تعايش الثقافات.. موللر في مواجهة هنتنغتون

إميل أمين

TT

بتاريخ الثامن عشر من أيلول (سبتمبر) الماضي كتبت صحيفة «فيدوفوستي» الروسية، في سياق تعليقها على الفيلم الأميركي المسيء للإسلام والمسلمين تقول: «إنه يحق لمثيري الفتن، ودعاة التصادم الحضاري، ورافضي التعايش الثقافي أن يحتفلوا بالنصر، لأنهم حققوا أهدافهم، لا سيما أن عرض فيلم (براءة المسلمين) بما فيه من مشاهد ساخرة يجرح مشاعر المسلمين».

هل ما جرى كان مدبرا لتأكيد العودة الحتمية لطرح صراع الحضارات ومواجهة الثقافات؟

الثابت أننا لسنا في مقام إعادة تشريح رؤية المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون الخاصة بصراع الحضارات، وما تركته ولا تزال من أثر سلبي على العلاقة بين الشرق والغرب، لكننا بصدد التساؤل: «ألم يصدر عن بعض المفكرين الغربيين رؤى أخرى تنقد ما ذهب إليه هنتنغتون وتؤكد على العكس إمكانية التعايش بين الثقافات والتفاهم والتلاقي بين أصحاب الحضارات والأديان المختلفة؟ حتما إن ذلك كذلك، أما لماذا لم نسمع تلك الأصوات فلأن الأعلام من حول العالم يسير وفقا لقاعدة الأخبار السيئة هي الأخبار، أما الإيجابية فلا تمثل بحال خبرا مثيرا.

أضحى ولا شك اسم هنتنغتون ماركة مسجلة في العقدين الماضيين، لكن على الجانب الآخر من استمع إلى اسم «هارالد موللر»؟ بالقطع نفر قليل حول العالم، لا سيما في العالمين العربي والإسلامي والرجل صاحب مشروع لتعايش الثقافات، مشروع مضاد لأفكار وطروحات هنتنغتون وناقد لها.. من هو هارالد موللر؟

كاتب ومفكر ألماني، وأستاذ زائر للعلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز في بولونيا بإيطاليا، ومنذ عام 1994 يشغل منصب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فرانكفورت، ومدير مؤسسة «هيسن» لأبحاث السلم والنزاعات في المدينة الألمانية الشهيرة، وقد تم اختياره عام 1999 كعضو في الهيئة الاستشارية للأمن العام للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان لشؤون نزع السلاح، وله كثير من المؤلفات الرصينة، وما تقدم يؤكد على أن الرجل بالفعل ذو حيثية عندما يتحدث عن حالة السلم العالمي.. ما الذي يتضمنه مشروع موللر لمجابهة رؤية هنتنغتون؟ يحق لنا كعرب ومسلمين أن نتساءل في أول الأمر كيف ينظر موللر إلى العرب، وما هو تقييمه لوزنهم الحضاري عبر تاريخ الإنسانية؟

يرى المفكر الألماني أن العرب يمثلون أمة غنية التراث في العالم، وقد حفظت اللغة العربية والعلماء العرب كنوز المعرفة التي حققها الإغريق والرومان في العصور القديمة عندما كانت أوروبا تغط في «عصورها المظلمة». ويقر موللر بأنه «من دون هذا الجهد التاريخي الذي قام به العرب ما كان لنا أن نكون على ما نحن عليه الآن».

بداية، نقد موللر لفكرة الصدام تجلى في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ويطلق على الأمر «وهم صدام الحضارات»، خاصة بين العالم الغربي والعالم العربي.

أما لماذا الوهم، فلأن الصدام الحقيقي ليس بين العالمين، وإنما بين مجموعتين محددتين جدا، هما اللتان تتصادمان، مثلهما بن لادن من جهة في مواجهة بوش الابن من جهة ثانية، وفي الوقت ذاته، يبقى السعي لتعايش الحضارات ممكنا جدا، بل وحتى مرغوب فيه. على أن موللر وإن رأى أنه لا يوجد مكان أكثر من الشرق الأوسط يمكن أن يكون مثالا لتعايش الثقافات، فإنه يشترط السلام العادل بالتأكيد كضرورة حتمية لتحريك علاقة الغرب مع العرب من التوتر إلى الود.

يطرح موللر تساؤلا جوهريا في عمق مشروعه الفكري: كيف تغدو الثقافات لاعبا فاعلا في السياسة؟ خلفية هذا السؤال ولا شك هي رؤية هنتنغتون القائلة إن الصراع السياسي بين الشرق والغرب في فحواه ومضمونه مجابهة ثقافية بين حجري رحى، إسلامي كونفوشيوسي من ناحية، بالتضاد الحتمي مع المشروع المسيحي اليهودي من ناحية مقابلة.

إلا أن موللر وبالعكس من هنتنغتون يرى أن الثقافات لا تعد لاعبا أساسيا ولا تستطيع أن تكون فاعلة في السياسة الدولية المباشرة، ولذلك فإن الحديث عن صراع الثقافات لا يعدو كونه مجازا لا يميز واقعا سياسيا ممكنا، فعالم السياسة له بعد مادي ويتجلى ذلك بأوضح صورة في الحدود التي تعين أراضي الدولة، فالدولة توجد بصفتها معطى جغرافيا ويجسدها أشخاص محدودون، ومن ينس الوجود المادي للدولة، فبإمكان الشرطة والجيش اللذين تعلن سلطة الدولة عن نفسها فيهما بشكل ملموس تذكيره بذلك بصورة سريعة وموجعة.

هل كنا عرضة لخديعة فنية من قبل هنتنغتون؟ ربما، هذا ما يؤكده موللر، إذ إن الثقافة عنده تفتقر إلى مثل هذه الخاصية المادية، فهي توجد فعلا في إعادة إنتاجها المستمر من خلال ممارسة البشر لها في الدوائر المختصة، وهي لا ترتبط بمنطقة معينة ولا بعرق، ورزمة المعايير الثقافية التي توجه ممارسات البشر غير منصوص عليها بشكل كامل في أي كتاب من كتب القانون، وحتى الكتب السماوية للديانات الكبرى، فإنها لا تحتوي سوى على جزء من ذلك فقط.

يطرح موللر في نظريته رؤية للثقافة كبعد متغير حيوي نشط وليس تراثا جامدا عدائيا بين الأمم والشعوب.. كيف ذلك؟ في شأن تقارب الثقافات يرى موللر أن الضرورات الاقتصادية التي نجمت عن الاعتماد المتبادل والاتصال العلمي للمجتمعات تصطدم الآن بالممارسات المميزة، ومن الطبيعي، كما يؤكد موللر، أن يسعى البشر لأن يجعلوا المستجدات المطلوبة منهم تنتظم قدر الإمكان في الموروث المتداول.

والممارسات تتغير فقط حين لا يكون بد من ذلك، ثم تتبع في هذا أيضا المعايير ببطء أكثر، ولكن الثقافة تتغير بين الشباب عموما بشكل أسهل وأكثر تقبلا مما بين كبار السن.. هل كانت الثورة على الفيلم الأميركي سيئ الذكر تجليا للحداثة في الأزمات الثقافية؟ بلا شك إن ما جرى في جانب كبير منه ما يفيد بحالة كوزمولوجية تكاد في زمن العولمة تخلق مظلة ثقافية عالمية تشهد شدا وجذبا حول العالم شرقا وغربا.

على أن هذا الشد وذلك الجذب يقودان ربما إلى ما كتبه هنتنغتون ذات مرة لجهة أن ما يقارب 50 في المائة من جميع الصدامات المسلحة في الوقت الحاضر تعود إلى خلفيات التداخل الثقافي؛ فما صحة هذا القول في رؤية موللر التفكيكية؟ يعتبر موللر أن حديث هنتنغتون أمر ذو بال ومن الطبيعي أن يرى في ذلك برهانا على نظريته الخاصة، غير أن قارئا يخلو من الغرض سوف يستنتج من البيانات الإحصائية المتاحة في مراكز الدراسات العالمية، أن أكثر من نصف الحروب الداخلية والدولية لم تقررها العوامل الثقافية، وبكلمات أخرى، فإن الأمر يتعلق ثانية بتوزيع وليد الصدفة.. هل من برهان؟ يقدم لنا موللر دراسة إحصائية صادرة عام 1996 عن الحروب والنزاعات حول العالم، والصادرة عن معهد هايدلبرغ لأبحاث النزاعات، وهو إحدى المنشآت التي تسجل المنازعات العنيفة إحصائيا بشكل منتظم.. ما الذي تقدمه تلك الدراسة؟ أحصت المؤسسة في تلك السنة ما مجموعه 27 حربا وأزمة عنيفة سببت الموت للناس من خلال الاستعمال المنظم للعنف، وقع 9 منها فقط في «خطوط الصدع الحضارية» التي تحدث عنها هنتنغتون.

وقد وقع العدد الأكبر منها، وهو 18، بين أطراف متنازعة تنتمي للثقافة نفسها. وبكلمات أخرى، فإن النزاعات الإثنية تغلب على أحداث المنازعات العميقة والأكثر دلالة في الحالات الـ9 التي تلعب فيها الصدامات الثقافية دورا. والمقطوع به أنه إذا كانت رؤية هنتنغتون بمثابة طرح للعداء للعالم الإسلامي بدرجة أو بأخرى فإن نظرية موللر تركز في جانب كبير منها على ضرورة، بل حتمية، التصالح مع العالم الإسلامي.. لماذا؟

يرى موللر أن جرد حساب حصيفا واستعدادا نزيها للحوار لهما مع العالم الإسلامي أكثر أهمية مما مع أي منطقة أخرى، فقد بات هذا العالم منغرسا في مجتمعاتنا - على حد قوله - أنفسها من خلال الهجرة، وسوف يصبح في حالة تحول ليبرالي لحقوق المواطنة في المستقبل (كان هذا الحديث قبل ثورات الربيع العربي بعدة سنوات) أكثر حضورا أيضا بين ظهرانينا نحن الأوروبيين، كما أنه يعد جوارا إقليميا مباشرا لنا، ومن هنا، فإن رفضه يمسنا بشكل مزدوج؛ إذ من الملاحظ أن هناك إفراطا في مساعي وضع الحدود.. بماذا ينصح موللر؟

أول شيء عنده هو أنه يتوجب على الغرب أظهار دعم تضامني نقدي لتلك الدول التي تبذل جهودا في تحديث المجتمعات الإسلامية وفي استدخال مبادئ من الثقافة السياسية الغربية، مهما كانت غير متصفة بالكمال.

تحتاج رؤية موللر لصفحات طويلة لتحليلها، وهي على قدر كبير من الرصانة، فالرجل يتوقف كثيرا بالنقد للغرب، ويقول إنه لا يمتلك الوصفة التي تجيب عن تحديات العولمة، وإن التاريخ لم يصل إلى نهايته، وإن البشرية لم تعثر على نقطة السكون في النظام الغربي. غير أنه وإن كان الغرب لا يمتلك حجر الفلاسفة، فإن مجتمعاته المفتوحة ونظمه السياسية تقدم عالميا الشروط المثلى للمضي قدما في البحث.

يلفت موللر النظر في الوقت نفسه إلى طامة كبرى محدقة بالغرب، تتمثل فيمن أطلق عليهم «حفارو القبور حسنو النية» الجاهزون في المجتمعات الغربية والذين يتوجب صد هجماتهم على المجتمع المفتوح في ثلاثة اتجاهات؛ أولا: ضد مؤسساتنا الجامدة، وهذا يعني الأحزاب التي تمثل مصالح المالكين. ثانيا: ضد التطرف اليميني الذي يرغب في توجيه الأمور من جديد نحو الأفول الفاشستي بهدف النقاء الثقافي أو العرقي. ثالثا: ضد التعددية الثقافية المرغوب فيها لـ«الناس الطيبين»، التي تتساهل من خلال تسامحها غير المحدود مع نفي الديمقراطية وحقوق الإنسان تحت راية الديمقراطية وحقوق الإنسان، حينما تضع ذلك كعباءة ثقافية فقط.

إلى أين يجب أن نمضي؟ إلى الصراع أم إلى الحوار بين الثقافات؟ ينصح موللر بأنه ينبغي أن نزيد من معرفتنا (يتحدث بلسان الغرب) بثقافات أخرى، فالمعرفة حول الإسلام أو الهندوسية أو البوذية تساوي صفرا من ناحية عملية الآن في الغرب، كما أن أغلب الناس لم يسمعوا بالكونفوشيوسية، وهذا عيب فادح، ويدلل موللر بتجربة ناجحة جرت بها المقادير من قبل؛ فقد اجتاز الغرب الحوار مع الشيوعية بنجاح، لأن كل شخص تقريبا كان يمتلك فهما أساسيا لهذا الآخر.

في مقدمة رؤيته، يؤكد موللر على أن حالة من الخوف تعم البشر اليوم الواحد من الآخر، وفي نهاية طرحه يذهب إلى أن الخوف هو أسوأ من يقدم النصيحة في غالب الأحيان، وأن أفضل تعامل مع الآخر هو الانفتاح، وليس الانغلاق المحكم هو الوصفة المناسبة.

هل سيكون القرن الحادي والعشرين دمويا مثل القرن العشرين أم أن النزاعات العنيفة ستكون ظاهرة عارضة لنظام عالمي يقوم إلى حد بعيد على التعاون..؟ قبل عدة سنوات تنبأ موللر بأن الجواب وإن كان يتوقف بشكل ضئيل عند التحدي الصيني، المشتمل أيضا على اليابان، أو عند حدود ما يراه أصولية إسلامية، فإنه يتوقف بالدرجة الأولى على إرادة الشعوب أنفسها شرقا وغربا بعيدا عن «حفاري القبور الحضارية»، إن جاز التعبير؛ فانظر.. ماذا ترى؟

* كاتب مصري