أوليفييه روا.. في مواجهة الجهل المقدس

إميل أمين

TT

لعل من أهم المفكرين الأوروبيين الذين تتقاطع خيوط أفكارهم، مع الإسلام والمسلمين في العقود الثلاثة الأخيرة، يأتي الحديث عن الكاتب والباحث الفرنسي الشهير أوليفيه روا، وقد بدأ نجمه يسطع في سماء البحث بعمق عن ماورائيات الإسلام السياسي منذ عام 1985، عندما صدر كتابه «إسلام وعصرية سياسية» وروا حاصل على ثلاث شهادات دكتوراه في العلوم السياسية ويعمل حاليا أستاذا بالمعهد الجامعي بمدينة فلورنس، حيث يدير البرنامج المتوسطي بمركز روبير شومان. «هل يمكن أن يكون الجهل مقدسا؟ وهل من دين بلا ثقافة؟». بهذا العنوان يقدم روا أحدث كتبه متضمنة رؤاه المثيرة للجدل في هذا التوقيت المثير بدوره حول العالم، حيث صحوة الإيمانيات تجابهها غطرسة العولمة وسيادة المادية الجشعة، وتجذر الفكر الديني في العمل السياسي، كما في نموذج تيارات الربيع العربي من جهة، أو نهضة اليمين الأوروبي والأميركي من جهة ثانية، الأمر الذي يعيدنا إلى تساؤل المفكر الفرنسي والأديب الكبير اندريه موروا في ستينات القرن المنصرم: «هل سيضحى القرن الحادي والعشرون قرنا دينيا أم لا؟».

ما الجهل المقدس الذي يحدثنا عنه روا في كتابه الذي يتجاوز ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير والصادر مؤخرا عن دار الساقي؟ يرى روا أنه الاعتقاد بالديني المحض الذي يبني خارج الثقافات، هذا الجهل يحرك الأصوليات الحديثة المتنافسة في سوق للأديان، يفاقم اختلافاتها ويوحد أنماط ممارستها.

حكما إن طرح أوليفيه روا في هذا الكتاب المهم والذي هو في واقع الحال للنخبة وليس للعوام، يحتاج إلى عقلية ثقافية تتجاوز الذهنية الأحادية، وإلى عمق إيماني راسخ عند قارئه، لا تغيره أو تعدله تبدلات أولئك الذين يجوبون في قلق شواطئ الأديان المختلفة، بحثا عن الحقيقة الغائبة بالنسبة لهم. يكفي المرء أن يقرأ بعناية فائقة المدخل الذي كتبه روا لكتابه تحت عنوان «الحداثة والعلمنة وعودة الديني» حتى يعرف أنه مقدم على الخوض في غمار رحلة فكرية مرهقة جدا للعقل، إذ يستهل الرجل المدخل بتساؤلات أكثر من أن نحيط بها، من عينة لم تستهو السلفية الجذرية شبانا أوروبيين بيضا أو سودا؟ وكيف أضحت «القاعدة» التنظيم الإسلامي الذي يضم أكبر نسبة مئوية من المتحولين إلى الإسلام؟

يتساءل المؤلف أيضا: «لماذا يصبح عشرات الآلاف من المسلمين في آسيا الوسطى مسيحيين أو شهود يهوه؟ ولماذا تجد الكنيسة الكاثوليكية كثيرا من العناء في الاحتفاظ برعاياها، وتشهد هبوطا في عدد الملبين لدعوة التكريس للكهنوت في الغرب؟

لا يتوقف روا في رصده للظاهرة الدينية فقط عند الإسلام والمسيحية، فهو يرى أن البوذية تحقق اليوم نجاحا مشهودا في الغرب، ويتساءل لماذا؟ كما أن لديه علامة استفهام تجاه الوضع في إيران، ففي وجهة نظره أنه كلما احتدم الصراع الفكري حول تجذر ما هو ديني أنتج ميلا إلى علمنة المجتمع المدني، بل إنه يفاجئ القارئ بالحديث عن كوريا الجنوبية التي باتت اليوم تقدم قياسا على سكانها، أكبر عدد من المبشرين البروتستانت حول العالم.. هل هي صحوة دينية أم فرز طبيعي لما قال به صموئيل هنتنغتون من قبل عن صراع الثقافات المتخفي في ثياب المواجهات الدينية، ما بين يهودية ومسيحية غربية في مواجهة إسلام وكونفوشيوسية شرقية؟ وأين الفاصل بين الديني والسياسي، والديني والثقافي في تلك التداخلات التي باتت وعن حق مزعجة؟

يرى روا أن نظرية صدام أو حوار الحضارات لا تتيح فهم هذه الحركات المزعزعة التي تخلط الخرائط والأقاليم والهويات، وتحطم الروابط التقليدية القائمة بين الدين والثقافة. على هذا الأساس يضع القارئ شرقا وغربا، ومن أي دين أو ملة، تجاه استحقاق جوابي لسؤال جوهري: «ما الذي يحدث عندما ينفصل الدين عن جذوره الثقافية؟ أو على نحو أبسط: لماذا تبدو الأديان اليوم وكأنها هي التي تضطلع بإعادة ترتيب للهويات؟

يقرر روا أن هناك فرضيتين ملكتا زمام المواجهة الفكرية في الربع الأخير من القرن العشرين: الفرضية الأولى ترى في العلمنة سيرورة محتمة كشرط للحداثة، ونتيجة لها في آن. والفرضية الثانية تحيي عودة الديني على أساس أنها احتجاج على حداثة مستلبة أو وهمية، وإما كشكل مختلف للدخول في الحداثة.

هل ينبغي فرض العلمنة في مقابل الديني وعلى حساب الحرية الفردية إذا اقتضى الأمر، أم أن التجديد الديني ما هو إلا انعكاس للتنوع وللغنى وللحرية الإنسانية؟ يتساءل روا. يقترب المفكر الفرنسي في جوابه من حدود الفيلسوف بأكثر مما هو منظر سياسي، والحال أن الجدل القائم المتقدم ينطوي على سوء فهم كبير فالعلمنة لم تزل الديني، غير أنها وهي تفصل الديني عن بيئتنا الثقافية فإنها تظهره على العكس كديني محض.

هل عملت العلمنة عملها في الواقع؟ ذلك كذلك، فما نشهده اليوم إنما هو إعادة صياغة مناضلة للديني في فضاء معلمن، أعطى الديني استقلاله الذاتي وتاليا شروط توسعه.

النتيجة الخطيرة التي هي المفتاح الحقيقي لقراءة هذا العمل القيم جدا كما يخلص إليها المؤلف تتلخص في أن «العلمنة والعولمة أرغمت الأديان على الانفصال عن الثقافة، وعلى أن تعتبر نفسها مستقلة، وتعيد بناء ذاتها في فضاء لم يعد إقليميا، وبالتالي لم يعد خاضعا للسياسي». والشق الثاني للخلاصة أن فشل الديني السياسي سواء كان إسلاموية أو مسيحية مسيسة كما في النموذج الأميركي عند جورج بوش الثاني، نجم من أنه أراد منافسة العلمنة في ميدانها الخاص، والمتمثل في الفضاء السياسي، بما ينضوي عليه من حقائق معاصرة كالأمة والدولة والمواطن والدستور والنظام القانوني. والشاهد أنه من بين الأسئلة التي تقع في المنطقة الوسطى بين ما هو فقهي ديني وما هو اجتماعي ثقافي يظهر سؤال: «هل الدين جزء من الثقافة؟»، هكذا يطرح روا السؤال وفي مواجهته تطرح النخبة الفكرية حول العالم سؤالا معاكسا: «هل الثقافة جزء من الدين؟».. من يفض هذا الاشتباك الفكري ابتداء؟

الفصل الأول من الكتاب يتناول بالتفكيك والتحليل العلاقات بين الدين والثقافة، وبحسب الكاتب إنها ليست بجديدة، مثلما أن العولمة ليست بمستجدة، غير أن التطور المعاصر للعولمة يتجاوز ذلك، فهو ينظم ويدفع إلى أقصى مدى جميع مكونات الظاهرة، ولا سيما منها إزالة الصفة الإقليمية، ويدخل بعدا مستجدا هو التفريق بين الأديان والأقاليم والمجتمعات والدول، ما يستتبع قدرا أكبر من الاستقلالية للديني.

هذه الرؤية في واقع الحال تقتضي من القارئ والباحث وثيق ولصيق الصلة بما هو ديني وما هو ثقافي علامة استفهام: «هل الأديان كافة متساوية في هذا المظهر الجديد الذي باتت خطوط طول وعرض العولمة تفرضه؟

الرد يحملنا على التشابك من جديد مع المشهد الثقافي، فعلى سبيل المثال تنتشر المسيحية الإنجيلية والتي هي خلاف الكاثوليكية والأرثوذكسية حول العالم.. ما هو السر في هذا الانتشار مع الأخذ في الاعتبار أنها التيار المسيحي الديني الأحدث تاريخيا.

يقدم لنا الكتاب تفسيرين متعارضين: الأول يفسر أهمية الأديان من خلال علاقتها بالثقافات الغالبة والمغلوبة، عندئذ يقرن توسع الإنجيلية أو البروتستانتية بالهيمنة الأميركية، وتجذر الإسلام باعتراض ثقافة مغلوبة هي ثقافة الجنوب كما يميل إلى ذلك المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا.

والتفسير الثاني يعطي بالضد امتيازا لمقدرة دين على الظهور كدين عالمي لأنه «حيادي ثقافيا» أي أنه متحرر من الفعل الثقافي أو متلائم مع أية ثقافة مهما تكن.. هل يتحتم مع هذا التفسير سؤال ما؟ نعم ولا شك: «هل يحصل توسع دين ما بفضل توسع دين وثقافة؟».

يقرر أوليفييه روا أنه إذا كانت البروتستانتية الأميركية تدافع لصالح الصياغة الأولى لهذا السؤال، فإن انتشار الإسلام والحركات الدينية الجديدة يدافع عن الثانية. في الفصل الثالث من الكتاب والذي يحمل عنوان «دين، عرق، أمة» يضع روا يدنا على أحد مكامن الخطر والخوف في القرن الحادي والعشرين، عبر حديثه عن الصلة بين الثقافة والدين، والتي تبدو واضحة الصلة في عدد من المجتمعات والجماعات العرقية فالبولنديون كاثوليك مثل الأيرلنديين، والروس أرثوذكس، والماليون مسلمون، وأهل التبت بوذيون، ولا يطرح الانتماء الديني كخيار شخصي بل كهوية جماعية مستقلة عن الاعتقاد الفردي، ويتطابق المعلم الثقافي «بفتح الميم وتسكين العين»، والمعلم الديني حتى إذا ما تعولمت المجتمعات فإنها تحمل على الدوام الأثر الثقافي للدين المؤسس وهذه الرؤية للواقع هي في أساس «صدام الحضارات» الشهير وحوارها أيضا.

الصراع بين الثقافي والديني لا يختص بالشرق دون الغرب، ولا بالشمال قصرا على الجنوب، وخير دليل على ذلك السجال الذي يدور الآن في الغرب حول الأعياد الدينية، فعلى سبيل المثال تعرف أوروبا في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) عيدا يسمى «جميع القديسين»، هذا العيد تعرفه أميركا بعيد «الهالويين» أي الأشباح والعفاريت، وهو فرصة ذهبية لسحق الديني لأسباب تتخفى وراء التقليد الثقافي للدولة.

وبحلول نهاية التسعينات كان أساقفة فرنسا يرفضون ملمحا ثقافيا أميركيا يصدر لهم متخفيا في عباءة الديني. بنفس القدر أيضا ومنذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهر اتجاه في المحلات التجارية الأميركية الكبرى (المولات) لتغيير الاحتفال بالكريسماس، الذي يعني مولد المسيح، إلى الاحتفال بما يسمى «عيد ميلاد سعيد»، بغض النظر عن هوية صاحب الاحتفال الأصلي.

هل يمكن فهم هذه الظواهر التي يتشابك فيها المقدس الديني مع الجهل الثقافي؟

لا بد من قراءة معمقة لماورائيات الثقافي، إن أردنا فهم أبعاد المتحول الديني والمتغير العقائدي في القرن الحادي والعشرين.. هل من مشهد أخير يدلل به المفكر الفرنسي الكبير على إشكالية تشابك الديني مع الثقافي في الأعوام الأخيرة؟

أفضل مثال يمدنا به هو الجدل الذي احتدم عندما قام كيت اليسون، أول مسلم منتخب نائبا في الكونغرس الأميركي عام 2006، بأداء القسم على القرآن، وقد طلب معلق محافظ، ويهودي فضلا عن ذلك، أن يقسم على الكتاب المقدس المسيحي، مدعيا أن المسالة ليست مسألة دين بل ثقافة سياسية، ولأن الكتاب المقدس في الخلفية الجمعية لأميركا العلمانية الهوية، الدينية الهوى، هو «النص الأهم للتاريخ الأميركي»، فقد فهم المجتمع الأميركي ما هو ثقافي بالنسبة لهم بأكثر مما هو ديني بالنسبة لكيت اليسون، وفي هذا تجسيد لمعنى الجهل المقدس بأوضح عبارة.

وعلى هذا الأساس يذهب روا إلى أن المساواة في النموذج الأميركي بين الأديان تعني في آن واحد مشاكلتها وفقا لقالب مسيحي بوجه أولى، والاعتراف بمشروعية تلك الأديان الخاصة، وهو أمر مرفوض في الرؤية الثقافوية للأديان التي تفرق بين إيمان وثقافة دينية كما كان يفعل اندريه موروا.

«الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة»، لا نغالي إن قلنا إن قراءته أمر واجب، مع عودة الصراع في العامين الأخيرين من جديد عربيا على الأقل، بين ما هو ديني لله، وما هو ثقافي اجتماعي لقيصر، أي قيصر وكل قيصر.

* كاتب مصري