فتنة الفيلم.. رؤية تفكيكية لخطاب الكراهية

إميل أمين

TT

في كتابها القيم جدا «محمد نبي لزماننا»، تخلص الكاتبة والمؤلفة الإنجليزية، كارين أرمسترونغ، إلى أنه ما من شخصية تعرضت للهجوم المنهجي المستمر في العالم الغربي مثل شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي تصف حياته بأنها كانت كلها جهادا، وهي تعني بذلك الكفاح والكد بكل معاني الكلمة لكي يجلب السلام للعرب الذين مزقتهم الحروب القبلية في شبه الجزيرة العربية. وحديث أرمسترونغ تشخيصي ينافي ويجافي الهجومات الكثيرة على شخص النبي، كما جرت بها المقادير منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وحتى الفيلم الأميركي سيئ الذكر الأخير الذي هو في واقع الحال ليس بفيلم ولا يصح أن يطلق عليه هكذا من الأصل، غير أن ما جرى يتوجب منا قراءة تفكيكية للمشهد للوصول إلى الحقيقة.

في مقدمة الأسئلة، لماذا هذا الفيلم وخروجه على العالم في 11 سبتمبر (أيلول) تحديدا؟ ببساطة غير مخلة، يمكن للمرء أن يستنتج أن هناك من يريد لخطاب الكراهية هذا الذي ولدته أحداث نيويورك وواشنطن أن لا ينقطع، حتى بعد 11 عاما على هذا اليوم الأليم، وبنفس القدر، يريد أن تتحقق تنبؤات مكذوبة من عينة حتمية صراع الحضارات كعنوان بديل لمواجهات وتناحرات الأديان.

هل هناك فيلم من الأصل؟ معظم القراءات التي اطلعنا عليها تؤكد أنه ما من عمل كامل من الأصل، وأن الأمر ربما لا يتجاوز «تريلر» الفيلم البغيض الذي شاهدناه على شبكة المعلومات، لا سيما أن حديث تكلفة إنتاج الفيلم التي تحدث عنها البعض لا تتجاوز 5 ملايين دولار، جمعها نحو 100 متبرع يهودي أميركي، بحسب «وول ستريت جورنال» الأميركية، والعارفون ببواطن الأمور في هوليوود يدركون تمام الإدراك أن هذا المبلغ لا يقيم أود عدة مشاهد، وليس فيلما طويلا مهما وثائقيا أو دراميا. غير أنه وفي كل الأحوال فإن تلك المشاهد التي لا تجاوز الـ14 دقيقة كانت كفيلة بتحقيق أهداف من يقف وراءها في نشر المزيد من الكراهية بين الولايات المتحدة شعبا وإدارة، والعالم العربي والإسلامي.

يعن لنا أن نتساءل أول الأمر إلى من توجه أصابع الاتهام في أول الأمر؟ في الساعات الأولى للحدث البغيض كانت «وول ستريت» عينها تؤكد أن منتج الفيلم هو سام باسيلي الأميركي الإسرائيلي، وأن فيلمه هو جهد سياسي يهدف إلى لفت الانتباه إلى النفاق الإسلامي، على حد زعمه، ومضيفة أن باسيلي هذا مدان سابق بجرائم الاحتيال والنصب ومحكوم عليه بالسجن. غير أن هذا الحديث تغير لاحقا، وأشارت اتهامات جديدة إلى أن منتج الفيلم نيقولا باسيلي نيقولا، مصري قبطي، من مدينة الإسكندرية، وأنه أراد بفيلمه هذا، حسب زعمه، لفت الانتباه إلى أحوال الأقباط المتدنية في مصر والاضطهاد الذي يلاقونه هناك من المسلمين المصريين.

ثم لاحقا كانت وسائل الإعلام الأميركية تخرج علينا بمشاهد تمثيلية لتوقيف الشخص نفسه، الذي لا يعرف هويته الحقيقة أحد، وهو ملثم وغير واضحة له آية معالم أثناء اقتياده إلى مقر شرطة جنوب لوس أنجليس، لا لاتهامه بشيء، بل للتأكد من التزامه بشروط الإفراج عنه، وأنه لم ينتهكها بإنتاج هذا الفيلم.

ولم تمض إلا ساعات حتى أعلنت وسائل الإعلام الأميركية أن الشرطة أخلت سبيله، لا سيما أنه «ليست هناك جريمة»، كما قال المتحدث باسم رئيس بلدية تلك المنطقة في لوس أنجليس، ستيف ويتمور، بمعنى أنه توقيف باسيلي المزعوم، الذي شكك البعض في هويته لم يكن هدفه التحقيق معه في أبعاد الكراهية التي ولدها فيلمه، بل في تقييم مدى استجابته لاحترام شروط إطلاق سراحه الخاضع لها، وهذا يعني بداهة أنه ليس الصانع الحقيقي للعمل المقيت، وإلا ما أخلي سبيله، الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام سؤال جوهري: من المسؤول والمتهم الحقيقي إذن؟

في واقع الأمر لا يهمنا كثيرا، ذلك لأن أصحاب النصيب الأكبر من الاتهام منذ بداية الأحداث كانوا أقباط مصر في المهجر الأميركي عن بكرة أبيهم، وفي هذا تعميم مرفوض من الكل، وإن كان نفر منهم لا تتجاوز أعدادهم أصابع اليدين، ربما شاركوا بنحو أو بآخر في هذا العمل، والمؤكد أن أحدهم قد روج بالفعل لهذا العمل على شبكة الإنترنت، وعبر عدة وسائل إعلام أميركية.. هل يمكن أن يكون الأمر على هذا النحو من مصادفة أم مدبر له بليل بهيم؟ يعرف الجميع أن هناك احتقانا طائفيا بنسبة ما في مصر منذ 4 عقود على الأقل، غير أن مشهد التلاحم الإسلامي المسيحي في مصر في فترة ثورة 25 يناير أعطى انطباعا - وقتيا - بأن الاحتقان في طريقه إلى الانصراف إن لم يكن قد انصرف فعلا، غير أنه وللأسف فإن أحداثا بعينها أعادت للأذهان أبعاد الاحتقان والتأزم بأشد مما كانت عليه من قبل، على الرغم من المحاولات الحثيثة الجارية لإزالته، لا سيما أنه يهدد النسيج الاجتماعي المصري.

في هذه الأجواء كان هناك من يستدعي قراءات تاريخية لمخاوف يريد البعض ترويجها بشأن تقسيم مصر، عبر الحديث عن دولة مستقلة للأقباط في مصر بسبب أوضاعهم المتردية، وللخلاص من عبودية المسلمين، كما يتقول نفر معلوم من الأقباط المصريين في المهجر. هذا الحديث في واقع الحال لم يفاجئ أي باحث، وله جذور في مذكرات موسى شاريت، أول وزير لخارجية إسرائيل وثاني رئيس وزراء لها، كما ورد ذكره في أوائل الثمانينات عبر مجلة «كيفونيم» الإسرائيلية، ومنذ عام تقريبا سرت شائعة نسبت إلى مؤسسة «راند» في أميركا تحمل نفس المعنى، أي تخصيص شبه جزيرة سيناء لإقامة دولة للأقباط.

وباختصار غير مخل، كان «تريلر» الفيلم كافيا لتعميق الشرخ الطائفي من وجهة نظر صانعيه، إضافة إلى أهداف سياسية أخرى أبعد.. هل تحققت تلك الأهداف؟ قطعا كان أقباط مصر «أحكم من بني النور في جيلهم»؛ فقد أصدرت الطوائف المسيحية الثلاث في مصر، الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية بيانات شجب واستنكار ورفض لهذا العمل البغيض، بل إن القائم مقام بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا باخوميوس كلف محامين أقباط بمقاضاة القائمين على هذا العمل أقباطا كانوا أو أميركيين، بسبب الضرر الذي ألحقوه بأبناء الوطن الواحد، من خلال فيلم ينشر الفرقة ويسيء إلى الإسلام وإلى نبيه الكريم.

أما الكنيسة القبطية الكاثوليكية ومجالس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر فقد أصدروا بيانا أشاروا فيه إلى أنه قبل 50 عاما من الآن قال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني إن الكنيسة «تنظر بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحي القيوم الرحمن القدير خالق السموات والأرض»، وأشار الأنبا كيرلس وليم المدير البطريركي للأقباط الكاثوليك إلى إدانة الكنيسة لكل محاولات الإساءة والتشويه للرموز الدينية حول العالم. فيما أرسل المطران منير حنا، مطران الكنيسة الأسقفية بمصر وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي، بصفته رئيس الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية خطابا للأمين العالم للأمم المتحدة يطالبه بضرورة إصدار إعلان يجرم كل صور الإساءة للمقدسات الدينية ورموزها ومعتقداتها.

هل كان ما تقدم كافيا لتهدئة الخواطر الإيمانية الإسلامية المشتعلة؟ بالقطع لا، ذلك أن صناع الفيلم الحقيقيين، الذين خلصوا من إنتاجه (إن كان فيلما كاملا بالفعل) قبل نحو 3 شهور احتفظوا بموعد خروجه على العلن ليواكب زخم الأسابيع الأخيرة في الانتخابات الرئاسية الأميركية.. هل الأمر مقصود على هذا النحو؟ يرى كثير من المحللين الأميركيين أن هناك تيارا يمينيا عريضا لا يزال يرى ولاء الرئيس أوباما الخفي للإسلام والمسلمين، وأنه يخفي حقيقة معتقداته الإسلامية، ولهذا كان هو الرجل الذي وقفت إدارته بجانب الثورات العربية التي أتت بالإسلاميين إلى صفوف الحكم الأولى، ولهذا فإنه ينبغي أن لا يحصد فترة رئاسية ثانية. هذا الاتجاه يمثله تحالف جديد بات ظاهرا للعيان مؤخرا، يتزعمه عدد من المليارديرات الأميركيين اليهود في غالبيتهم من أمثال «شيلدون اديلسون وميل سيمبلر وجماعة السوبر باك وتيار حفل الشاي، وقد رصدوا مئات ملايين الدولارات للوقيعة بين أوباما والمواطن الأميركي.. هل كان هذا الفيلم يصب بدوره في صالح هذا الاتجاه؟

يرى الدكتور نهاد عوض رئيس مجلس العلاقات الخارجية الإسلامية الأميركية (كير) أن المسلمين وقعوا في فخ أو كمين نصبته لهم مجموعة تريد إشعال المنطقة، وهنا ربما تحقق لصناع هذا العمل البغيض هدفهم، إذ أظهرت ردات الفعل في دول كمصر وليبيا واليمن والسودان، المسلمين بنوع يجافي وينافي أخلاق الإسلام، من حيث عهود الأمان للساكنين بين جدرانهم، وكان مشهد اغتيال السفير الأميركي في ليبيا، بجانب مشاهد سرقة وإحراق ومحاولات اختراق عدد آخر من السفارات الأميركية، كفيل بأن يجعل المواطن الأميركي يتساءل: هل كان أوباما على صواب في دعم الثورات العربية أم أنه أقدم على خطأ فادح، مما يعني أن عليه تحمل تبعات هذا الاتهام يوم السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل موعد التصويت الرئاسي؟

هل أخطأنا وابتلعنا الطعم ووقعنا في المصيدة التي ربما نصبها البعض لنا؟ يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، لكن على الجانب الآخر، وإن لم تكن إدارة أوباما مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذا العمل، إلا أنه لا يمكن أن تتهرب هي والإدارات الأميركية السابقة من الإدانة بسبب مواقفها السلبية في الهيئات الأممية والرافض لاستصدار قرارات بقوة القوانين تجرم ازدراء الأديان والحث على كراهية بعضها البعض، في حين أنها تقف بالمرصاد لمن يقترب من منطقة العداء للسامية أو تناول قضية الهولوكوست بأي بحث علمي أو موضوعي.

مسؤولية الإدارة الأميركية الحالية وأي إدارة مقبلة تحتم عليها أن تفهم أن انتقاد أو ازدراء أو الهجوم على أي دين ليس جزءا من حرية التعبير، بل جزء من حملة الكراهية التي تدشنها جماعات بعينها لها مصالح سياسية أوسع، وليس أرفع أو أنفع لبقية شعوب الأرض.. هل تنتوي واشنطن تعديل مسارها لا سيما بعد ما رأته بأم عينها من غضبة حقيقة على الأرض؟

للأسف الشديد لا يتوقع المرء ذلك، وعلى من يخالفنا الرأي أن يطالع ما نشر على الموقع الإلكتروني لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية؛ إذ أشارت إلى أن هناك اختلافا جذريا بين القيم والمبادئ التي تتبناها واشنطن بوصفها مبادئ إسلامية لا غنى عنها، والقيم والعناصر المشكلة للثقافة العربية والإسلامية، وقد أوضحت أنه في الوقت الذي يمنح فيه الأميركيون الأولوية لحرية الرأي والتعبير، باعتبارها قيما أصيلة يجب الحفاظ عليها وصونها تحت أي ظروف، فإن الإعلام العربي يرى الحفاظ على هيبة المقدسات الدينية أمرا نافذا وقيما لا يمكن أبدا انتهاكه أو المساس به، أيا كانت الظروف أو الاعتبارات؟

هل سيظل الشرق شرقا والغرب غربا، كما قال روديارد كبلنج ذات مرة؟ ستخفت الأزمة على الأرجح في المستقبل القريب، تقول مجلة الساسة الأميركيين المتقدمة، لكنها ترى أن الأزمة ليست زوبعة في فنجان أو حادثا يمر مرور الكرام، وربما يعني ذلك أن الأسوأ لم يأت بعد.

* كاتب مصري