أميركا والإسلام.. والمشكلات العميقة

رضوان السيد

TT

ما كنت أحب العودة إلى مثل هذا العنوان، بعد الاعتياد عليه على مدى أكثر من عقد من الزمان منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، وإلى احتلال أفغانستان والعراق، وشن الحرب العالمية على الإرهاب «الإسلامي» التي لا تزال مستمرة في عشرات البلدان بأشكال ظاهرة أو خفية. لكن مسألة الفيلم المسيء للرسول، صلوات الله وسلامه عليه، والذي أهاج ثورة في أوساط الجمهور في كثير من البلدان العربية والإسلامية، أظهر وللمرة الألف هشاشة العلاقة بين العرب وأميركا، وبين المسلمين والغرب.

لقد ظن كثيرون في الغرب والشرق أن الأزمة مع الولايات المتحدة (والغرب) انطوت أو تضاءلت، نتيجة أمرين: السياسات الجديدة للولايات المتحدة أيام الرئيس أوباما، وحدوث حركات التغيير العربية. فالرئيس أوباما لجهة خطاباته وكلماته في القاهرة وإسطنبول، ولجهة لونه الأسود وأصوله الإسلامية، دفع باتجاه إزالة الكثير من الشكوك والمخاوف. وبالذات لجهة إحساس العرب والمسلمين أنه لا يكن عداء إثنيا أو ثقافيا أو دينيا تجاه المسلمين. ثم لأنه غير السياسات الهجومية فأعلن عن الانسحاب من العراق (2010)، ومن أفغانستان (2014). وعندما اندلعت حركات التغيير الشبابية العربية وقف الغرب كله، وعلى رأسه الولايات المتحدة، معها. وأيدها قولا وعملا كما ظهر في ليبيا على الخصوص، وكما ظهر بسوريا بشكل أو بآخر. وأذكر أنه عندما قال خامنئي مرشد الدولة الإيرانية لرئيس وزراء النظام السوري، أثناء مؤتمر عدم الانحياز بطهران: إن الولايات المتحدة وإسرائيل هما اللتان تسلحان الإرهابيين في سوريا ضد نظام المقاومة، فضلا عن تزويدهم بالأموال! فإن عشرات الآلاف من العرب والمسلمين أجابوا خامنئي بالمثل العربي: رمتني بدائها وانسلت! فموقف الولايات المتحدة من الثورة السورية أفضل بما لا يقاس من الموقف الإيراني الذي يشارك في ذبح الشعب السوري، وحتى الموقف الإسرائيلي أفضل من الموقف الإيراني والروسي، لأن إسرائيل التي أحبت طويلا نظام آل الأسد، لا تمده الآن على الأقل بالسلاح الذي يعينه على قتل شعبه! وبالفعل فإنه خلال التحركات الشعبية من أجل التغيير؛ فإن شعارا واحدا لم يرفع ضد الولايات المتحدة؛ مع أن الشبان الثائرين رفضوا مقابلة وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون عندما جاءت إليهم في ميدان التحرير! والواقع أن الأهم فيما أنجزته أو ثابرت على إنجازه حركات التغيير العربية، كان إنهاء التركيز نفسيا وثقافيا وسياسيا على «العدو الخارجي». وكانت أنظمة القوميين العسكريين قد دأبت منذ الخمسينات على صنع صورة للعدو لا تقتصر على إسرائيل؛ بل تتعدى ذلك إلى العالم كله. وكان القوميون معادين للولايات المتحدة، واصطفوا ضدها مع الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. أما الإسلاميون - الذين كانوا في المعارضة، لكنهم كانوا مسيطرين في المجالين الديني والثقافي - فقد قالوا بالعداء للمعسكرين: الرأسمالي والشيوعي، أي العالم كله! ومع الوقت تحول هذا الأمر إلى هاجس وآيديولوجيا لدى الأنظمة حتى تلك الصديقة للولايات المتحدة، فصار كل معارض جاد «عميلا» لجهات خارجية، ومن دون دليل غير المعارضة للنظام القائم. وما أسقطت الحركات المدنية التغييرية صورة العدو عن إسرائيل؛ لكن منطقها كان: حتى مواجهة إسرائيل تحتاج إلى حكم صالح، فلننشئ الحكم الصالح الذي يقيم حكومات غير فاسدة، وسيكون أكثر قدرة ومدعوما من الكثرة الساحقة إذا وقف في وجه إسرائيل أو أي طرف آخر معاد للدولة أو للأمة! وعندما انطلقت إثارة الفيلم المسيء للرسول، ما كانت السماء صافية تماما. فقد علا صوت «الجهاديين» من جديد بعد خفوت، وجرت غارات غامضة على الجنود المصريين بسيناء، وتصاعد الصراع بين الأميركيين (الطائرات من دون طيار) و«القاعدة» في اليمن والصومال وباكستان. وبدأ الجهاديون (قاعدة كانوا أو غير قاعدة)، يتذمرون من أن السلطات الإسلامية الجديدة لا تظهر سلوكا مخالفا لسلوك الأنظمة السابقة تجاه العدو الأميركي والإسرائيلي! والواقع أن السنتين الأخيرتين شهدتا ظواهر مختلفة ومتناقضة أحيانا؛ إن كان لجهة «القاعدة» والجهاديين، وإن كان لجهة السياسيات الأميركية:

- فقد أظهرت الوثائق والتسجيلات التي غنمتها المخابرات الأميركية من مقر أسامة بن لادن، أن الرجل كان لا يريد مصادمة الربيع العربي، ويرى في تغيير أنظمة الحكم تحقيقا للأهداف التي تقصدتها «القاعدة». لكن الظواهري - الجالس منذ مدة بإيران فيما يبدو - ما كان من أنصار ذلك، ويريد متابعة النضال بداخل الأقطار العربية والإسلامية، وضد المصالح الأميركية في كل مكان. وبعد اغتيال أسامة بن لادن، تابع الجهاديون عملهم في بلدان الربيع العربي ومن حولها كأن لم يحصل شيء. وهناك إشارات كثيرة إلى أنهم يتعاونون تعاونا وثيقا مع الأجهزة الإيرانية في كل مكان. وقد شجعهم كثيرا واقع أن السلطات الإسلامية الجديدة لا تريد الاصطدام بهم حتى لا يقال إنها إنما تضطهد الإسلاميين الآخرين للانفراد بالساحة، ولأنها لم ترد الاصطدام أيضا بإيران.

- أما الرئيس أوباما فقد تخاذلت خطواته كثيرا في العامين الأخيرين على الخصوص. فقد توقف عن كل شيء بفلسطين مراعاة لنتنياهو ويهود أميركا، كما أوقف كل جهود جورج ميتشل في الوساطة. وحتى اليهودي الصديق لإسرائيل دينيس روس، والذي خلف ميتشل تضايق وغادر أيضا. ومنذ أكثر من عام يصارع أبو مازن كأنما أمام طواحين الهواء. وقد وقع أخيرا بين محاصرة إدارة أوباما، ومحاصرة السلطات الإسلامية الجديدة بمصر، والتي تريد إرضاء حماس، وتحييد الجهاديين وعدم استعدائهم.

- ما أظهرت السلطات الجديدة في مصر حزما بأي اتجاه باستثناء المواجهة الجارية في سيناء. وقد خيب ذلك ظن الأميركيين، لكنه لم يرض بالطبع الجهاديين والقاعديين والإيرانيين.

- وإدراكا من الدوائر الاستراتيجية العالمية للخيبة التي بدأت تداخل شبان الإسلاميين، والعاطلين والمهمشين، من السلطات الجديدة. ولكي تزيد من زعزعة العلاقات بين تلك السلطات والولايات المتحدة؛ فقد أنتجت ذلك الفيلم الرديء واستخدمت في صنعه أقباطا من أقباط المهجر. وفي ظنها أن أمرين سيحدثان: فتنة قبطية/ إسلامية بمصر، وسخط على الولايات المتحدة وإحراق لسفاراتها في العالمين العربي والإسلامي. وهكذا تسوء العلاقات مع الولايات المتحدة على مشارف الانتخابات الرئاسية، ويعود أوباما لرفع شعارات الحرب لحماية المصالح الأميركية، وتستفيد إسرائيل من سوء العلاقات المتجدد فتزيد قبضتها على عنق أوباما، وتستفيد إيران من القبض من جديد على الإسلاميين المتطرفين، الذين بدأوا يطمئنون في ظل السلطات الجديدة، بعد أن خرج بعضهم من السجون، وعاد البعض الآخر من اليمن وإيران وباكستان وغيرها.

وما حدث كل ما قدرته دوائر الاستخبارات، ولا كل ما أملته إيران. لكن السلطات العربية الجديدة أحرجت إحراجا شديدا. والجمهور المتدين الشاب بدا في أسوأ صوره. ما استطاعت السلطات أن تكون حازمة منذ البداية، لأنها ما أرادت التذكير بقمع السلطات السابقة للمتظاهرين. لكنها بذلك أغضبت الولايات المتحدة. وما حصل كل ما أملته إيران، لذلك دفعت حسن نصر الله شخصيا للتدخل، معلنا عن احتجاجات مستمرة ضد الولايات المتحدة، ومحاولا صرف الأنظار عن الاستمرار الإيراني واستمرار حزب الله في قتل الشعب السوري، ومهددا - كما كان دائما - إسرائيل بالويل والثبور وعظام الأمور! لإسرائيل ولإيران إذن مصالح كبيرة في الاضطراب بالداخل العربي، وباضطراب العلاقة مع الولايات المتحدة، إنما لماذا هذا الاهتياج السريع، فيما يشبه عودة إلى المؤامرة العالمية على الإسلام، ولماذا تبدو الولايات المتحدة محبوبة أحيانا ومكروهة أيضا على الدوام؟

هناك بالفعل أزمة قيمية في أوساط الشبان العرب من غير المتعلمين والعاطلين عن العمل والذين يحسون بالتهميش. وقد كان ممنوعا عليهم كل شيء، ويحسون الآن - بعد سنتين في الشارع - أن كل شيء مسموح. فليست هناك روادع ولا ضوابط إذا تعلق الأمر بصورة العدو الذي اعتادوه. ثم إن هذا العدو السابق ما أظهر من وجهة نظرهم تغيرا ملحوظا، وهم يسمعون ذلك كل يوم في وسائل الإعلام، ومن الجهاديين الذين يحاولون تجنيدهم. وقد ثبت أن تجنيدا حصل، وأن أسلحة هربت من ليبيا، ومن السودان، وهذا فضلا عن بيئات التسلح بسيناء منذ عقود. وليست غزة وأنفاقها بعيدة عندهم، وبخاصة أن الاتصالات تحسنت مع غزة وتواصل الجهاديون مع الجهاديين.

وهكذا، فالسؤال ينبغي أن يكون ليس عن أسباب استمرار العداء، بل عن الأجواء الثقافية والاجتماعية المضطربة قيما وسلوكا وتصرفات، والتي يعيش فيها آلاف الشبان الصغار من الأسر الفقيرة والمهمشة، والتي ما تحسنت أحوالها بعد الثورات.

والسؤال ينبغي أن يوجه أيضا إلى المهتمين بسلامة العلاقات مع أميركا والغرب منا نحن العرب، ومن الغرب. فكما عندنا جماعات جهادية وإيرانية تريد أو تستفيد من إثارة النزاعات والفوضى، فكذلك هناك في الغرب مجموعات وأفراد وجهات ودول، تتقصد إثارة النزاعات بين الولايات المتحدة والعرب والمسلمين. وإذا حدث هذا الوعي لدى الطرفين، فإن بعض الإثارة يمكن منعها، والبعض الآخر يمكن العمل على ألا يتجاوز الحد في التداعيات والمآلات. لكن الداء والدواء يبقى عندنا: كيف نعيد بناء أنظمتنا ومجتمعاتنا الناهضة والمنتجة والمنيعة في وجه الإغراءات الرخيصة، والهيعات الهوج. فأولادنا ينتظرون منا الكثير وفي أزمنة قياسية، وقد تراكمت المشكلات وعز التصدي لها. وصدق الله سبحانه وتعالى حيث يقول: «قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ».