حوار الحضارات بين الديانتين المسيحية والإسلام (1 ـ 2)

اجتماعات داخل الفاتيكان بدأت عام 62 واستمرت ثلاث سنوات وأيدت الحوار مع المسلمين

TT

منذ وقوع الحرب على الارهاب اخذت بعض أقلام المثقفين العرب تطالب بقيام حوارات حضارية بين الاسلام والمسيحية، وفتح حوار يبعد وقوع اي صدام بين الديانتين السماويتين في زمن اخذ فيه العالم المتحضر وضع نظام عالمي جديد تتعامل معه جميع الدول غنيها وفقيرها، هدفه تحقيق الامن والاستقرار والسلام في ارجاء المعمورة مع تأمين حياة رغدة للاسرة الدولية.

وامام تلك المطالب الحقة الهادفة الى خدمة الانسانية، اشير بدوري الى ان حوار الحضارات بين المسيحية والاسلام انما هو قديم العهد، وقد جرى فعلا بين علماء ومفكرين، ولكن ظروفاً معينة وأسباباً خارجية ومداخلات عملت بالخفاء، حالت دون استمرار تلك الحوارات التي قطعت شوطا بعيدا في التعاون الحضاري بين الاسلام والمسيحية.

والحقيقة ان للمخططات الصهيونية العالمية الدور البارز في قطع الحوار بين الديانتين، باعتبارها لا تريد قيام اي تعاون بين المسلمين والمسيحيين، لانه سيكون بنظر قادة الصهيونية، مضراً بمصالحها.

وتشير المعلومات الى ان تاريخ حوار الحضارات يعود لما ينوف عن قرن ونصف القرن الميلادي، وبالتحديد في شهر رجب من عام 1270هـ، اي قبل حوالي 152 سنة، وكان ذلك في زمن تعرض فيه العالم لأزمات سياسية ومادية واجتماعية وثقافية لم يعرف لها مثيلاً في التاريخ القديم، وفي وقت حاول فيه كل شعب ان يوجد الحلول لمشكلاته الاجتماعية على اساس مصالحه الذاتية فقط، من دون النظر لمصالح باقي الاسرة البشرية. لذلك تعارضت مصالح الدول وشعوبها، وازدادت الازمات العالمية خطورة وتعقيدا بعد ان فسدت العلاقات بين الدول، وساءت الامور، وقست القلوب بين الحكام، واقتحم الانسان كل شيء متجاوزا الحدود الانسانية.

لقد شهد العالم في عام 1270 هـ مناظرة دينية في مدينة كلكتا بالهند بين جماعة من اهل الكتاب من علماء المسلمين وجماعة من اهل الكتاب من النصارى الذي درجوا على الطعن بالاسلام، واستدراج الجهلة من عوام الناس.

ووضع الحوار الحضاري في كلكتا على جدول اعماله موضوعات خمسة هي: التحريف، النسخ، التثليث، حقيقة القرآن الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وتمكن علماء المسلمين، الذين شاركوا في الحوار، من اظهار الحق بمجرد مناقشة الموضوعين الاولىن وهما: التحريف والنسخ.

وفي العقود الماضية تولت الامانة العامة لرابطة العالم الاسلامي في مكة المكرمة اصدار سلسة من كتب دعوة الحق، للحديث فيها عن محاسن الاسلام ومكارمه في ضوء القرآن الكريم، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمبادئ الاجتماعية والانسانية التي قامت عليها الشريعة الاسلامية. فالاسلام في مجمله نظام اجتماعي اخلاقي ذو مبادئ فكرية تقوم عليها الآداب العامة والعلاقات الاجتماعية، وهو من ناحية اخرى دين يربط الانسان بخالقه على اساس من العقائد والواجبات الدينية، وهو في كل ذلك يدعو الى الاحتكام الى العلم والعقل. قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني».

ان القرآن الكريم كتاب حق وصدق يحكي بين آياته المنزلة على رسول الاسلام عليه الصلاة والسلام قصص الانبياء والرسل ودعواتهم، ويأمرنا نحن المسلمين بتصديقهم والايمان بهم ايمانا جامعا مؤتلفا من دون تبعيض او اختلاف. ويعطينا العبرة من اقوالهم، والذين كذبوهم وخالفوهم دعوتهم. قال تعالى في كتابه الكريم: «قولوا آمنا بالله وما انزل الينا وما انزل الى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط، وما اوتي موسى وعيسى وما اوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» سورة البقرة، الآية 136.

كذلك ان كتاب الاسلام يختلف كثيرا عن الكتب اليهودية والمسيحية لانه كتب في الحال خلال سنوات تنزيله التي استمرت عشرين سنة، وتعهدت بكتابته كوكبة من الصحابة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا بكتبة الوحي. وثبت من اقوال السلف الصالح ان فترة انقطاع الوحي دامت ثلاث سنوات، وان محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة في ذاك الزمن، وقد حفظه المؤمنون في صدورهم مرتبا كما امر به الوحي، وكانوا يرددونه في صلواتهم خمس مرات في اليوم، وبخاصة طيلة شهر رمضان، شهر الصوم، وهو الشهر الذي كان فيه جبريل عليه السلام ينزله على نبي الاسلام صلى الله عليه وسلم. وقد رتب الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الوحي وتوجيهه، آياته في سور متتالية، جمعت مباشرة عقب وفاته صلى الله عليه وسلم، بهدف ترتيبه في السطور على نحو ما هو محفوظ في الصدور، فتم له الحفظ الذي أراده الله له، بقوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» سورة الحجر، الآية 9.

* عنصرا الاصالة والحفظ

* هكذا توفر للقرآن منذ البداية عنصرا الاصالة والحفظ اللذان لم يكونا متوفرين للأناجيل وكتب التوراة، وكان المسلمون يؤمنون بأن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، فلا ينتظرون نبيا آخر يتمم الرسالة السماوية او يغنيهم عن الاجتهاد في معاني الكتاب، او معاني الاحاديث النبوية الظنية غير المقطوع بدلالتها على الاحكام الشرعية.

وجاءت في كتب التوراة والانجيل اخبار عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأوصاف تؤيد صدقه في نبوته، ولكن المتأثرين بأحبار اليهود والرهبان المسيحيين في العالم الغربي يرفضون اعطاء القرآن سمة الكتاب الموحى به من الله تعالى، كما ان اليهودية التوراتية لا تعترف بأي وحي جاء بعد وحيها سواء وحي عيسى عليه السلام او وحي نبي الاسلام محمد عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا، ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون، واذا سمعوا ما انزل الى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع ان يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين، فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين» سورة المائدة الآيات 82 ـ 85.

ان تفسير هذه الآيات كما ورد في كتب الأئمة والسلف الصالح نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما: بأنها نزلت في وفد النجاشي واصحابه، الذين قدموا من الحبشة الى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه وما انزل عليه، وليروا صفاته وكانوا على دين عيسى بن مريم عليه السلام، فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن الكريم من رسول الله عليه الصلاة والسلام اسلموا ولم يتلعثموا.

اما قوله تعالى: «ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى»، اي الذين زعموا انهم نصارى من اتباع المسيح عليه السلام، وعلى منهاج انجيله، ففيهم مودة للاسلام واهله في الجملة، لما في قلوبهم، اذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة.

وقال تعالى: «وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية...»، وفي كتابهم الانجيل: «من ضربك على خدك الايمن فأدر له خدك الايسر»، وليس القتال مشروعا في ملتهم، ولهذا قال تعالى «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون»، اي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم، والرهبان جمع راهب وهو العابد، مشتق من الرهبة وهي الخوف. وقال بن جرير: وقد يكون الرهبان واحدا وجملة رهابين، مثل قربان وقرابين، وقد يجمع على رهبانة ومن الدليل على انه يكون عند العرب واحدا قول الشاعر:

لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل وقال ابن ابي حاتم عن جاثمة بن رئاب قال: سمعت سلمان وسئل عن قوله «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا». قال: هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب، فدعوهم فيها. قال سلمان: وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم «ذلك بأن منهم قسيسين» فأقرأني «ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا» فقوله «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون» تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والانصاف، فقال «واذا سمعوا ما انزل الى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق»، اي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، «يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين»، اي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به، اي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم انه قد بلغ وللرسل انهم قد بلغوا وكانوا (كرابين) يعني فلاحين، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت اعينهم، قال تعالى: «وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع ان يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين».

وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: «وان من اهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما انزل اليكم وما انزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا اولئك لهم اجرهم عند ربهم ان الله سريع الحساب» سورة آل عمران الآية 199، من تفسير الامام ابن كثير.

وقال الله تعالى في كتابه: «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم» سورة البقرة الآية 113.

لقد بين الله تعالى تناقضهم وعنادهم، من تفسير الامام ابن كثير.

* مواقف في العالم الاسلامي

* وامام هذه المواقف الاسلامية الصحيحة والموثقة في كتاب الله، ظهرت في مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي تغييرات جذرية على اعلى المستويات في العالم المسيحي حيث اطلق كبار رجال الفكر والعلم في القارة الاوروبية صيحات حضارية منفتحة لاعادة النظر في الحياة البشرية كلها، واقامة حوار مسيحي ـ اسلامي مع اكبر دولة اسلامية في العالم وهي السعودية، باعتبارها الدولة الوحيدة التي تتجه اليها انظار كل العالم، وتطبق شريعة الاسلام نصا وروحا من خلال دستورها «كتاب الله»، كما انها تتولى رعاية الحرمين الشريفين، المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة.

وقد ثبت لكبار العلماء والفكر المسيحي الاوروبي بعد دراسة الشريعة الاسلامية وتمحيصها بدقة، ان شريعة الاسلام مجهولة في العالم الغربي بالنسبة لقيمها واهدافها الانسانية. وبكلمة اوضح، محكوم عليها غالبا بالاحكام المغرضة، والافتئات عليها افتئاتا صريحا. وقد سبق هذه الصحوة المسيحية نحو شريعة الاسلام، اصدار الكولونيل الاميركي بودلي عام 1946 في مدينة نيويورك، كتابا عن نبي الاسلام محمد صلى الله علىه وسلم، واختار له عنوان «الرسول»، واعتبر الكتاب افضل «رد علمي» على اولئك الذين يطعنون بالشريعة الاسلامية من الغربيين سواء في الولايات المتحدة او اوروبا، وقد تحدث الكتاب عن نضال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والرد على ناقديه من منكري دينه، او منكري جميع الاديان، بعد ان نظر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي دعوته السماوية الصحيحة، وقارن بين الشريعة الاسلامية والعقائد الكتابية الاخرى، حيث وصف كتاب الله (القرآن) بانه كتاب حي لم يوضع للمطالعة وتجزية الفراغ، وانما وضع لشرح العقيدة الاسلامية بكامل جوانبها والتذكير بأهدافها السمحة، وما يتطلب الايمان بها.

وحاول الكولونيل الاميركي اقناع الشرقيين بأن تاريخ محمد شيء خالد، وكان اختيار بودلي كلمة «الرسول» عنواناً لمؤلفه القيم، كما اوضحه في مؤلفه، لانه الاسم الذي يوصف به محمد في كل نداء للصلاة حين يهتف المؤذنون في الآفاق وفي مآذن المسلمين في مختلف دول العالم، عبارة قدسية «لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله».

لهذا امام الاسلام اليوم مطلبان ضروريان لا يحتملان التسويف والتهاون وهما «حماية الذات» أمام الاساءات المتعمدة، و«التعاون على تحصيل وسائل التقدم والارتقاء» لان المطامع الاجنبية التي تواجه الشعوب الاسلامية هي درجات في القوة وفي الخطر، خاصة السيادة السياسية وتوابعها الى السيطرة على العقائد والاخلاق والعادات والنظم الاجتماعية.

ان الاسلام دين اسلامي عام، ودين عالمي يخاطب الامم جميعا فلا يفرق بين أمة وأمة بفارق الجنس او اللون او اللغة، فكل انسان على سطح الارض اهل لان يأوي الى هذه الاخوة الانسانية: قال الله تعالى: «وأرسلناك للناس رسولاً، وكفى بالله شهيداً» سورة النساء الآية 79. وقال «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون» سورة سبأ الآية 28. ان المتتبع للشريعة الاسلامية يجد ان الاسلام هو عقيدة التوحيد الخالص المجرد لله سبحانه وتعالى، وان موقف الاسلام كان المصحح للعقائد الكتابية السابقة التي دخل عليها التحريف والتبديل، ولم يكن موقف الناقل المستعير. لذلك كانت دعوة رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم الى إله منزه عن لوثة الشرك، منزه عن جهالة العصبية وسلالة النسب، منزه عن التشبه الذي تسرب من بقايا الوثنية الى الاديان الكتابية، والإله الذي يؤمن به المسلمون هو إله واحد منزه عن كل نقص، متصف بكل صفات العزة والكمال، لم يكن له شركاء، وهو رب العالمين، خلق الناس جميعا ليتعارفوا ويتفاضلوا بالتقوى، فلا فضل بينهم لعربي على عجمي او قرشي على حبشي، ولا يؤخذ انسان بذنب انسان، و لا تحاسب أمة خلفت بذنب أمة سلفت، ولا يدان العالم كله بغير نذير، وان دين الاسلام هو دين الرحمة، ودين العدل والعلم ودين الخير والسلام.

ان مثل هذا الحوار بين المسيحية والاسلام، او هذا اللقاء بين القرآن والعلم، مدهش جدا. ويقول بعض رجال الدين المسيحي في العالم الغربي، عندما نتكلم في بلادنا الغربية عن العلم والدين، يراد بذلك اليهودية والمسيحية فحسب، من دون ان يكون للاسلام فيه نصيب، لانه قد حكم عليه بكثير من الاحكام المفتراة المستندة الى مفاهيم مضللة، يصعب معها في ايامنا تكوين فكرة صحيحة عما هو حقيقة.

وانه لما يخيف ان نقرأ في المؤلفات الصادرة عن كتاب من الدرجة الاولى في الاختصاص، مناقضات للحقيقة في غاية الجلاء، كما قال الكاتب الفرنسي موريس بوكاي في مؤلفه «التوراة والانجيل والقرآن والعلم»، وقدم مثلا منها قال في دائرة المعارف العالمية المجلد السادس مادة اناجيل اشارة الى الخلافات مع القرآن، اذ يقول هذا الكاتب ما نصه «ان الانجيلين (...) لا يدعون (...) مثل القرآن نقل سيرة عجيبة مملاة من الله على الرسول»، فالقرآن ليس بالسيرة، انه موعظة، والرجوع الى اسوأ الترجمات يستطيع اظهار ذلك للكاتب، وهذا التأكيد هو ضد الحقيقة، كما لو أكد الانجيلي ان الانجيل رواية حياة إنجيلي، إن المسؤول عن هذا الخطأ في القرآن، هو استاذ في كلية اللاهوت اليسوعية في ليون، فاصدار مخالفات للحقيقة من هذا النوع يسهم في اعطاء صورة باطلة عن القرآن وعن الاسلام، ومع ذلك، فهناك مبررات للأمل، لأن الاديان اليوم لم تعد كما كانت من قبل، مطوية على نفسها، بل إن كثيرا منها يحاول ان يحقق ادراكا مشتركا وتفكيرا موحدا.

ومن متابعة الاحداث والتغييرات الجذرية على أعلى المستويات في العالم المسيحي وإطلاق صيحات حضارية منفتحة لاعادة النظر في الحياة البشرية كلها، نقول لكل طاعن بالشريعة السلامية: إن الاسلام يملك من الاحاديث النبوية ما يعادل الاناجيل، وإن السنة النبوية عبارة عن مجموعة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، كما جاء بها الروح الأمين: «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى».

إن الإنجيل والقرآن يؤكدان نفس الخبر عن أصول الرسول عيسى عليه السلام. وما ورد في القرآن عن أصول عيسى محصور في انه ابن مريم بنت عمران، وآل عمران يرجعون في ذريتهم الى سيدنا ابراهيم عليه السلام، الذي يعود في ذريته الى آدم عليه السلام، لذلك في نظر الإسلام ان عيسى عليه السلام مولود مريم وهبه الله اليها، وهو مخلوق مثل غيره من البشر، والله يؤكد ذلك بقوله «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» سورة آل عمران الآية 59.

وقال تعالى «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً» سورة النساء الآية 171.

ومن هنا نجد ان نصوص القرآن الكريم كانت في الدفاع والتصدي عن أصول عيسى عليه السلام للرد على الناس عندما ارتابوا بوالدته مريم، وتأكيدا صادقا من الشريعة الإسلامية التي كانت مجهولة في العالم الغربي المسيحي بالنسبة لقيمها، وقد أكدت الشريعة الإسلامية ان كل الادعاءات عن أصول عيسى مرفوضة إسلامياً، كما تصدى عيسى للرد على الناس، فقال «إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً» سورة مريم، الآىتان 30 و 31.

وأمام كل هذه المعلومات التي تجمعت أمام كبار العلماء والفكر المسيحي الأوروبي وأمام الاقتراحات التي رفعت لقداسة البابا بولس السادس بابا الفاتيكان للديانة الكاثوليكية في العالم، عقد مجمع الفاتيكان في روما اجتماعات سرية متواصلة بدأت عام 1962 واستمرت ثلاث سنوات حتى عام 1965، وكانت على جانب كبير من الأهمية شارك فيها كبار قادة العالم المسيحي، وصدرت بنهايتها وثيقة تاريخية عن أمانة سر مجمع الفاتيكان، ثم وزعت الوثيقة في ما بعد على غير المسيحيين، وقد تضمنت توجيهات حضارية تدعو بشكل صريح لقيام دور مسيحي ـ إسلامي لما فيه خير البشرية. وفي عام 1970 صدرت طبعة ثالثة عن الوثيقة التاريخية، أشارت لبعض الأوهام والافتراءات التي كانت لدى المسيحيين عن الإسلام، وأصرت بكل وضوح على ضرورة الاعتراف بأخطاء الماضي وانحرافاته التي اقترفها العالم الغربي ذو النشأة المسيحية بحق المسلمين، وبحق شريعتهم السماوية. وكانت وثيقة بليغة المعنى عن المواقف الحديثة المتخذة تجاه الاسلام مضيفة مع الحاح على مراجعة المواقف تجاه الإسلام وعلى نقد حكامنا، ويجب ان نهتم أولاً وتدريجيا بتغيير فكر اخوتنا المسيحيين وهذا يهمنا قبل كل شيء، ونقول ـ بجرأة ـ «إن المسلمين لم يتعاطف معهم العالم المسيحي إلا قليلاً» مضمون الصفحة 14 من الوثيقة.

* نداء الفاتيكان

* لقد تألف نداء الفاتيكان إلى الشعوب المسيحية من مائة وخمسين صفحة تحت عنوان (وثيقة نور العالم) (توجهات من أجل حوار بين المسلمين والمسيحيين)، ORIENTAIONS POUR UN DIALO QUE ENTRE CHRETIENSET MUSULMANS. وفي الصفحة 17 قال نداء الفاتيكان «سنجد الفرصة بصورة أوسع في ما بعد للكلام حول إصلاح عقيدتنا وأفكارنا عن الإسلام والمسلمين».

وفي الصفحة 18 قالت الوثيقة «غير انه يكفينا الآن ان نؤكد على أهمية التغيير في اعتقادنا في الإسلام، وذلك بالنسبة لمن يريد ان يرى في رفيقه المسلم ذلك الرجل كما هو على حقيقته، لا كما هو في الصورة البائدة الموروثة عن الماضي المشوه بالاحكام المغرضة وبالافتراءات».

وفي الصفحة 27 قالت الوثيقة «إن الإسلام في حقيقته الواضحة والثابتة تاريخيا، يجب ان نرى فيه دينا مشحونا بقيم هي من بين أسمى القيم وأعظمها احتراما، والاعتراف بالظلمات التي اجترحها الغرب بحق المسلمين».

وكانت تلك الوثيقة تفيض بتنفيذ الرؤى التقليدية التي كانت للمسيحيين عن الإسلام، وتعرض ما هو حقيقة وبشكل مفصل وواقعي. وقبل متابعة مضمون وثيقة الفاتيكان لا بد من تعليق بسيط على اخطاء الغرب بحق المسلمين من خلال الاحكام الضالة كل الضلال التي صدرت في الغرب بحق الاسلام، فقد كانت وليدة الجهل أحياناً، أو نتيجة التهجم التلقائي. وقد كانت أفظع هذه الضلالات انتشارا هي المتعلقة بالوقائع المتلبسة بالأوهام والتي لا تنسجم مع شريعة الإسلام وهي مليئة بالتناقض مع الحقيقة. وأذكر على سبيل المثال: ان البابا بينوا الرابع عشر المشهور بأنه الحبر الأعظم في القرن الثامن عشر، لم يتردد في ان يرسل بتبريكه الى فولتر، وقد أراد شكره على اهدائه له مأساته (محمد)، أو التعصب عام 1741م وهي مسرحية سيئة يستطيع ان يكتب مثلها أي كاتب تتوافر له بذاءة كافية، وقد لقيت تلك المسرحية على الرغم من ذلك ترحيبا في التراث الكلاسيكي الكوميدي الفرنسي.

لقد انتقدت الوثيقة البابوية مفاهيم المسيحيين الخاطئة عن قدرية الإسلام الذي يتمسك بالتشريع الإلهي الصحيح من تعصبه في هذا المجال العقائدي والحاحه بوحدانية الإيمان بالله، كما ذكرت بالمفاجأة العظيمة التي أدهش بها الكاردينال كوننغ سامعيه في المحاضرة التي القاها عام 1969 في جامعة الأزهر حين أعلن هذه الأفكار الصريحة التي اصدرها مجمع الفاتيكان، وذكرت أيضاً بتوجيهات أمانة سر الفاتيكان سنة 1967 التي دعت المسيحيين الى تهنئة المسلمين بمناسبة انتهاء شهر الصوم ـ رمضان ـ في ذاك العام، وأقرت بأن تلك المناسبة لها قيمة دينية أصيلة.

ملاحظة: جاءت تهنئة الفاتيكان بنهاية شهر الصوم يوم الأحد 30 رمضان 1387هـ الذي وافق يوم 31 ديسمبر (كانون اول) 1967 وهو نهاية العام وبدء العام الميلادي 1968، وكانت مناسبة تجمع بين الديانتين في يوم واحد، نهاية الصوم واحتفال المسلمين بعيد الفطر، واستقبال عام جديد لدى المسيحيين من الطائفة الكاثوليكية.

وتحت عنوان «علينا ان نتحرر من أضخم مزاعمنا الباطلة» وجهت الوثيقة الدعوة الى المسيحيين فقالت «وهنا أيضاً ينبغي ان نخضع أفكارنا لتزكية عميقة، وان نفكر بالخصوص في بعض الاحكام المسبقة التي ننقلها غالبا وببساطة عن الإسلام، ويبدو أساساً ان لا نمارس في سرنا اجترار هذه النظريات الشائعة التي أدت بنا الى ان نستعمل في لغتنا بصورة رسمية لفظة الله، قاصدين بها إله المسلمين، كما لو كان المسلمون يؤمنون بإله غير إله المسيحيين».

واعترفت الوثيقة ان لفظة الله في العربية تعني الألوهية الواحدة، والله هو بالنسبة الى المسلمين نفس إله موسى وعيسى عليهما السلام، وألحت على هذه الناحية الاساسية في العبارات التالية: «إنه يبدو باطلاً ان ندعم مع بعض الغربيين القول بأن الله ليس في الحقيقة هو الإله، حسب اللغة والنقل الفرنسي DIEU، والحق انه لا يمكن تلخيص العقيدة الاسلامية في كلمة الله، بأحسن من العبارات من وثيقة نور العالم، فالمسلمون الذين يؤمنون بعقيدة ابراهيم يعبدون معنا الإله الواحد الرحيم ديان الناس في اليوم الآخر».

* ليس دين الخوف

* وأوردت الوثيقة آيتين من القرآن مجهولتين جداً من الغربيين الأولى «لا إكراه في الدين» ونص الآية «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» سورة البقرة الآية 256. والثانية «وما جعل عليكم في الدين من حرج» ونص الآية «وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير» سورة الحج الآية 78.

وأشارت الوثيقة إلى ما يتردد عن الإسلام بأنه دين الخوف، فقالت «إن الإسلام دين الحب، حب الغير المتأصل في العقيدة بالله». كما فندت الوثيقة الكاثوليكية الفكرة الرائجة باطلاً، والتي تهدف الى وصم الإسلام بأنه خال من النظام الأخلاقي، تلك الافتراءات والترهات التي يساهم فيها عديد من اليهود والمسيحيين التي مآلها تعصب الإسلام، واشارت الى تلك المزاعم والأباطيل بحق الإسلام بالنص الآتي «والواقع ان الإسلام لم يكن أكثر تصعباً في مجرى تاريخه من المدن المقدسة المسيحية عندما كان للإيمان المسيحي نوع من القدر السياسي».

وأوردت الوثيقة البابوية عبارات من القرآن توضح: ان ما كان يترجمه الغربيون خطأ «بالحرب المقدسة هو ما يعبر عنه في العربية: «الجهاد في سبيل الله» «الجهاد لنشر الإسلام والدفاع عنه ضد المعتدين»، وقالت الوثيقة موضحة كلمة الجهاد: «إن الجهاد ليس الحرم التوراتي»، ولا يتجه الى الابادة أبداً، ولكن لنشر شرائع الله وحقوق الانسان في المقاطعات الجديدة، لقد كانت مظاهر الشدة في الجهاد في الماضي تتبع قوانين الحرب، ولم يكن المسلمون أيام الصليبيين هم الذين يرتكبون دوماً أكبر المجازر».

وهنا أضيف على ما نصت عليه وثيقة الفاتيكان من ايضاحات عن شريعة الإسلام، وما جاء في كتاب القرآن من آيات صريحة حيث قال تعالى «يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض» سورة النساء الآية 170، «يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا اليكم نوراً مبيناً» سورة النساء الآية 174، «ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير» سورة الحج الآية 8.

وهنا لا بد من القول بعد تلخيص لمضمون وثيقة الفاتيكان التاريخية بأنها خير رد على الحملات السياسية والاعلامية الظالمة التي تعرضت لها السعودية من أجهزة إعلامية غربية سواء كانت أميركية أو بريطانية، والتي شارك فيها بعض أعضاء في مجلس النواب والشيوخ في الولايات المتحدة وبخاصة منهم جون ماكين، وجوزف ليبرمان، علماً بأنهما من العناصر المؤيدة لمنظمات صهيونية، لذلك كانت تلك الحملات عبارة عن افتراءات وهراء مزعومة لا تستند لواقع الشريعة الاسلامية.

إن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أوضح لأمة الإسلام وللبشرية جمعاء مضمون ما أنزل عليه من جبريل عليه السلام باعتباره وحي السماء بكل حزم عندما قال «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين» سورة البقرة، الآية 208، كما قال «ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين» سورة الحج، الآية 34. إن الله تعالى قد جعل الأمة الإسلامية أمة الوسط، اعتدالا وقصدا وعقيدة وشريعة لتقيم العدل والسلام بين الناس جميعا، قال تعالى «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» سورة البقرة، الآىة 143.

كما أضيف على وثيقة الفاتيكان بشأن ما كان يترجمه الغربيون خطأ «بالحرب المقدسة»، «الجهاد في سبيل الله»، بأن افضل الجهاد في سبيل الإسلام هو كلمة عدل، أو حق، فالإسلام دين مفتوح النوافذ على النور والخير، وإن حقائقه واضحة، ومعقولة، وصريحة، وهادية، وانسانية، وعالمية خالدة. قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» سورة النحل، الآية: 125. فالإسلام، رسالة للعالم أجمع وليس لشعب خاص ولا لبلد خاص ولا لأمة خاصة.

ومن الفضائل الكبيرة للإسلام تحريم الاعتداء أو النيل من النفس أو المال، أو الدين، أو العرض، أو العقل، إلا في حالة الدفاع الشرعي. قال تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» سورة البقرة، الآية: 190، فالإسلام هو دين السلام والمحبة، دين القوة، دين الأخوة البشرية، دين العلم، دين الفضيلة والأخلاق الكريمة، لا توجد فضيلة ولا مكرمة إلا دعا إليها، ولا توجد رذيلة إلا حذر منها، فهو دين البناء والتقدم وحث الانسان في الدعوة إلى الخير واغتنام فرصة الحياة لعمل ما ينفع الانسان المؤمن في الآخرة. قال تعالى: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين» سورة البقرة، الآية 194.

وإلى حلقة ثانية للحديث عن صدى وثيقة الفاتيكان وبدء الحوار بين وفد من كبار رجال القانون والفكر المسيحي ووفد علماء السعودية.

* كاتب وصحافي سعودي