مبادرة الملك عبد الله للحوار بين الأديان

رضوان السيد

TT

جاء اجتماع فيينا لتأسيس مركز للحوار بين الأديان ليتوج جهودا حثيثة قامت بها المملكة العربية السعودية على مدى أكثر من خمس سنوات بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. أطلق الملك المبادرة عام 2007 بعد محادثات مع البابا. واجتمع علماء المسلمين في مكة بدعوة من جلالة الملك، حيث صاغوا النص المعبر عن جوانب المبادرة كافة. ومضى الملك والعلماء بعد ذلك إلى إسبانيا، ثم إلى الأمم المتحدة. وجرت حوارات الشراكة العالمية هذه في فيينا على مدى سنوات. وعندما اكتملت حوارات الشراكة كان اجتماع فيينا الأخير الذي أنشأ المركز ووضع برامجه التنفيذية التي تعبر عن الروح الوثابة التي وقعت في أصل هذا الاقتناع للسلام بين الأديان. وهو سلام يقوم على الاعتراف المتبادل، وعلى البناء على القيم الكبرى المشتركة للانطلاق في تعاون يرمي إلى تصحيح العلائق، وإلى تجاوز انقسامات الشرق والغرب ذات الجوانب الدينية والثقافية والإنسانية العامة.

ماذا يعني المركز بالنسبة للمسلمين؟ وماذا يعني بالنسبة للعالم ودياناته؟ مع تصاعد الحرب الباردة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين المنقضي، تصاعدت أيضا حرب ثقافية بين المعسكرين المتصارعين. وكما نالت الحرب الباردة الاستراتيجية من وحدة المسلمين والعالم الإسلامي؛ فإن الحرب الثقافية وضعت المسلمين (والإسلام) على الجانب الآخر من معسكر الإيمان والحرية. ومن المعروف أن المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) حاول إدخال عناصر إيجابية في الموقف المتوتر. من طريق الاعتراف بالإسلام شريكا في معسكر الإيمان؛ فإن الحوار الذي أطلقه المجمع الفاتيكاني المذكور ما لبث أن تعثر في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي عندما عاد الحديث عن «الخطر الأخضر»، أي الخطر الإسلامي على السلام العالمي، وقد لعبت الحروب التي جرت في المناطق العربية والإسلامية وعليها دورا أساسيا في التعطيل والانسداد والتوتير. والواقع أن الجهات العربية والإسلامية اتجهت في ردود أفعالها على الهجمات في طريقين: طريق الدفاع عن سلام الدعوة الإسلامية مع شواهد كثيرة من الماضي والحاضر، والطريق «الجهادي» من جانب قلة اقتنعت بضرورة مواجهة العنف بالعنف باسم الإسلام! ووسط التصارع والتصادم الثقافي والعسكري، ما عاد أحد يستمع إلى أحد.. فقد رأت فئات من شبان المسلمين أن إنسانهم ودينهم مظلومان، وأنه لا بد من الاعتراف والإنصاف. ورد دعاة «الخطر الأخضر»، و«الأصولية الإسلامية» بأن المسلمين خطرون بسبب أعدادهم المتكاثرة، وشدة اتباعهم لدينهم، وميلهم للخصوصية الشديدة، ومجافاة الآخر المجاور، وتنكرهم لثوابت ومقتضيات الحياة الحضارية الحديثة! وتحت شعار «صراع الحضارات»، أي اعتداء أهل الحضارة الإسلامية على الحضارات الأخرى، التهبت الأجواء التي أفضت إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، وما تلاها من هجمات وحروب في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وبخاصة المنطقة العربية وما حولها، باسم مكافحة الإرهاب.

ومن الإنصاف القول إنه كانت هناك محاولات من جانب العقلاء في الغرب والشرق، لإعلاء اعتبارات وممارسات الحوار والتآلف، واسترداد الرايات من عند ذوي الرؤوس الحامية. وذوو الرؤوس الحامية موجودون لدى الطرفين. بيد أن تفاقم الهجمات على المسلمين والإسلام، ما ترك لأحد فرصة حقيقية للتأثير في مجال العودة للتعقل في شتى الظروف، وبخاصة أن كثيرين انصرفوا - بدلا من بذل الجهود لإيقاف الهجمات وحروب الأفكار - إلى دعوتنا لاسترداد الإسلام ممن خطفوه! وسط هذه الظروف القاسية على المسلمين والإسلام، جاءت دعوة الملك وجهوده إلى الحوار. ومن الحق أن يقال إن الانسدادات كانت عسيرة في الجانب الإسلامي أيضا.. إذ إن الأمر ما اقتصر على الذين يحملون رايات الجهاد، بل ظهرت أطراف مزايدة تعتبر كل دعوة للحوار استسلاما وخنوعا، وتصر على استحثاث الشبان على الانتحار. وليس في مواجهة المهاجمين وحسب، بل وفي مواجهة العرب والمسلمين الذين ما أرادوا الدخول في الفتن، أو أنهم ما اقتنعوا بزج الدين وقيمه وممارساته في المعمعة التي لا يرجى منها خير للإسلام، ولا للقضايا العربية والإسلامية. وكان إعلان مكة حاسما لجهة العودة التأصيلية لطبيعة الدعوة الإسلامية باعتبارها بنص القرآن رحمة للعالمين، وباعتبار البلاغ والتبليغ لدعوة الرحمة هو أمر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - في حجة الوداع. وتساوق هذا النقاش الداخلي الزاخر والمتشكك أحيانا في الجدوى، وفي استجابة الأطراف، بحيرة بعض تلك الأطراف أو سلبيتها بالفعل، فأهل ديانات التوحيد بينهم الأصولي (والأصولية مصطلح مسيحي بروتستانتي استعير للتعبير عن بعض الظواهر الإسلامية الجديدة!) اعتقادا وتوجها، وبينهم العنيف والانتصاري، وبينهم المنكمش والانكفائي والذي لا يفتأ يكرر سلبيات التجارب التي يقول إنه عاناها مع المسلمين! ثم إن الذهاب إلى عوالم الديانات غير التوحيدية مثل البوذية والهندوسية، كان محفوفا بشكوك كبرى، منها عدم الخبرة، ومنها عدم الفهم من الطرفين أو الأطراف، ومنها التفاوت في ردود الأفعال من جانب أتباع تلك الديانات. وبسبب الانحسار الهائل الذي عاناه المسلمون في المائتي عام الأخيرة؛ فقد كان علينا وعلى المسيحيين في أحيان كثيرة أن نجدد معارفنا بمن نحاور، وأن نستكشف جوانب كانت خافية علينا بشأن الخبرة والتجربة والتاريخ والإمكانات وما هو مباح وما هو غير مباح، وكيف تعامل المسلمون مع تلك العوالم من قبل وقد عرفوها منذ القرن الهجري الأول وإلى اليوم.

لقد كانت التحديات كثيرة، وكانت تحديات في الوعي والواقع.. بيد أن الضرورات، وحالة الحصار الشديد المضروبة على المسلمين ومن ورائهم الإسلام، حركت الهمة العالية لدى الملك. وكنت قد قلت بعد لقاءي مكة ومدريد في دراسة نشرتها فيما بعد في كتابي: «الصراع على الإسلام»، إنه كانت هناك ثلاث جهات تتصارع أو تصارع من أجل القبض على «روح الإسلام»: الاستراتيجيات العالمية الكبرى، والتي ما اكتفت بالحروب والغزوات، بل وأصدرت آلاف الدراسات عن «الإرهاب الإسلامي». والراديكاليات المتصاعدة في كل مكان في صفوف المسلمين، وبعض هؤلاء يتصرف استنادا إلى نيات مبيتة للدخول في ممارسات وابتزازات الاستراتيجيات العالمية من أجل فائدة عاجلة. والطرف الثالث هو الذي يقوده خادم الحرمين تحدوه الثقة بالاستجابة للمصالح العميقة والبعيدة والباقية للمسلمين وللإسلام. وأذكر في إحدى المناقشات بمدريد، عندما كان بعض مسلمي شبه القارة الهندية يعرض على الملك المظالم التي تعرضوا ويتعرضون لها وسط صعود الراديكاليات في صفوف الطرفين في العقود الأخيرة، أن الملك قال لهم: هل عندكم شك في أنكم على الحق في دينكم؟ فقالوا بصوت واحد: لا. قال: أليست العلاقات سيئة بينكم وبين جيرانكم؟! قالوا: بلى. قال: فلنتقدم باتجاههم ولدينا الثقة بحقنا، ومن أجل سلامنا وسلامهم. وليكن هدفنا الأول إزالة حالة العداء بحيث يتعرف كل منا على الآخر من جديد أو بوجه جديد، فالإنسان عدو ما جهل، وسترون أن المودة مكسب عظيم لاحق أو آت لا محالة مع وضوح المقاصد السلمية من الطرفين.

قام المركز الحواري إذن وأخيرا بعد سنوات من النقاشات الخصبة، القائمة على الإرادة الطيبة، وعلى حوارات الشراكة وآفاقها. وتقوم الشراكة على ثلاثة من المسلمين، وثلاثة من المسيحيين، وواحد من اليهود، وواحد من الهندوس، وواحد من البوذيين. أما شريكا المملكة في رعاية هذا المركز وهذه المؤسسة فهما إسبانيا والنمسا وهما بلدان عريقان من بلدان الكاثوليكية. وقد كانت لهذه العملية الزاخرة من اللقاءات والحوارات والنقاشات، والتي كانت المبادرة فيها هذه المرة للعرب والمسلمين، آثار بعيدة في الوعي والواقع، إذ يمكن القول ومن دون مبالغة إن مبادرة الملك التي انضمت إليها تطورات أخرى، فككت حالة الحصار، وحدت من الاستنزافات بالداخل ومع الخارج. وستكون للمركز نشاطاته الكثيرة التي تزيد من التعريف بفوائد الحوار والشراكة بين الديانات في نشر السلام وقيم العدالة في العالم، كما قال المفكر الكاثوليكي هانز كنغ. لكننا نجرب نحن العرب والمسلمين ربما للمرة الأولى في الأزمنة الحديثة أمرين اثنين: مسؤوليات وأهمية المبادرة في صنع الجديد والواعد والمتقدم.. فللمبادرة قيادة ولها مسؤولياتها بالطبع، إنما لها أيضا ميزاتها في الفعل والاختيار والسير إلى الأمام، وتجدد الدور واتساعه. والأمر الثاني: قوة السلم وقدرته على تحقيق ما لا تحققه الحلول العنيفة أو الإرغامات العنيفة.. فعندما كنت أكتب هذه المقالة كان التصويت يجري في الأمم المتحدة على فلسطين دولة مراقبة بالمنظمة الدولية. وهذا جهد جرت متابعته خلال سنوات، وأدى إلى هذه النتيجة المشرفة.. فأين هذا الجهد وجدواه، من الانطلاق في إطلاق الصواريخ والقتل المتبادل دونما نتائج غير زيادة عذاب الشعب الفلسطيني؟! فلتبق مبادرة خادم الحرمين للحوار منارة واستنارة ومثلا على جهد بناء لتصحيح علائق المسلمين بالعالم: «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».