صاحب الفكر الموسوعي.. عاش في صمت ورحل في صمت

عبد الصبور مرزوق: ما قدمته لا يساوي قطرة في بحر العلم الذي لا ينتهي

عبد الصبور مرزوق («الشرق الأوسط»)
TT

في صمت كما عاش.. رحل عن عالمنا الدكتور عبد الصبور مرزوق، الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فلم يرض لنفسه أن يعيش في الأضواء، مفضلا العمل في صمت حتى آخر لحظة في حياته.

وبالرغم من أمراض الشيخوخة التي داهمته منذ بضع سنوات حتى جعلته لا يستطيع الحركة من الفراش، إلا إنه ظل فارسا مغوارا في الدفاع عن الإسلام والرد على الشبهات التي تثار ضده من حين لآخر. ولم يكف عن هذا الذود حتى وهو على فراش المرض، فقد أصدر منذ بضعة أشهر كتاب «عالمية الإسلام وإنسانيته.. رسائل إلى عقل الغرب وضميره»، مخاطبا من خلاله العقل الغربي بما جاء به الإسلام من تعاليم تأمر المسلم بأن ينظر إلى الناس جميعا من دون تفرقة، وبغض النظر عن معتقداتهم بأنهم إخوانه في الإنسانية حيث أنهم ينحدرون من أب واحد وأم واحدة، مبينا أن الإسلام يحض الإنسان على أنه يجب أن يعيش ويتعايش في سلام دائم مع غيره. وعلى امتداد عمره الذي ناهز 82 عاما عاش عبد الصبور مرزوق الذي رحل عن دنيانا يوم الاثنين الماضي مشوار حياة حافلة بالعطاء في مجالات الفكر الإسلامي والدعوة. وكمعظم القرويين تمتع بدماثة الخلق وطيبة الروح والتواضع الجم، فقد كان يرى أن ما قدمه من عطاء مجرد نقطة في بحر العلم الذي لا ينتهي. ولد الدكتور عبد الصبور مرزوق في عام 1924 بقرية بي العرب في مركز الباجور بمحافظة المنوفية، وأتم تعليمه قبل الجامعي بالأزهر ثم التحق بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، حيث تخرج فيها عام 1948. وعمل فور تخرجه مذيعا بالإذاعة المصرية وتقلد خلالها عدة مناصب، ولم يثنه العمل عن انشغاله بمواصلة دراساته العليا، فاستطاع الحصول على الماجستير بدرجة ممتاز عن موضوع «الخطابة في مصر منذ بداية إعلان الحماية البريطانية»، ثم الدكتوراه في موضوع «أدب ثورة 19 في مصر»، وعمل في التدريس بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وتنقل في هذا المجال بين العديد من الجامعات في الدول الإسلامية والعربية.

وقد أثرى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات في مجال الفكر والدعوة والأدب الإسلامي، ترجم معظمها إلى عدة لغات أجنبية، أهمها كتاب «الإسلام والقران» و«مقولات ظالمة» و«معجم الأعلام والموضوعات في القرآن الكريم» و«نساء ورجال تحدث عنهم القرآن الكريم» و«حقائق في مواجهة شبهات المشككين» و«أدب الدعوة في عصر النبوة» و«السيرة النبوية في القرآن الكريم» و«عالمية الإسلام وإنسانيته.. رسائل إلي عقل الغرب وضميره».

وقد ترك الدكتور مرزوق خلال فترة عمله في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بصمات لامعة من خلال تبنيه خططا لتطوير أداء عمل المجلس وتبينه كثيرا من المشروعات التي تخدم الإسلام والدعوة، مثل استحداث مشروع لترجمة الموسوعات والكتب المهمة، وترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة، فضلا عن تبنيه إصدار عدة موسوعات منها: الموسوعة القرآنية، والموسوعة الإسلامية العامة، وموسوعة أعلام الفكر، وموسوعة علوم الحديث، وموسوعة الحضارة الإسلامية. وكان دائما يسعى من خلال كتاباته وأحاديثه لوسائل الإعلام إلى تأكيد أواصر الوحدة بين المسلمين ونبذ الفتن المذهبية التي تؤدي إلى الخلاف والفرقة وإضعاف كيان الأمة الإسلامية.

وكان يؤكد دائما أن جميع المسلمين وكل العرب مستقبلهم محفوف بالمخاطر وليس أمامهم طريق غير إعادة إعمال مفهوم الأمة الذي أكد عليه القرآن الكريم، وأن يتقارب السنة والشيعة وأن يُجنبوا الخلافات المذهبية جانبا ليشكلوا اتحادا قويا تسمو به الأمة وتواجه التحديات العاتية في العصر الراهن، مؤكدا أن التقريب بين المذهبين ضرورة حتمية أمام من يريد أن يزيح الإسلام كله من الوجود بمن فيه من سنة وشيعة. وكان الراحل أحد القلائل الذين يتمتعون بسعة وعمق الثقافة وهو ما أهله لأن يكون كاتبا موسوعيا. وفي فترة مرضه، كان دائما يحث العاملين معه على تزويده بأحدث الأخبار والتطورات التي تجري على الساحة الدولية.

وكان دائما يردد لهم مقولته الشهيرة «الإنسان الذي يعيش بمعزل عن الحياة ولم يتابع ما يجري على الساحة من أحداث، لا فرق بينه وبين الميت»، فضلا عن أنه كان شجاعا في قول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم، ومن مواقفه المشهودة معارضته لكثير من الفتاوى التي أصدرها شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي. كما شغل العديد من المناصب، منها عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، بجانب عضويته في العديد من المنظمات والهيئات الدعوية والإسلامية في مصر وخارجها. فقد عمل مديراً للمركز الإسلامي في الصومال. ثم مديرا لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ومساعدا لأمينها العام، وأستاذا في أدب الدعوة بجامعة الملك عبد العزيز.