المناصب في الإسلام: من خدمة النفس والأهل لخدمة الوطن والمواطن

الإسلام يحرم استغلال المناصب لتحقيق أهداف ومصالح شخصية.. وأوجب أداء الأمانة بمختلف أشكالها وصورها

TT

تولي المناصب، مهما كان حجمها، صغيرة أم كبيرة، هي مسؤولية وأمانة، إذا أسيء استغلالها، تحولت إلى مصائب وكوارث تصيب صاحبها وتمتد آثارها إلى الشعوب والأوطان. المنصب تكليف وليس تشريفا، لا يقدر عليه إلا أصحاب الهمم العالية والنفوس الشريفة الرفيعة، التي تدرك جيدا أن المنصب وإن طال توليه، فهو زائل لا محالة، وتدرك أيضا أن المنصب هو الذي يسعى إليك ولا تسعى أنت إليه.

ويجدر بمن يتولى مسؤولية المنصب أن يكون على علم ومعرفة وخبرة كافية تمكنه من تحقيق آمال وطموحات وطنه ومواطنيه. ولكن قد يسعى الشخص للمنصب متخليا عن قيمه ومبادئه، وطمعا فيه من أجل تحقيق أهداف وغايات غير نبيلة خاصة به وبأهله والمقربين منه، متناسيا ما قد أطلقه قبل توليه للمنصب من وعود وآمال كثيرة، وانتقادات حادة لمن سبقه من مسؤولين.

لقد وضع الإسلام أسسا وقواعد متينة لتولي وتقلد المناصب والأعمال، من بينها الأمانة والعلم والكفاءة والمقدرة، فلا يجوز عند تولي المناصب أن يكون الاختيار قائما على أساس من اللون أو الجنس أو انتماءات معينة أو صلة القرابة والصداقة والمعرفة والعلاقات والأهواء الشخصية، بل يكون الأساس في اختيار الأصلح والأقدر على تولي مسؤولية المنصب، قائما على أسس متينة من الأمانة والعلم والمقدرة والكفاءة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني - أي ألا تجعلني واليا أو أميرا على إحدى المدن - قال أبو ذر: فضرب بيده صلى الله عليه وسلم على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» (أخرجه مسلم).

وعندما تولى أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، الخلافة، قال: «أيها الناس: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حسن فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه».

وبعد تولي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الخلافة قال: «اللهم إني شديد فليني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخني». وقال أيضا: «إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموني». فقام رجل وقال لعمر: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا، فقال عمر: «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوم عمر بسيفه». كما أن لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قولا مأثورا، حيث قال: «ويحك يا ابن الخطاب، لو عثرت دابة على شاطئ الفرات لسألك الله عنها لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟».

ولما ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، الخلافة، قدمت إليه مراكب الخلافة، فقال: «ما لي ولها؟ نحوها عني وقدموا لي دابتي، فقربت إليه، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنح عني، ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين. وأمر بالستور فرفعت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فأمر ببيعها، وإدخال ثمنها بيت المال».

لقد حرم الإسلام استغلال المناصب لتحقيق أهداف ومصالح شخصية، وأوجب أداء الأمانة بمختلف أشكالها وصورها، وشدد على أهمية العناية بأمانة المناصب صغرت أم كبرت، بالعديد من الأوامر والنواهي، التي إن روعيت فسوف تتحقق مصالح العباد والبلاد، من جلب للمصالح والمنافع ودرء للمفاسد والكوارث والمصائب التي تقع بسبب الخيانة وتضييع الأمانة. قال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون» (سورة الأنفال، آية 27). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن الساعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة» (رواه البخاري).

فالأمة التي لا أمانة فيها هي التي تهمل أصحاب الكفاءات والخبرات في تقلد المناصب، حيث تولي عليها من ليسوا أهلا لها، الذين يستحوذون ويتهافتون عليها، لتحقيق آمال وطموحات ومصالح ومنافع ومكتسبات ذاتية أو شخصية أو أسرية، وتكون النتيجة أن تتسبب هذه المناصب في جلب المصائب لهم ولشعوبهم وأوطانهم، حيث تعم الفوضى والاضطراب والفساد وأعمال النهب والسلب. لقد أوجب الإسلام على صاحب المنصب أن يتوخى العدل في جميع مسؤولياته وأعماله، والنصح والإخلاص في خدمة ورعاية مصالح وشؤون رعيته، وألا يجعل بينه وبينهم حاجزا وحاجبا يمنعه تفقد ومعرفة أوضاعهم وأحوالهم. يقول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته». كما أن التشريع الإسلامي أوجب على الولاة وأصحاب المناصب أن يستمعوا جيدا للكلمة الصادقة وللنقد والحوار البناء الهادف لمصالح العباد والبلاد، وكذلك الشورى في الأمور التي تتطلب رأيا ومشورة، فقد أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، حيث قال تعالى: «وشاورهم في الأمر» (سورة آل عمران، آية 159).

كما أن الإسلام قد حرم تحريما شديدا أن يستغل صاحب المنصب أو الولاية، أيا كانت منزلته، منصبه لتحقيق مصالح ومنافع شخصية له ولأسرته ولأقربائه، فعن خولة بنت عامر الأنصارية، وهي امرأة حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة» (رواه البخاري). ويتخوضون أي يتصرفون في الأموال تصرفا طائشا غير شرعي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا (بكسر الميم وإسكان الخاء) - أي إبرة - فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة» (صحيح مسلم). وقد أعد الله تعالى للمتصفين بالأمانة أجرا عظيما، فقال الله تعالى في صفات أهل الإيمان: «والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» (سورة المؤمنون، آية 8).

لقد بلغت العدالة والمساواة التامة في تولي المناصب والأعمال، بكل مستوياتها، شأنا عظيما في كل عصور الإسلام، فكان اختيار الحكام والولاة يتم على أسس من الأخلاق والقيم الحميدة، كالأمانة والتقوى والورع والإخلاص والقدوة، والعلم والمقدرة والكفاءة، فلم يكن هناك محاباة أو تفضيل لشخص دون الآخر، فكانت العواقب حميدة في الحفاظ على مصالح العباد والبلاد وتحقيق الأمن والاستقرار، فقد ورد قول للخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لأحد ولاته: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك مما لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم (أي لا يلج في الخصومة) ولا يتمادى في الذلة»، أي أن يتصف برحابة الصدر وسعة الاحتمال والحلم والصبر والتواضع. وقال رضي الله عنه: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن لك فيه هوى من رعيتك». نسأل الله تعالى أن يوفق ولاة الأمور لما فيه خير البلاد والعباد.