أبو بكر الباقلاني.. والتأسيس الأصولي

رضوان السيد

TT

اعتدنا منذ أيام الأزهر في النصف الثاني من الستينات على قراءة كتاب «التمهيد في أصول الدين» للباقلاّني. ثم عرفنا من المصادر الكلامية السُنية أن «القاضي» له آراء معتبرة، ليس في أصول الدين فقط؛ بل في أصول الفقه أيضا. فالإمام الجويني في «البرهان» وغيره يستشهد كثيرا بآراء «القاضي» أو القاضي أبو بكر. ويفعل ذلك أحيانا أقل الغزالي في «المستصفى». بينما يكثر فخر الدين الرازي من ذلك في «المحصول».

وقد صار معروفا لسائر الدارسين أن الاستشهاد بالقاضي في علوم القرآن أو علم الكلام أو علم الأصول، إنما يُعنى به أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاّني (- 403هـ). وقد قرأنا بعد «التمهيد» (الذي نُشر عدة مرات على أيدي عرب ومستشرقين، بعد النشرة الاستشراقية الأولى بالطبع!)، كتابه في «إعجاز القرآن». ثم تبين بعد ثلاثين عاما من النشرة الممتازة لسيد أحمد صقر رحمه الله لـ«الإعجاز»، أنه مختصر من كتاب ضخم هو «الانتصار للقرآن» وجد فؤاد سزكين الجزء الثاني منه بإسطنبول ونشره بطريقة الفاكسميلي قبل عقدين. ولدينا قائمة بكتب الباقلاني في «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر، وهو الجزء الذي كتبه صاحب تاريخ دمشق كما هو معروف في الدفاع عن الأشعري والأشعرية.

ويتبين من القائمة المذكورة أن للباقلاني عشرات الكتب والأجزاء في الفقه والأصول وعلوم القرآن وعلم الكلام. وبالفعل، فمع تحسن معلوماتنا عن خزائن المخطوطات في العالم، ظهرت عدة مخطوطات كلامية للباقلاني إلى جانب التمهيد من مثل «هداية المسترشدين»، و«مناقب الأئمة». وعن طريق هذه المؤلفات الأربعة أو الخمسة (مع «إعجاز القرآن») قام عدة دارسين في الغرب والشرق بالكتابة عن الباقلاني وتجديداته. وأقدم هؤلاء الراحل يوسف إيبش (الذي كان أستاذا للدراسات الإسلامية بالجامعة الأميركية ببيروت). وقد صار مثبتا الآن أن الرجل كان بالفعل المؤسس الثاني للأشعرية. وقد نافس المعتزلة حقا عندما طور نظرية كاملة متماسكة لعلائق علمي أصول الفقه وأصول الدين وعلوم القرآن، وتابع عمل الشافعي (- 204هـ) في «الرسالة»، وعمل الأشعري (- 324هـ) في علوم أصول الدين؛ مجادلا المعتزلة في كل النقاط التفصيلية. ولأن التشيع (الزيدي والإمامي والإسماعيلي) كان مزدهرا في زمنه (زمن البويهيين)، فقد كتب كثيرا في مجادلة المتكلمين الشيعة أيضا. وقد كان في ذلك تحد كبير له. لأنه كان سنيا مالكيا أشعريا في بلاط عضد الدولة البويهي. وعضُد الدولة كان مشاركا في النقاشات الفلسفية والكلامية الدائرة، ويقال إنه كانت لديه ميول زيدية ومعتزلية. ونحن نعلم أنه كان شديد الاهتمام بكبار علماء الزيدية وأشرافهم بطبرستان، كما عين عبد الجبار المعتزلي المشهور قاضيا للقضاة. لكنه ربما أراد أن يسلك مسلك المأمون (- 218هـ) في الإصغاء إلى كل الآراء والمذاهب. وتذكر كتب الأشاعرة أن عضد الدولة أرسل الباقلاني في وفد إلى الإمبراطور البيزنطي المعاصر له، حيث قاد جدالا مع كهان الإمبراطورية حول نبوة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأصالة الدعوة المحمدية إلى الدين الواحد، وإعجاز القرآن.

لا تبدو آراء الباقلاني الكلامية بالنسبة لمن يعرفون تطور المذهب الأشعري، بالغة الجدة. فقد خطا المذهب الكلامي للأشاعرة خطوات واسعة بعده على أيدي الجويني والغزالي وفخر الدين الرازي. وإنما عدت إليه اليوم في هذه المقالة العاجلة، لسببين؛ الأول أن دارسة ألمانية اسمها سابينا شميدكه (تلميذة الأستاذ المعروف مادلونغ) أرسلت إلي دراسة مطولة عن كتاب الباقلاني «هداية المسترشدين»، وقالت إنها تُعد للكتاب نشرة علمية استنادا إلى عدة مخطوطات. وكانت سيدة لبنانية قد نشرت «مناقب الأئمة» له، استنادا إلى مخطوطة واحدة، نشرة حافلة بأخطاء القراءة. وأضافت إلى ذلك «فضيلة» حذف النصوص التي اعتقدت أنها تمس بالإمام علي (رضي الله عنه)! وكان تلميذ سابق لي هو الأستاذ بسام عبد الحميد، قد كتب أطروحته للدكتوراه عن الباقلاني بالسوربون قبل خمسة عشر عاما، وهو الذي أمدني بصور من مخطوطات الباقلاني الكلامية. وهو يُعد منذ مدة نشرة لـ«هداية المسترشدين»، ولـ«مناقب الأئمة». أما السبب الثاني لهذا الاهتمام بالباقلاني، فهو الخبر الذي نشر في الصحف قبل أيام عن العثور على مخطوطة برواق الشوام بالأزهر في أصول الفقه، ضاعت منها الصفحة الأولى، وقد استظهر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وباحث مصري في أصول الفقه، أن المخطوطة للباقلاني، وقد تكون أحد كتبه في أصول الفقه، وهي الكتب التي لم نعثر على مخطوطة لواحد منها قبل اليوم. وقد سبق القول إننا نعرف استشهادات بالباقلاني في كتب أصول الدين الأشعرية، وقد وجدناها بالفعل في ما نعرف الآن من كتب كلامية له. ومع أن هذه الآراء - أو أكثرها - جرى تجاوزها لدى الأشاعرة، فإنها تظل مهمة في دراسة تطورات التفكير الكلامي الأشعري.

وتقول شميدكه الآن إن لدى الباقلاني نقدا قويا لفكر المعتزلة المعاصرين له (أبو هاشم الجبائي ووالده أبو علي والقاضي عبد الجبار زميله أو معاصره)، ومن ضمن ذلك استدلالات ذات دلالة على وجود الله سبحانه، وعلائق الذات بالصفات، وعقيدة القَدَر. إنما الجديد أننا ما كنا نعرف تفكير الباقلاني في أصول الفقه، وعلاقاته بالمعتمد في أصول الفقه للبصري المعتزلي (- 436هـ) والذي نشره حسن حنفي وأحمد بكير محمود بإشراف أستاذهم برنشفيك في الستينات من القرن الماضي. وكنت قد كلفت طالبا لي في الثمانينات من القرن الماضي، بأن يعد أطروحة للماجستير عن آراء الباقلاني في أصول الفقه، استنادا للاقتباسات عنه لدى الجويني والغزالي والرازي وآخرين. وقد عثر على المزيد من الاقتباسات في مؤلفات المغاربة (لأنه كان مالكيا مثلهم)؛ لكن الطالب لاحظ أنهم تأثروا بالباقلاني في علم الكلام، أكثر مما تأثروا به في أصول الفقه. فإذا كان المخطوط المكتَشَف بالأزهر للباقلاني حقا، نكون قد عثرنا على أول مؤلفات الباقلاني في أصول الفقه. وربما كان هذا المزج الذي نشهده عند الباقلاني بين علوم القرآن وأصول الفقه والكلام، حاضرا في كتابه في أصول الفقه، لأننا لا نجده في كتابه في إعجاز القرآن أو الانتصار للقرآن.

يقول الفراء في «العُدّة»، والجويني في «البرهان»، والغزالي في «الإحياء»: «وما حوَّمَ عليه (أي على معنى العقل ومفهومه ودلالاته) من علمائنا غير الحارث بن أسد المحاسبي (- 243هـ)، وهو معاصر للإمام أحمد، ولهما الرأي نفسه في معنى العقل، أنه غريزة أو نور (يعني ليس جوهرا فردا ولا آتيا من العقل الفعّال من خارج الإنسان)». ويذكر المؤلّفون في الأصول (أصول الفقه) أن هذه المقولة طورها أو فصّلها الباقلاني، ووقعت في أساس عمله في أصول الفقه، ورده على الفلاسفة (كان يعرف الكندي والفارابي، وهو معاصر لابن سينا). ولذا فكما وجدنا للباقلاني كتابا في أصول الفقه، يمكن أن نكتشف فيه علاقته بالشافعي من جهة، وبالمعتزلة من جهة ثانية؛ فإننا قد نجد أيضا في مخطوطة أخرى شيئا من ردوده على الفلاسفة، ورسالته أو رسائله في «الرد على النصارى»، وهو نوع تأليفي معروف، يقال أيضا إن الباقلاني كتب فيه.

ويبدو مما نعرفه من كتب الباقلاني واستشهاداته، أنه ما كان عظيم العلم بالحديث والآثار. لكن الحنابلة يجلُّونه، وشيخ الإسلام ابن تيمية يذكره بالخير؛ ربما لردوده على المعتزلة والشيعة والفلاسفة. ومع أنه ما أقام طويلا ببغداد؛ فإنه محسوب على مالكية بغداد تارة، أو مالكية المشرق تارة أخرى. وبالتأكيد فإنه لا ينتمي إلى تقليد المدينة المالكي، ولا تقليد مصر. بل نجد أنه يُقارَن بالقاضي عبد الوهاب الذي اشتهر في القرن الخامس الهجري. ولا شك أنه مالكي مؤسِّسٌ في التأليف في أصول الفقه، لكننا لا نعرف شيئا من إنتاجه في الفقه؛ إلا بعض الأمثلة التي يذكرها في سياق عروضه الكلامية وعروضه المقتبسة في أصول الفقه. ولو أسعف الحظ، ووصلنا شيء من مسائله الفقهية، لأمكن الحكم على علاقته بمن قبله من مالكية بغداد (مثل القاضي إسماعيل)، وبمن بعده (مثل القاضي عبد الوهاب).

لقد كان الباقلاني شخصية متميزة في ذاك العصر الذي آذن بظهور مذهب أهل السنة بعد كفاح مرير في القرنين الثالث والرابع للهجرة. فبعد ربع قرن من وفاة الباقلاني، زالت الدولة البويهية، وظهر السلاجقة الأتراك بالتدريج، وبظهورهم تغير التاريخ السياسي والتاريخ العقدي بالمشرق الإسلامي كله.