يرمون ابن رشد أيضا بشرر

بنسالم حِمِّيش

TT

لم يعد هناك من شك في أن جهات ولوبيات غربية تسعى إلى توسيع جبهات معاداة الإسلام وثقافته وتأجيج نيرانها، ممارسة باسم حرية التعبير كل أشكال القذف والتشهير الشرسة الممنهجة، منها الكاريكاتيرات حول رسول الإسلام عليه السلام، والتصريحات العنصرية السافرة لسياسيين من اليمين المتطرف وحتى اليمين التقليدي في أوروبا الغربية والشمالية، وأيضا مثقفين متنفذين، كإلكسندر أدلير وبرنار هنري ليفي وميشل هولبك وألن فينكنكروت الذي يعتبر القرآن الكريم «كتاب حرب»، وغيرهم كثير، هذا علاوة على الشريط السطحي السخيف «براءة المسلمين»؛ وكل هذه المظاهر إن هي إلا غيض من فيض الجهالات المولدة للكراهيات التي تحاول أن تضرب في الصميم مشروع حوار الثقافات وتحالف الحضارات، وتحوله إلى لغو وغثاء أو إلى حلم مستحيل المنال. والأدهى والأمر أن الأوساط الإعلامية المهيمنة، ومعظمها «متصهينة» تقوم في عملياتها العدائية والتشهيرية ضد الإسلام بكل رموزه وأبعاده بتسخير أصناف من عرب الخدمة، تصنع منهم محاورين موثوقين ذوي «علم» و«مصداقية»، وتدفع بهم إعلاميا ونشريا، مبرمجين لما يلزم عليهم قوله والدفاع عنه، حسب أجندة خفية أو معلنة؛ وإذا ما حاد عنها أحد قليلا، أو أبدى شيئا من التحفظ على ضغوط الولاء والتدجين، وضع بلا تأن ولا هوادة في القائمة السوداء، قائمة المغيبين قسرا عن أضواء الإعلام الورقي والسمعي البصري وحتى النشري، ومن أولئك العرب (عرب الاسم لا غير والمجنسين أوروبيا): محمد صيفاوي (المتعامل جهرا مع المخابرات الفرنسية) وعبد الوهاب المؤدب ومالك شبل وأنطوان سفير، وغيرهم ممن في مداخلاتهم وحتى كتاباتهم لا يملكون إلا معرفة فجة مهزورة، كما قد نظهره في مقالة أخرى.

وفي المقابل هناك ثلة من العلماء والباحثين في شتى حقول الحضارة العربية الإسلامية وثقافاتها، يتميزون بكفاءات عالية، ولهم أعمال فذة معمقة من أمثال ألان دي ليبيرا وكريستيان جومبي وفانسي جيسر ورشاد رشدي ومحمد علي أمير - معزي وجورج قرم، لكنهم جميعا مغيبون تماما عن عالم الإعلام بشتى ضروبه، وذلك لكونهم لا يستجيبون للأنماط المطلوبة من طرف أباطرة ذلك العالم والقابضين على مقاليده التمويلية والتوجيهية على السواء. وإن كنتم من حين لآخر ترون طارق رمضان السويسري الجنسية في برامج تلفزيونية فرنسية وغيرها، فلذر الرماد في العيون من جهة، ولتطويقه بخصومه العنيدين وحشره في زاوية الدفاع عن نفسه ضد تهمة ازدواجية مواقفه وانتسابه إلى حركة «الإخوان المسلمين» لكونه حفيد المرحوم حسن البنا، فنشاهده في موقع التبرئة والتبرير الذاتيين، ولو بخفض الجناح والتذكير دوما أنه مسلم مسالم ومواطن أوروبي.

إن فيض الجهالات والكراهيات المذكور أعلاه، المتعدد المناهل والوجوه والتمظهرات قد يكون لنا عود إليه بشيء من التفصيل والتدليل، فلتكتف بالحالة المعلنة في العنوان على سبيل المثال لا الحصر.

في العصر الوسيط الأوروبي، كانت لفظتا arabi وphilosophi مترادفتين في مقابل latini. وكان الغرب اللاتيني، كما يقر ألان دي إيبيرا «متخلفا فلسفيا» (الفكر في العهد الوسيط، ص 110)؛ ولا أدل على ذلك من وفرة الأعلام المسلمين وحتى اليهود الذين لتّن التراجمة أسماءهم العائلية وأحيانا الشخصية فقط.. وحتى القرن 14 لم يعد للأوروبيين معرفة إلا بابن سينا وابن رشد، مما جعل أرنست رينان يعترف: «إن ألبير الكبير (المفكر الدومينيكي الألماني المتوفى في 1280) مدين بكل شيء لابن سينا، والقديس توما الأكويني (تلميذ الأول) كفيلسوف مدين بكل شيء تقريبا لابن رشد». لكنه، خلافا لهذا الإقرار البين، نراه يعتبر الفلسفة في الإسلام مجرد «عارض استطرادي» في تاريخ العرب الفكري، إذ لم تكن عند الساميين، كما يكتب: «سوى استعارة خارجية صرفة خالية من كل خصب، وغير اقتداء بالفلسفة اليونانية» (ابن رشد والرشدية، ص 158). ويذهب رينان إلى حد التأسف لكون العرب كانوا هم نقلة التراث اليوناني، من فلسفة أرسطو المشائية، وهندسة إقليدس، وطب جالينوس، وفلكيات بطليموس، بدل أن يقوم البيزنطيون أنفسهم بذلك، فيسجل: «آه لو كان البيزنطيون أقل غيرة على كنوز ما كانوا إذّاك يقرأونها [..]، إذن لما احتيج إلى ذلك المعبر الغريب الذي جعل العلم الإغريقي يأتينا من القرن الثاني عشر مرورا بسوريا وبغداد وقرطبة وطليطلة» (et la science L’islamisme) [كذا!]، ص 11).

قد نجد لرينان (من القرن 19) بعض العذر لتناقضاته وتهافتاته باعتباره كان عالما موسوعيا وبحاثة (انظر كتابنا: العرب والإسلام في مرايا الاستشراق)؛ لكن الأدهى والأمر هو ما يطالعنا به هذا القرن الذي نحن على عتبته من كتابات نخرة خالية من أي تحقيق وتدقيق. فمن آخرها في موضوعنا هذا الكتاب السجالي اللاعلمي، الذي اقترفه أستاذ التاريخ بجامعة ليون، سيلفان كوكانهيم Sylvain Gouguenheim وعنوانه أرسطو في مرتفع سان - ميشل.. حيث يذهب متهافتا إلى نفي دور العرب في نقل التراث اليوناني إلى أوروبا القرون الوسطى، ثم إسناد ذلك الدور إلى اسم مغمور هو جاك دي فينيز (البندقي) Jacques de Venise من القرن الثاني عشر ميلادي، الذي ترجم، حسب ادعاء المؤلف، أرسطو مباشرة من اليونانية (التي كان يحسنها) إلى اللاتينية، وذلك في كنيس مون سان - ميشل؛ وبالتالي يكون الغرب المسيحي حول الموضوع في حل من أي دين إزاء العرب والمسلمين، وهذا عكس ما انعقد عليه إجماع علماء ومستشرقي أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين وما بعد، بما فيهم أرنست رينان نفسه.

إن كوكانهيم الذي لا يأبه لذلك الإجماع ولا لكل الدراسات العلمية القديمة والحديثة التي تصب فيه وتعضده، يأبى إلا أن ينفرد بأطروحته الفجة المهزوزة ويتعصب لها مزهوا. ونظرا لخطورة تأثير هذا المؤلف وفداحة أخطائه ومغالطاته، أقدم جمع من الخبراء، المشهود لهم بكفاءتهم ونزاهتهم، على وضع كتاب بالغ الأهمية، تحت إشراف فيليب بوتغين وألن دي ليبيرا ومروان راشد وإيرين روزي، وهو الإغريق، العرب ونحن، بحث في الإسلاموفوبيا العالمة. فهل يا ترى يستطيع هذا المؤلف العلمي مغالبة أضرار أطروحة كوكانهيم، سيما أن وسائل إعلام ومواقع إلكترونية وبلوغات Blogs ومعظمها يميني «إسلاموفوبي» نشرت مقاطع من مؤلفه وتصريحاته ووقفت إلى جانبه تناصره لدواع وأسباب تعود ولا شك إلى واقعة 11 شتنبر 2001، كما إلى وضع الإسلام والمسلمين اليوم في أوروبا والغرب عموما؟

ختاما، من جهتنا ليس علينا، كما رأى كانط، أن نتبع توصية الفيلسوف الألماني هردر الداعية إلى «اجتناب طريق ابن رشد»، لكن في المقابل ما نتمناه هو قيام تيار دراسي يعيد فيلسوف قرطبة ومراكش إلى انتمائه التاريخي والمعرفي، تيار لا يتغاضى عن تناقضاته وهفواته ولا يخضع في معالجته لضغوط المركزية العقلانية الهيلينية أو الغربية (التي تجعل البعض يصدع متعجبا: وأخيرا نعثر على عقلاني في الإسلام: ابن رشد!)؛ كما على ذلك التيار أن لا وراء التملكات الحداثوية المتهافتة المشوهة. إن الأعمال الرشدية ستظل مواضيع مهمة في تاريخ الفلسفة، جديرة بالبحث والمساءلة، وصاحبها المتجرد للتحصيل المعرفي، المحب المتشوق للفلسفة، سيبقى معلمة مضيئة، من دون أن نقول عنه ما قاله هو عن أرسطو: «كمل عند الحق».

* كاتب ومفكر ووزير الثقافة المغربي السابق