المدن باسم الإسلام، واعتبار ذلك ردة فعل على هجمة غربية على الإسلام أو ديار المسلمين، ووصولا إلى بروز «القاعدة»، وارتكاب أحداث 11 سبتمبر عام 2001، وانتشار التفجيرات وأحداث القتل في المدن الأوروبية والعربية - الإسلامية في السنوات التالية.

كيف تحولت هذه الحساسيات عبر عدة عقود - بسبب سياسات الدول والفئات - إلى عنف متبادل لفظي وعملي؟ ولماذا تركز ذلك بين العرب والمسلمين من جهة، و«الغربيين» على اختلاف فئاتهم من جهة ثانية؟ المسؤول عن ذلك من الجهات الغربية الساسة اليمينيون الشعبويون الذين تنمو شعبيتهم في الأزمات، لأنهم يحاولون استغلال مخاوف العامة وهواجسها من الغريب والطارئ. وقد كانت مصادر التوجس حتى سبعينات القرن الماضي آتية من الأفارقة المهاجرين ومن الآسيويين، ثم صار المخوفون في الثمانينات وما بعد من العرب والمسلمين. أما من الجانب العربي والإسلامي فالمسؤول عن الميل للعنف تجاه الغربيين فئتان: الصحويون الإسلاميون، وسياسات الجمهوريات الاستبدادية. أما الصحويون الإسلاميون فقد ركزوا على مدى عقود على فظاعة التغريب، وعلى تآمر الغرب على الإسلام، وعلى قيام ثقافته على الماديات اليهودية، وعلى إقدامه على ممارسة الكراهية والعنف ضد الإسلام والمسلمين من الحروب الصليبية وإلى زمن الاستعمار، وإقامة إسرائيل. وأما حكام الجمهوريات الخالدة فقد كانوا يتوافقون ظاهرا مع العنف الشعبوي إنما لأسباب «قومية»، ويتوافقون سرا مع الغرب ضد أولئك «الأصوليين» المتخلفين، باعتبار أنهم هم مثلهم علمانيون وتقدميون! وخلال أربعة أو خمسة عقود، أقيمت عشرات الجمعيات ومئات المؤتمرات من جانب المؤسسات الدينية الغربية والإسلامية، للحوار بين المسيحية والإسلام، وبين الغرب والشرق. لكنها بقيت بالفعل أحاديث بين كهان وشيوخ ومثقفين، وما أحس بها جمهور الطرفين، فضلا عن هشاشة الوعي لدى النخب الدينية من الطرفين، وسرعة استجابتها لاهتياجات الجمهور.

لقد تابعت على مدى الأيام القليلة الماضية ما صار يعرف بردود الفعل من جانب شبان الإسلاميين على الفيلم المسيء للنبي صلوات الله وسلامه عليه. وربما كان من البديهي أن تتم المظاهرات والاحتجاجات أمام السفارات والقنصليات الأميركية، باعتبار أن صناع الفيلم وعارضيه هم من الأميركيين، ومعهم بعض أو واحد من «أقباط المهجر». لكنه ليس من البديهي ولا من الأخلاقي أن تحدث عمليات الإحراق وإطلاق القذائف. فالذي صنع الفيلم المعتدي مواطن أميركي، وليس الحكومة الأميركية. كما أنه لا مسؤولية لأحد من إدارة أوباما أو الجيش الأميركي عن ذلك. والقضاء الأميركي مستقل، ويمكن ملاحقة المشاركين في الفيلم بالطرق القانونية، والقيام بحملة متنورة تجعل من الفيلم وصاحبه محل إدانة من الأميركيين أيضا. بيد أن شيئا من ذلك لم يحدث، بل الذي حدث الإحراق ورفع أعلام ورايات «القاعدة»، واستخدام القذائف الصاروخية ضد أشخاص مدنيين وعزل. وسرعان ما نسيت الأسباب المباشرة، وعادت الهتافات ومظاهر الشغب ضد أميركا والغرب بوجه عام. إنما المفجع والأفظع من ذلك ردود فعل الإسلاميين المثقفين والحزبيين، والآخرين الذين يسمون ليبراليين. فقد رأيت عشرات منهم على التلفزيونات يتحدثون لنحو الساعة والساعتين عن مساوئ الفيلم والغرب وأميركا ودعاوى حرية التعبير.. وتأتي في النهاية تماما دقيقتان تستنكر أعمال القتل واقتحام السفارات أو إنزال العلم. والواضح من ذلك أمران: أما الليبراليون فإنهم يخشون من اعتداء العوام عليهم إن حاولوا التفريق بين الغرب وأميركا وصناع الفيلم، أو إذا طالبوا بمعاقبة المعتدين من الغوغاء على الأملاك العامة والخاصة. وأما الإسلاميون الذين يقبعون في السلطة الآن فإنهم يريدون الاحتفاظ بجاذبيتهم للجمهور، وكسبهم لهم حتى وإن كان في ذلك عدوان على الناس وحرياتهم وحياتهم وسمعتهم، مواطنين وأجانب. وقد تجنب كثير من هؤلاء – في تواطؤ محمود - ذكر شيء سلبي عن الأقباط، لكنهم تطرقوا لمواضيع أخرى تشعر بالفعل بغياب الإحساس بالحق في الحرمة الخاصة، وغياب الإحساس باحترام الآخرين وثقافاتهم وأديانهم، كما غياب الكوابح دون ارتكاب العنف لأتفه الأسباب.

وكان ذلك كله ملحوظا خلال العقود القليلة الماضية من جانب البعض ضد المسيحيين بالعراق ومصر. وكنا نعزي النفس بأن تلك المظاهر ناجمة عن تلاعب الجهات الأمنية بالعواطف والوقائع. لكنه استمر وزاد بعد الثورات العربية، ومن جانب الفئات نفسها أو الأشخاص أنفسهم تقريبا. وما عاد الأمر قاصرا على التعرض لمعتقدات غير المسلمين وحرية ممارستهم لدينهم؛ بل اشتدت الهجمات على المساجد والمزارات بحجة مكافحة الشرك، وعلى مؤسسات وجمعيات المرأة بحجة مكافحة العلمانيين والفساد. وعلى الكليات والمعاهد بحجة فرض الحجاب والنقاب أو للتصدي لمحاولات منعهما. وقد لفت انتباهي وأنا أتابع وقائع الاحتجاجات على الفيلم المسيء أن كل المتحدثين على التلفزيون كانوا يتركون الفيلم موضوع الاحتجاج فجأة ليهجموا على إحدى الممثلات بحجة أن ردة فعلها كان مبالغا فيها على اتهام أحد المشايخ لها بالدعارة والفساد على التلفزيون! فهل يأتي هذا الهياج لطول الانكباب؟ أم يأتي من جانب المحترفين لإحساسهم بأن الفرصة أتت للاستيلاء على كل شيء بحجة مكافحة الغرب والتغريب وتطبيق الشريعة وفرض الحل الإسلامي؟! إن الذي أراه أن الكبت السابق والضغوط الأمنية من جهة، والاستغلال الحالي من جهة ثانية، عاملان واردان وقويان في تعليل استشراء هذه الظواهر الشاذة بعد الثورات. إنما من جهة ثانية، لا أعتبر ذلك كافيا لاستيعاب هذه الأمور بشكل كامل.

أوليفييه روا باحث فرنسي متخصص بشؤون الحركات الإسلامية. وقد صدرت له عدة كتب في مواضيع الإسلام السياسي في العقدين الأخيرين من السنين. لكنه في عام 2010 - 2011 وسع دائرة اهتماماته، إذ أجرى دراسة مقارنة بين «الصحوات» في سائر ديانات العالم. وقد تبين له أن ما يجمع بين صحوات البوذية والبروتستانتية واليهودية والإسلام أنها تمنت دائما الإقبال على المظاهر التعبدية والطقوسية في الدين والإعراض عن تقاليد وأعراف العيش والتصرف داخل الجماعة الخاصة، وفي التعامل مع الجماعات الدينية الأخرى، حتى لو كانت تلك الأعراف ثابتة في النصوص التي يعتقد الصحوي قداستها! سمى الرجل كتابه: «دين بلا ثقافة». إن المرعب في الظواهر المستشرية أيام القذافي والأسد وصدام والنميري والبشير والعسكر الجزائري، والمستشرية أيضا لدى متشددي الإسلام الأصولي، هذا الفساد والإفساد للطبيعة البشرية، سواء باسم الوطنية والقومية أو باسم الدين وتطبيقه. نعم، ما عاد هناك إحساس قوي لدى الشباب بحرمة الدم وحرمة الكرامة وحرمة الممتلكات، وهي الأمور التي أوصى بها نبينا صلوات الله وسلامه عليه في خطبته بحجة الوداع. إنه ذهاب من مدعي الدين من الغوغاء والعامة إلى أنه يمكن أن يكون هناك دين بلا أخلاق، وكيف يكون ذلك والله سبحانه وتعالى يقول: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر». وهل هناك منكر أعظم من قتل أناس مسالمين بالقذائف الصاروخية والإحراق؟! لقد أراد شبان كثيرون استسهلوا العنف والتظاهر والشعارات بعد سقوط حكومات الاستبداد – التعبير عن استنكارهم للإساءة إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، لكنهم بخروجهم على محرمات الدين والأخلاق ما اتبعوا سنته صلوات الله وسلامه عليه، وأساءوا إلى الإسلام. وقد تتسبب هذه الحوادث المتكررة بليبيا وبغيرها في العودة على الأعقاب، إلى زمن بن لادن و«القاعدة» والعياذ بالله.