فكيف المخدوم؟

صالح بن عواد المغامسي

TT

الخطاب الديني المعاصر في أكثر أحواله غلب عليه الترهيب، وربما كانت حجة من ينحى هذا الطريق في الفتوى والوعظ، أن الزمان فسد وتغيرت أحوال الناس، ومن يحملون لواء الترغيب في كثير من طرائقهم، يعمدون إلى التكلف ورفع الصوت إذا تحدثوا، ويغيب عن بعضهم إدراك لطائف الإشارات وخفايا الدلالات التي توشحت بها آيات الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين.

وقل في زماننا من يفرق في فتواه أو وعظه ما بين الخطاب العام والخطاب الخاص، ومنهم من يخاطب الناس وكأنهم أهل بلد واحد في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم.

وولج الخطاب السياسي كثيرا من الأروقة، وأصبحت الجمع التي كانت في زمن النبوة تقوم أركان خطبتيها على الترغيب والترهيب بوعد القرآن ووعيده، أضحت اليوم وكأنها برنامج ملحق بنشرة إخبارية سابقة، ومن يشهد الجمعة إنما جاء ليزداد يقينا بربه، ويقوم بشعيرة تعظيمها من تقوى القلوب، وربما كان في فن السياسة أعظم باعا من الخطيب، أو كان مسلما من عوام المسلمين ليس بيده حول ولا طول، فهو ضعيف متضاعف ذو عيال، جاء يرجو أن يلين قلبه فينكسر بين يدي الكبير المتعال، وهو أقل من أن يعي شيئا مما يتفوه به خطيب يراجع ليلة الجمعة التقارير الإخبارية أكثر من قراءته لنصوص الوحيين وكتب التفسير وما دونه العلماء الأفذاذ في شرح أحاديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وقد يكون ما يقوله ذلكم الخطيب حقا، ونظرته للأمر صائبة، لكن ليس منبر الجمعة موطن ذلك ولا مقامه، وإن قال الفقهاء الحركيون غير ذلك، فالحق أحق أن يتبع.

ويغيب عن بعض البارزين في الفتوى والوعظ الإيمان بسعة الشريعة، وأن الفقه الإسلامي ذو مدارس عدة متعددة من قبل أن يقول أبو جعفر المنصور للإمام مالك: ((تجنب شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس)). فعليه من ذا الذي يريد أن يحمل الناس اليوم على رأيه؟

وقد عجز عن ذلك الأكابر في القرون الأولى لعلمهم أن هذا ليس لهم ولو كان لهم لما استطاعوا.

يقل عند قوم في خطابهم روح العاطفة، وإشارات التصوف المحمود، ويعظم عند آخرين فتح باب التصوف بلا مواربة حمده وذامه من غير مسكة عقل أو معين علم، وكل أخطأ الطريق، والآخر شر من الأول، ومن القول المأثور الحسن: ((من تصوف بلا فقه فقد تزندق، ومن تفقه بلا تصوف فقد تفسق، ومن تفقه وتصوف فقد تحقق)).

وقطعا المراد بالتصوف هنا روح العاطفة ورقة القلب ونبذ الجفاء، وعظيم التفكر وفقه الإشارات القرآنية والدلالات النبوية، وتأمل قول الله تعالى عن أهل جنته: ((ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون)). فالغلمان الخدام المختصون بأهل الجنة، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف، وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن.

فاجمع أيها المبارك بين الفقه والتصوف وقل:

هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟

أرأيت ترغيبا فيما عند الله أعظم من هذا البيان، كلا فقد قال الله: ((فبأي حديث بعده يؤمنون)).

وهذه العشر المباركات مقبلات، فلير ربنا منا قلوبا وجلة، وأعمالا صالحة، ولن يكون ذلك إلا بفضله، فحقيقة الدين: ((إياك نعبد وإياك نستعين)).