زمن الصحوة.. التاريخ والمصائر

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في كتابه «زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية» (الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2012)، يقدم الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا توثيقا دقيقا وتحليلا رصينا لتاريخ وسوسيولوجيا تشكُّل الحركات الإسلامية في المملكة العربية السعودية إبان الحقبة التاريخية من منتصف القرن العشرين وحتى أواخر العقد الأول من القرن الحالي.

والكتاب في الأصل عبارة عن أطروحة دكتوراه تغطي مرحلة مهمة لا تزال بقعة معتمة في الأوساط البحثية. كما أنه يعد بمثابة أول بحث أكاديمي موسع يدرس تاريخ وبنية الحركات الإسلامية في المملكة العربية السعودية التي قضى بها الباحث قرابة ستة أعوام كاملة في سبيل إتمام دراسته، ولتتبُّع عشرات المصادر والوثائق، كما أجرى خلالها عشرات الحوارات مع أهم وأبرز الشخصيات الفاعلة في وسط الصحوة.

وإذا كانت الحركات الإسلامية عموما تمثل عالما غامضا بالنسبة إلى الغرب؛ فإن الحركات الإسلامية في المملكة العربية السعودية تحديدا كانت، ولا تزال، تمثل وسطا شديد الغموض والتعقيد؛ ليس فقط بالنسبة إلى العالم الغربي أو العالم العربي فحسب، بل حتى للمثقفين والمتابعين داخل المملكة.

وإذا تجاوزنا الفصل الأول الذي هو عبارة عن لمحات تاريخية تتحدث عن ولادة المملكة وتطورها، نجد أنفسنا إزاء محاولة رصينة لرصد وتحليل كيفية انتقال الناشطين الإسلاميين من مختلف البلدان العربية والإسلامية للاستقرار في المملكة، وللانخراط في حركة الصحوة التي جمعت بين الاشتغال بالسياسة من جهة، والدين من جهة أخرى.

يتكون بناء الكتاب من سبعة فصول، خصص الأول منها لإبراز الخلفية التاريخية التي نشأت فيها الحركة الإسلامية في مجتمع منقسم، بينما تناول الثاني نشأة حركة الصحوة في المملكة بالتركيز على جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الوليدة كطليعة لمجتمع إسلامي بديل، والسياق الملائم لتطورها وقدرة الصحوة التوحيدية، في حين عالج ثالثها مقاومة نفوذ الصحوة بالتركيز على الثورة الألبانية، وبروز التيار الجهادي المعادي لها.

في الفصل الرابع المعنون «تضحية جيل»، يناقش المؤلف المنافسات الصحوية التي جرت من أجل السيطرة على الفضاء الاجتماعي، وهنا تبرز المعالجة السوسيولوجية لموضوع الكتاب، فيمر على جيل الصحوة والركود، ثم يرصد الصراع الذي دار ولا يزال مع الحداثة، منتهيا بالتركيز على طموحات علماء الصحوة وتجاوز منطق المجال إلى منطق الانتفاضة، وهو عنوان الفصل الخامس، الذي يدرس فيه المؤلف آليات التعبئة المختلفة، والتعاون العابر للقطاعات، والدور التحفيزي لحرب الخليج، وتقلبات المشروع الإصلاحي.

أخيرا، يخصص المؤلف الفصلين الأخيرين، السادس والسابع، لتشريح أسباب الإخفاق، ولوضع الإسلاميين بعد الفشل، ثم ظهور ما سماه «الليبرو - إسلاميون»، منتهيا بمحاولة إعادة تعريف بنيوية لما بعد الإسلاموية.

واللافت للنظر في هذا الكتاب، هو إدراك المؤلف لضرورة الإلمام بالجذور التاريخية من أجل دراسة حركة أو زمن الصحوة. ففي سياق حديثه عن الزلزال الهائل الذي أحدثه احتلال العراق للكويت في الثاني من أغسطس (آب) 1990، وما ترتب عليه من تشكيل الحدث نقطةَ ذروةٍ للحركة الإسلامية السعودية، لا ينسى المؤلف أن يربط ذلك كله بمجمل الهياكل التي جرى إعادة تفعيلها والأفكار التي سبق أن تبلورت خلال العقود السابقة في بيئة إسلامية «حركية» تعود جذورها إلى سنوات 1953 - 1954، عندما استقر منفيون من حركة الإخوان المسلمين المصرية في المملكة.

وفضلا عن السياق التاريخي المهم الذي رافق نشأة حركة الصحوة؛ فإن زمن ولادتها قد عبّر بالفعل عن لحظة حقيقية أتاحت فرصة فريدة لاختبار القدرة التعبوية للحركة الإسلامية في المملكة. فقد استطاعت الحركة في زمن قليل نقض ما سماه المؤلف «منطق السيطرة الاجتماعية»، وإن فشلت تلك الجهود في نهاية المطاف.

ومن هنا، تبدو أهمية الوقوف على مجمل التحولات والتطورات التي رافقت نشأة الحركة باعتبارها مفتاحا أساسيا لفهم التغيرات التي شهدتها الحركات الإسلامية السعودية في مستهل القرن الحادي والعشرين. وبحسب المؤلف، فإن حركة الصحوة شكلت نقطة انطلاق تأسيسية بوصفها الحدث الأبرز الذي تحولت فيه سائر الحملات التعبوية التالية للتيار الإسلامي داخل المملكة إلى نقطة مرجعية أساسية، في مسعى لربطه بـ«لحظة» تعد مصدرا لا ينضب للشرعية في الدوائر الإسلامية النشطة.

فعلى الرغم من أن الصحوة حققت نجاحا سريعا في الاصطباغ بصبغة محلية عبر ضم عناصر أساسية من الثقافة الدينية السعودية إلى لغتها وسلوكياتها، فإن نواتها قد تكونت من العناصر المنفية لجماعة الإخوان المسلمين الذين قدموا من خلفيات اجتماعية وسياسية غريبة بالكامل عن المملكة.

وقد شغل «الإخوان» من الأيام الأولى لهجرتهم، في أعقاب الإجراءات القمعية التي قام بها عبد الناصر سنة 1954، وحتى أواخر الخمسينات، مناصب رفيعة في المملكة، وامتنعوا عن مزاولة النشاط السياسي. لكن مع تغير السياق الجيوسياسي واحتدام المنافسات الإقليمية، تغير وضعهم وأضحوا جهة محورية فاعلة.

في هذه الحقبة من التوترات المتصاعدة (1957 - 1962) التي زادت فيها حدة الخلاف بين المملكة وعبد الناصر، فضلا عن اندلاع الثورة اليمنية في 26 سبتمبر (أيلول) 1962، بدأت الكتلة الإسلامية بتشكيل خطاب عرف باسم «التضامن الإسلامي». وفي تلك الأثناء، تم تأسيس إذاعة «صوت الإسلام»، وإنشاء أول شبكة تلفزيونية سعودية بقرار من الملك فيصل، وتأسيس «الجامعة الإسلامية» في المدينة المنورة، و«رابطة العالم الإسلامي».

يتحصل مما سبق، أن المملكة قد شهدت في ستينات القرن الماضي موجة عارمة من الأفكار والممارسات غير المألوفة التي عمت المجال الديني المحلي، وهي أفكار الإخوان المسلمين وممارساتهم. وقد شكل هذا الغرس بذرة حركة اجتماعية عريضة أنتجت ثقافتها المميزة ومنظماتها الخاصة التي سرعان ما انتشرت في سائر مجالات المجتمع السعودي تقريبا من خلال النظام التعليمي.

عرفت هذه الحركة الاجتماعية على المستوى المحلي باسم «الصحوة الإسلامية»، في ارتباط مباشر بعملية «الانبعاث الإسلامي الشامل» التي توطدت في العالم الإسلامي منذ ستينات القرن الماضي.

وقد تبلورت هذه الآيديولوجيا عند تقاطع مدرستين فكريتين متمايزتين، لكل منهما وجهات نظر خاصة تجاه العالم تختلف عن وجهة نظر المدرسة الأخرى، وهما: المدرسة الوهابية، ومدرسة الإخوان المسلمين.

وبحكم هذا الاختلاف، تمايزت هموم هاتين المدرستين وأولوياتهما تمايزا كليا، لكن ذلك جعل إحداهما مكملة للأخرى، ووضع الأساس لبروز «حركة الصحوة» عبر النظام التعليمي الذي أبقى العقيدة امتيازا للأولى، على الرغم من هيمنة طرائق الثانية عليه.

وبحسب المؤلف؛ فإن ميول كل من: البنائيين (نسبة إلى حسن البنا) والقطبيين (نسبة إلى سيد قطب) قد حظيت بتمثيل داخل «تيار الصحوة»، لكن ميول القطبيين هي التي سادت في النهاية وذلك بفضل مجموعة من الآباء الفكريين لآيديولوجيا الصحوة، في مقدمتهم: محمد قطب الذي اضطلع بدور بارز في تطور الحركة التنظيري، ومحمد أحمد الراشد الذي أثرت كتاباته في طرائق عمل الحركة وتنظيمها لنفسها.

وقد واصل محمد بن سعيد القحطاني، وكان أستاذا في جامعة أم القرى وأحد تلامذة محمد قطب، مهمة التخصيب الهجيني التي بدأها أستاذه في كتاب صدر سنة 1984، وكان له أثر كبير في الحركة وهو «الولاء والبراء في الإسلام». فقد أعاد من خلاله صياغة أسس الآيديولوجيا القطبية بعبارات بقيت تميز «التيار الإقصائي» داخل الحركة. وهكذا أوجد القحطاني تكافؤا توسط كلا من النقيضين: الحاكمية – الجاهلية، والولاء - البراء.

* كاتب مصري