الإساءة للرسل ساهمت في انتشار رسالاتهم

TT

الدافع للكتابة في هذا الموضوع هو الفيلم المسيء للنبي (صلى الله عليه وسلم) والرسوم المنشورة في عدة صحف أوروبية في ذات الصدد. وقد يمتعض البعض لهذه البداية الباردة في ذكر مسألة أثارت كل هذا القدر من الحماسة والغضب لدى المسلمين، لكنني لا أعرف وسيلة أغيظ للعدو من أن تصرعه بتدبيره هو نفسه. ثم إن هذه الحملات قد تكررت، وكل الدلائل تشير إلى أنها ستتجدد، فالحمقى من شانئي الإسلام لن ينقطعوا.

ومن قبل ذلك، قامت استراتيجية قريش في محاربة النبي على تشويه صورته، فهو عندهم مدع: مرة شاعر، ومرة ساحر، ومرة نحال يأخذ من أساطير الأولين، ومرة صاحب قرين من الجن يأتيه بما يشبه الوحي. المدهش أن القرآن نفسه يحكي هذه الاتهامات، ولا حرج، فالنبي مشتمل بوعد من العصمة لا يضره معها الشنآن. لكن الأهم هو أن استراتيجية قريش تفشل فشلا ذريعا وتؤدي إلى معكوس أهدافها، فالعرب تستهويها قصص ذلك الذي تسميه الناس الصابئ، حتى دارت بقصته الركبان وعرفت بأمره البدويات في الفلوات. ومن باب الفضول، أو غيره، تكاثرت الوفود على مكة في المواسم، الشيء الذي وفر لصاحب الرسالة منصة للدعوة ما كانت لتتوافر لو أن خصومه أخملوا ذكره. وقد ندمت قريش على ما عظمت به من شأن النبي حتى أخذ رجالها يتلقون الركبان خارج مكة ليصدوهم عن سماعه. وشيئا فشيئا، مع ازدياد قوة الجماعة الناشئة، تحولت الجزيرة العربية إلى مسرح كبير للمواجهة بين المدينة ومكة، بين قوة صاعدة وقوة هابطة، فاصطف العرب إزاءهما فسطاطين حتى جاء الفتح، وبقية القصة تاريخ كما يقال.

وقبل الإسلام، جاء عيسى (عليه السلام) برسالته إلى بني إسرائيل ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فنفسوه رسالته وغبنوه مسيحيته، رغم أنهم كانوا يرقبونها كما بشرت بها كتبهم. ثم لجأوا إلى ما ظلوا يتقنونه عبر التاريخ من بهتان الأنبياء، فعيروه بميلاده، ووشوا به لدى والي فلسطين من قبل روما، وحرشوه لصلبه كما كان يفعل بعتاة المجرمين والقتلة. لكنهم من حيث أرادوا إعدام شخصيته وبهتانه أفشوا ذكره، فالتف حوله المؤمنون برسالته، كما التف حوله من تشوفوا فقط إلى رؤية معجزاته، ثم ما لبث هؤلاء أنفسهم أن آمنوا برسالته.

وقبل محمد وعيسى، بعث الله موسى (عليهم جميعا السلام) إلى فرعون بدعوتين: الأولى أن يؤمن بالله ويوحده، والثانية أن يرسل معه بني إسرائيل. لم يكتف فرعون بأن جحد الدعوتين، لكنه أعمل الآلة الإعلامية الضخمة للدولة الفرعونية وأشاع أن موسى وأخيه لا يعدوان أن يكونا ساحرين، ثم أرسل في المدائن حاشرين لينشروا بهتانه. وكان جراء تلك الحملة أن انبث وعي قومي جديد في أمة بني إسرائيل الذين كانوا قد مرنوا على الذل والخنوع وماتت فيهم نخوة الثورة، وبقية القصة تاريخ.

بالطبع، ليس مقتضى هذه الكلمات هو تشجيع الإساءة للأديان من أجل نشرها. لكن القراءة المدققة لمحركات الصراع بين الدعوات وخصومها تثبت - عبر التاريخ - أن الدعوات التي تنطوي على الحكمة السماوية لا يمكن محاربتها بالإساءة إليها، بل إن الإساءة إليها قد تأتي بعكس المطلوب، إذ إنها تفتح فرصا ومنافذ للدعوات للوصول إلى الناس بصورة لا يحسب أصحابها أنفسهم حسابها ولا يتصورون مداها.

من الواضح أن حملة الإساءة للإسلام ونبيه لن تتوقف، بل ربما تزداد. وستعجب هذه الإساءات قلة من المعتوهين والحمقى والجهلاء، لكنها في ذات الوقت ستنبه ملايين جددا من البشر، لم يأبهوا من قبل بأن يعرفوا شيئا عن الإسلام ونبيه، وستتيح فرصا للوصول إلى عقول هؤلاء وأفئدتهم. إذن، لنخنق الثور الهائج بالحرقة الحمراء، فليعمل كل على شاكلته، هناك من بوسعه أن يسير مظاهرة سلمية مستنكرة، وهناك من بإمكانه أن يستخدم مكانته وقدراته القانونية للمطالبة بإصدار تشريعات قطرية ودولية تجرم الإساءة للأديان، وهناك من يستطيع أن يوظف مواهبه الفنية والأدبية للتعريف بالإسلام ونبيه، هناك من سيكتب ومن سيصور ومن سيجادل ومن سيدعو. أما نبي الإسلام فهو الرابح الأكبر من كل ذلك، فإن تاريخ البشرية لم يعرف رجلا مثله أحبه مئات الملايين من البشر، وظلوا يصلون عليه منذ أربعة عشر قرنا، ثم هبوا جميعا لنصرته والدفاع عنه كما رأينا في الأيام الماضية.

* مستشار الرئيس السوداني السابق