القضايا الكلامية.. وسياق التجديد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

تعد قضية العلاقة بين الدين والفلسفة من أقدم وأعقد القضايا الكلامية التي اشتغل بها فلاسفة الإسلام؛ حيث ترجع جذورها التاريخية إلى الإرهاصات الأولى لنشأة علم التوحيد، مرورا بالمباحث الفلسفية الكلامية التي تناولت قضايا أدلة وجود الله وخلق العالم والنبوة، وصولا إلى استعادة الاهتمام بها مجددا في العصر الحديث ضمن تضاعيف كتابات المصلحين والمجددين، ووفق سياقات تتلاءم ومعطيات العصر الحديث: كالإعجاز العلمي، وموقف الدين من النظريات الفلسفية والعلمية الحديثة، كنظرية دارون المتعلقة بأصل الإنسان، ونظرية النشوء والارتقاء.

فقد كان لزاما على المجددين المعاصرين لتلك القضايا مناقشتها في مصنفاتهم، ولا سيما عقب ظهور حركة الاستشراق. ويعد الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرازق من أبرز المفكرين الذين أولوا اهتماما بالغا بالقضايا الكلامية في إطار التجديد، ودرسوا العلاقة بين الفلسفة بوصفها نسقا عقليا، والقرآن الكريم بوصفه دستورا إلهيا يعبر عن علم الله وقدرته. وضمن هذا السياق، حاول تلامذة الشيخين الجليلين متابعة المنحى التجديدي لضبط العلاقة بين النص والعقل، ولدرء أوجه التعارض التي قد تبدو بينهما.

ومن أبرز المسائل الكلامية التي شغلت المتكلمين قديما وتم إعادة فتح الجدل/ الاجتهاد فيها في الأزمنة الحديثة، مسائل: الرؤية، والكلام، وصدور الشر عن الخالق عز وجل، والهداية والإضلال، ومسألة الوعد والوعيد.

أما «الرؤية»؛ فتعد إحدى مسائل النزاع الكبرى بين أهل السنة والمعتزلة، وهي ترجع إلى الاختلاف في تصوّر ذات الله تعالى وتصوّر ما يجب أن يكون من نِسْبَة بين الشخص الرائي والموضوع المرئي.

ومن اللافت للنظر في هذا السياق، استحالة الجمع بين وجهتي النظر المتعارضتين: أهل السنة وإباحة النظر، والمعتزلة وإنكار جواز وقوع الرؤية!! ففي حين نفى المعتزلة جواز أن يرى الله في الدنيا أو الآخرة، وبنوا مذهبهم على أنه من غير المعقول ومما لا يمكن تصوّره أن يرى أي شيء بالعين إلا إذا كان في جهة أصلا أو تابعا لجهة كالأجسام والهيئات، ثم بعد هذا اضطروا إلى تأويل الآيات الدالة على جواز ما جزموا باستحالته، تمسك أهل السنة بظاهر النصوص، ثم بإزاء موقف المعتزلة منهم من ذهب إلى القول إن الله سيرى ولكن على وجه لا كيف فيه ولا انحصار للمرئي في جهة خاصة من الرائي. ومنهم من قال: إن هذه الرؤية ستكون في تلك الحالة علما بالله بنوع خاص من الإدراك، يزيد عن علمنا به الآن في الحياة الدنيا بالعقل وأدلته.

على أن المعتزلة قد أخطأوا في قياس أمور الآخرة على أمور هذه الدنيا (استحالة أن يرى الله ما دام ذلك يستوجب - كما هو الشأن في كل مرئي في الحياة الدنيا - أن يكون جسما في جهة ما)، وكان الأولى بهم القول بجواز رؤية الله بالعين في الآخرة لمن يشاء من خلقه، وذلك هو صريح القرآن والسنة.

أما كيف تكون هذه الرؤية، فمن الممكن أن يذهبوا فيها إلى رأي من يقول إنها ستكون بلا كيف ولا إحاطة من الرائي له تعالى (بعض المعتزلة والطبري في تفسيره). ويزيد محمد يوسف موسى على هذا بأنها قد تكون رؤية أتم مما قد ينعم به الصوفية الحق في هذه الحياة، في لحظات الوصول حين يفنى الواحد منهم عن نفسه، فلا يُحسُّ له وجود، ولا يرى إلا الله وحده على صفة لم يستطع حتى الآن أحد منهم التعبير عنها، وذلك لضيق لغة الكلام التي نعرفها.

أما مسألة الكلام، فيُقصد بها كلام الله تعالى: هل هو قديم قِدَمَ المولى عز وجل؟ أم هو حادث مخلوق؟ فقد ذهب أهل السنة إلى أن القرآن؛ بمعنى الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى، قديم، أما الحادث فهو الكلمات التي كتب بها، والأصوات التي نسمعها من القرّاء والتي تعتبر بمثابة دلائل عليه، على حين ذهب المعتزلة إلى أن القرآن حادث مخلوق، شأنه شأن كل شيء في الوجود ما عدا ذات الله تعالى.

وحقيقة الأمر أن الأشاعرة وقفوا موقفا وسطا بين غلو الحنابلة من المشبِّهة من جهة، وغلو المعتزلة من جهة أخرى، وبتوسطهم هذا حكّموا كلا من اللغة والعقل والنقل، وخلصوا من شنعة القول بخلق القرآن بصفة عامة كما هو رأي المعتزلة، أو بقدمه وقدم كل ما يتصل به كما ذهب إليه المشبِّهة!! على أن تأويل الأشاعرة للآيات التي خاطب بها الله موسى عليه السلام «إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى» ليس من السهل أن يستريح العقل إليه. فمن العبث بمكان، كما قال المعتزلة، أن يخاطب الله في الأزل شخصا لم يخلقه بعد!! وفيما ذهب الأشاعرة إلى أن كلام الله لم يكن يُوصف في الأزل بأنه أمر ونهي، إذ لم يكن موجودا أزلا من كان يتوجه إليه الأمر والنهي، أو كان يوصف في الأزل بأنه أمر ونهي كما يوصف بذلك الآن، ثم استمر هكذا إلى أن وجد المأمور والمنهي بهذا الكلام (موسى عليه السلام)، يؤكد المعتزلة أنه من المعقول أن يكون الله قد تكلم بما خاطب به موسى حين وُجد هذا فعلا في العالم، وحين جاء أوان الحديث معه ليجعله رسولا لأمته.

ومع ذلك قد يكون الأقرب للعقل، إن أصرَّ الأشاعرة على تأويل هذه الآيات لتتفق ومذهبهم، أن يُقال: إن هذا الخطاب من الله لموسى يجب أن يؤخذ على أنه مجاز وتمثيل للحالة التي فهمها الأخير بإضافة الله عليه رسالته، كما هو الشأن مثلا في قصة الخلق وحديث الله مع الملائكة ثم إبليس، وكما هو الشأن فيما كان من تضرُّع آدم لله بعد أن أكل من الشجرة المحرمة حتى تاب عليه.

أيضا أخطأ الأشاعرة في تأويل الآيات القرآنية الموحية بالتشبيه كقوله تعالى: «يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون». على حين غالى المشبِّهة في التجسيم حين عرضوا لثلاث مسائل: أولها كونه تعالى في السماء، وثانيها كونه مستقرا على العرش بالمعنى الإنساني، وثالثها كونه ينتقل حيث يريد، أي تجوز عليه النُقلة!! أخيرا، فيما يتعلق بمسألة الإضلال والهداية، مال أهل السنة إلى القول إن الله تعالى يخذل من يشاء عن الإيمان فيُضله عن سبيل الرشاد، ويوفِّق من يشاء للهداية والإيمان؛ لأنه مطلق الإرادة والقدرة. أما المعتزلة؛ فقالوا بأن الهدى والضلال يخلقهما العبد لنفسه، إذا ما أعانه الله باللطف أو خذله فحرمه إيّاه، وأن الله يهدي من يستحق الهداية بإيمانه، ويضل من يستحق الإضلال بكفره وفسقه.

يتحصل مما سبق، أن أهل السنة حرصوا في مذهبهم على أن يجعلوا لله دائما كامل القدرة والحرية على أن يعمل ما يشاء كما يشاء، وإلا لم يكن إلها حقا، فيما حرص المعتزلة على أن يجعلوا الله مع كمال حريته وقدرته، عادلا كل العدل، وإلا لم يكن إلها حقا. وكل من الفريقين يجد له سندا من القرآن ومن العقل أيضا.

وفي هذا الإطار يرى محمد يوسف موسى أن إلها محدود الإرادة والقدرة بفعل الغير، ليس إلا إلها عاجزا، وأن إلها مطلق الإرادة والقدرة في غير حكمة ونظام، ليس إلا إلها مستبدا لا يصلح به العالم. فلم يبق إلا أن يكون الإله الحق، الذي به يستقيم أمر العالم، إلها قد قدّر أزلا بحِكمتِه أن يُسيِّر العالم بجميع عناصره (الطبيعة والحيوان والإنسان) على نظام خاص؛ وألا يتدخل في أعمال الإنسان إلا بقدر محدود، ما دام قد أمده بالعقل الذي به يتصرف في هذه الحياة، وما دام سيُسأل في الدار الآخرة عن أعماله في هذه الدار الدنيا.

وبعبارة صريحة، الإله الحق الحكيم هو الذي جعل من نفسه لإرادته وقدرته بعض الحدود حسبما رأى وقدّر من حكمة، وعلم ما سيكون عليه كل من خلقه من هدى وضلال، حسب طبيعته واستعداداته واتباعه عقله أو هواه. وبذلك لا يكون الله قد حد أحد من إرادته أو قدرته، ويكون في الوقت نفسه عادلا أيضا تمام العدالة.

على أن الشيخ لم يعمد في نهاية المطاف إلى حسم الأمور كما فعل الفريقان (الأشاعرة والمعتزلة)؛ وإنما اكتفى بالتشديد على أنه لا يمكن لأحد أن يعرف ويحدّد بالضبط المدى الذي يكون لقَدَر الله الذي لا بد أن يكون، والذي لإرادة العبد وقدرته اللتين يحس بهما تماما، في الفعل الذي يصدر عن الإنسان، فعِلمُ ذلك لله وحده، ولا نعتقد أن معرفته ضرورية في الدين!!.. وتلك قضية أخرى.

* كاتب مصري