الفقه والتصوف.. الغاية والوسيلة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لطالما انشغل الكثير من الباحثين في الفكر الإسلامي؛ خاصة من المستشرقين، بمحاولة الإجابة عن التساؤل التالي: ما الذي يجعل «التجربة الصوفية» متباينة مع غيرها من التجارب الدينية الأخرى؟ وما أوجه فرادتها؟ وإذا كان مقصود كل عبادة «واحد»، فما الذي يجعل سبيل فرقة ما أكثر ثراء وأشد عمقا وإثارة للجدل كذلك؟! والواقع أن أوجه الاختلاف بين التجربتين: «الصوفية» و«الفقهية» تتوزع على أكثر من مستوى: معرفي، وأخلاقي، وسياسي، واجتماعي. نقول هذا على الرغم من كثرة الدعاوى التي استمرت طويلا، وعلى الرغم من تقليد ضرورة الجمع بين «الشريعة» و«الحقيقة» الذي حرص على الالتزام به جل المتصوفة؛ خاصة أتباع ما يسمى بـ«التصوف السني» في مقابل أصحاب «التصوف الفلسفي العرفاني الإشراقي». فعلى المستوى المعرفي؛ ثمة تباين بين الطريقتين «الصوفية الباطنية» و«الفقهية الظاهرية» فيما يختص بغاية العبادة والعلم، وكذلك وسيلة المعرفة، وبالمثل الموقف من النص تعاطيا ظاهريا أو تأويلا.

وعلى المستوى الأخلاقي؛ ثمة تباين في «الغائية الأخلاقية» وتجلياتها المختلفة مع بقية الجوانب المعرفية والسياسية والاجتماعية. وعلى المستوى السياسي، ثمة تباين واضح في علاقة هؤلاء وأولئك بالسلطة السياسية على مر العصور.

وأخيرا على المستوى الاجتماعي، ثمة تباين أكبر فيما يتعلق بآليات تعامل كل فريق مع العامة، ومدى اشتغالهم بقضايا الرعية، وإسهامهم في خدمة مجتمعاتهم. ولذلك، يبدو أن سبب الاختلاف الرئيس يرجع إلى تباين «المنهج» لدى الفريقين، ففيما يهتم المحدثون والفقهاء بالفهم الظاهري للشريعة، يعمد المتصوفة إلى تفحصها وتأويلها واستبطانها.

وفي كلمة لافتة يبدو فيها الطرح الصوفي، على فرادته، متباينا، ليس فقط مع المحدثين والفقهاء، بل والمتكلمين والفلاسفة أيضا، يقول رويم البغدادي لأحد مريديه الجدد: «قعودك مع كل طبقة من الناس أسهل من قعودك مع الصوفية، فإن كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق، وطالب الخلق أنفسهم بظواهر الشرع وطالب هؤلاء أنفسهم بحقيقة الورع، ومداومة الصدق».

وقد أدرك الفريقان أنهما على طرفي نقيض في تفهمهما للشرع، على الرغم من محاولات المتصوفة التأكيد على توافق «الحقيقة والشريعة». وكانت المسائل الخلافية بينهما ظاهرة في تفسيرهما لمعنى الشريعة والطرق التي يجب أن يتم بها اشتقاقها وتبريرها.

وبديهي أن يفضي اختلاف منهج الفريقين إلى تفاوتات شتى تتعلق في الغالب بفهم طبيعة العبادات وغايتها، وهدف الواجبات الدينية وقيمتها، ومعنى الوحدانية والعبودية ومدلول الشهادة، وانعكاس ذلك كله على الموقف من «السلطة السياسية»، وتوضيح أي العلوم أفضل؟ ووسيلة المعرفة، وغائية الأخلاق.. إلخ.

ففيما يتعلق باختلافهما على المستوى المعرفي، وما يتعلق بغاية العلم ووسيلة المعرفة، نلاحظ أن كلا من المتصوفة والفقهاء يتفقان على أهمية العلم وحث الإسلام عليه، بيد أنهما كانا يختلفان في فهم وتحديد منطلقات هذا العلم وأهدافه وغايته. فإذا كانت أول آية نزلت من القرآن هي «اقرأ باسم ربك الذي خلق»؛ فإن القراءة/ العلم يجب أن لا تكون - في العرف الصوفي - باسم منفعة شخصية، ولا باسم مصلحة إقليمية، ولا باسم غاية مادية، ولا باسم وزير ولا أمير، وإنما هي باسم الله، وإذا كانت باسم الله، فإنها تفيد الشخص باعتباره فردا، وتفيد المجتمع الخاص الذي نسميه «وطنا»، بل وتفيد الإنسانية جمعاء.

في المقابل من ذلك؛ أوقف معظم الفقهاء جل جهودهم على فهم الظاهر دون الباطن، أو الاشتغال «بما عمت به البلوى» على حد تعبير الغزالي الذي حكم بأن الاشتغال بعلم الظاهر، دون الباطن، محض «بطالة» ليس إلا!! عند هذا الحد نلمح تباينا في تحديد أي العلوم أولى بالاشتغال، وفي هدف توظيف العلم سياسيا. وقد شملت حملة النقد التي قام بها المتصوفة، إلى جانب الفقهاء، كلا من: القراء والوعاظ. فكان الحسن البصري من أوائل المنتقدين وقوفهم بأبواب السلاطين، فبينا هو ذات يوم خارجا من عند ابن هبيرة، إذ ألفى هؤلاء ينتظرون بالباب، فعنفهم لاستجدائهم وتعاطيهم أموال السلطة. وفضلا عن ذلك انتقد المتصوفة القراء لخيانتهم أمانة القرآن، فهم وإن كانوا حفظته، فإنهم يقولون ما لا يفعلون، ويأمرون الناس بالبر ويمتنعون عن الإذعان له!! وضمن حملة النقد هذه يتنزل قول عبد الله بن خبيق الأنطاكي: «إذا دنا الرجل القارئ من معصية يقول القرآن في جوفه: ما لهذا حملتني»!! وقول ابن أبي الحواري: «إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية آية فيحار عقلي منها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنأهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن؟ أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما رزقوا ووفقوا».

أيضا شملت حملة النقد الواسعة التي قام بها المتصوفة طائفة الوعاظ، وحين سئل أحدهم حول سبب تأثر الناس به وعدم تأثرهم بكلام واعظ المدينة المعين من قبل السلطان، أجاب بالقول: «ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة»!! فالأخيرة تتكلف النواح، وتتصنع البكاء، وفي هذا يقول الداراني: «إذا تكلف المتعبدون أن لا يتكلموا إلا بالإعراب، ذهب الخشوع».

كما تثير مسألة «وسيلة المعرفة» خلافا كبيرا بين الفقهاء والمتصوفة، إذ يصر الأخيرون على أن وسيلة المعرفة الأمثل تتمثل في «الكشف والذوق والعرفان»، ففي هذا النمط من اللاوعي، الصوفي المفارق، يتحقق السالك بنوع معرفة، ليست «كسبية» تنال بحيلة الدليل وإعمال الفكر، كما الشأن عند غيرهم، بل هي معرفة تنفث في روعه من بحر العطاء الرباني، اللدني اللامتناهي.

وهي تبدأ في صورة لوامح ولوامع وبوارق عابرة، ثم تستقر وتتمكن في صيغة نهائية يقينية مباشرة؛ بلا حجاب عقل أو حد حس أو واسطة. إنها، بعبارة الحلاج الرقيقة، شيء ما «وراء الوراء، وراء المدى، وراء الهمة، وراء الأسرار، ووراء الإخبار، ووراء الإدراك»!! أما العبادة، فتثير هي الأخرى إشكالات عدة تتعلق بغايتها، واستكناه المعنى الباطني لها. ومن هنا يبدو «فقه العبادة» عند المتصوفة أكثر ثراء وقدرة على إشباع الجانب الروحي عند الإنسان، منه عند الفقهاء! إذ يرتبط بمسألة العلم الذي ينقسم إلى قسمين: علم نحتاجه كاحتياجنا إلى القوت، فالأخذ منه يكون على قدر الحاجة دون إسراف، وعلم لا نستغني عنه طرفة عين، ونفتقر إليه افتقارنا إلى ضروريات دوام الحياة واستمرارها.

ولذلك يؤكد المتصوفة على أن العبادة يفترض فيها أن تكون تخلقا وتحققا لما تتطلبه عبودية المرء لخالقه: فمنها ما هو وثيق الصلة بالعلم، ومعيارها أدلة الفقه وتستمد مادتها من «الشريعة» ممثلة في الكتاب والسنة، ومنها ما تنصهر مادته في نفوس العارفين، لأن متعلقها العلم بذات الله المعشوقة، غاية كل علم وعمل.

فحين تقدم البسطامي ذات مرة للصلاة، ورفع يديه لينطق بتكبيرة الإحرام، لم يستطع أن ينطق بها من شدة استحضاره لعظمة خالقه وهو واقف بين يديه!! وكان معروف الكرخي شديد الخشية لله، وقد أوقعته خشيته هذه في المعاناة الشديدة، إذ نراه في «التشهد» يتحلل من نفسه، بغية التواصل والفوز بالرحمة الإلهية.

فالصلاة عند الأولياء والأتقياء والصالحين ليست مجرد عبادة طقوسية يومية مقدسة، بل هي الخشوع المطلق في محراب الله الكوني، وهي انفراد العبد أمام المعبود، ذلك الانفراد الذي يتصور هول المحاسبة، مثلما يستقبل بركات المغفرة.

وفي الأحوال كلها، لقد مارس المتصوفة الفقه بذوق صوفي، ولم يشتغلوا بالفقه كما هو معروف عند الفقهاء، ولو اشتغلوا فيه على شرطهم لانتفت الشريعة!! وإنما حملوا أنفسهم عليه فكانوا فقهاء أنفسهم، وتلك ثورة في الشريعة بحد ذاتها، ففقه المتصوفة يقوم على الأدب مع الله ومع الخلق.

لقد أراد الإمام أحمد بن حنبل، ذات مرة، أن ينبه شيبان الراعي على نقصان علمه، غير ملتفت لنصيحة الإمام الشافعي، فسأل شيبان: ما تقول فيمن نسي صلاة من خمس صلوات في اليوم والليلة، ولا يدري أي صلاة نسيها، ما الواجب عليه؟ فأجابه: يا أحمد، هذا قلب غفل عن الله تعالى، فالواجب أن يؤدب حتى لا يغفل عن مولاه! فغشي على الإمام أحمد، فلما أفاق قال له الشافعي: ألم أقل لك لا تحرك هذا!!

* كاتب مصري