علماء مسلمون: التجديد محمود.. لكن المس بالثوابت أمر خطير

الشيخ أحمد الخمليشي ود. محمد عبد المنعم البري
TT

استكمالا للردود على المشروع التركي الذي انطلق من جامعة أنقرة لمراجعة الأحاديث النبوية الشريفة وإعادة قراءتها لفهمه في سياق معطيات العصر والمشكلات الاجتماعية المعاصرة، ننشر هذا الأسبوع مجموعة من الردود الأخرى التي وردتنا من علماء مسلمين أبدوا ملاحظاتهم القيمة على المشروع التركي.

لتوضيح الهدف الأساسي من المشروع يقول رئيس فريق البحث في جامعة أنقرة يافوز أونال: إن الهدف من المشروع هو تقديم مقاصد النبي (صلى الله عليه وسلم) بلغة يمكن فهمها بالنسبة للمسلم اليوم، مؤكدا أن الهيئة التي يرأسها ترحب بكل جهد من أي عالم أو باحث متخصص. وأشار إلى أن الهيئة تستعرض نحو 162 ألف حديث نبوي شريف. وذكرت مصادر الهيئة أيضا أن ما يتعلق في الاحاديث الخاصة بالمرأة تم إنجازه، وأن أكثر من عشرة آلاف حديث اختيرت لإظهار التسامح في أحكام الدين. وبرزت في الآونة الأخيرة قضايا خلافية بين علماء المسلمين مثل حق المرأة في إمامة المسلمين في الصلاة، وتباينت الآراء بين إمكانية أن تؤم المرأة النساء في صلاة الجماعة أو أن تؤم المصلين عامة، في حين لا يزال من يرى وجوب أن لا تتولى المرأة هذه المهمة بالمطلق.

وتختلط مع هذه الخلافات الفقهية من منظار غربي سلوكيات تشهدها بعض المجتمعات العربية والإسلامية كجرائم «قتل الشرف» التي تنفذ ضد النساء في حالات الإخلال بالشرف حسب المعايير الشرقية.

وفي هذا الإطار يقول طه أكيول المحلل السياسي التركي «إن هناك سوء فهم في العالم الغربي، باختصار الإسلام ببعض المجتمعات، بينما يمكن لدولة مثل تركيا أن تكون جسرا لتصويب النظرة الخاطئة للإسلام في الغرب»، وأضاف «إن ما يجري هو ثورة حقيقية في تركيا.. فالتغيير آت من الطبقة الوسطى في المجتمع، وهو الإصلاح الحقيقي».

ما يمكن الاتفاق فيه هو أن هذه الخطوة جريئة وان الهدف يستحق المبادرة إلا أن ذلك سيفتح باب النقاش واسعا وهو ما يقبله منهج الإسلام ويشجع عليه في إعمال الفكر وتكثيف الحوار البناء.

وفي الرباط التقت «الشرق الأوسط» بالدكتور أحمد الخمليشي، مدير دار الحديث الحسنية، وهي أكبر مؤسسة تعليمية إسلامية في المغرب، تهتم بالدراسات الإسلامية خاصة علوم الحديث، لتبيان رأيه في هذا الموضوع فقال: إن المشروع يجب ألا يقابل فقط بالنقد والاستنكار، بل بعمل آخر يقف عند الحدود المرغوب فيها، ويقوم على نقاش مستفيض لكل ما ورد في المشروع، وتبيان ما هو سليم وغير سليم في هذه الخطوة، لأن مجرد نقد العموميات يقود إلى جدل عقيم لا طائل منه، مضيفا «أنه من حيث المبدأ ليس هناك خلاف بين المسلمين قديما وحديثا على أن هناك عددا كبيرا من الأحاديث موضوعة ومنسوبة زورا إلى النبي الكريم، وأن السابقين تعرضوا للموضوع وحاولوا أن يجمعوا الشروط التي تجعل الحديث ثابتا وصحيحا، أو منسوبا باعتبار أن به علة، ذلك أنهم قالوا إن الحديث الصحيح هو ما رواه عدل عن عدل وسلم من العلة، وهذه العبارة الأخيرة هي التي ينبغي أن نحتكم إليها».

وفيما إذا كان من الممكن في وقتنا الحاضر استحداث طرق يمكن بواسطتها التثبت من صحة الأحاديث النبوية الشريفة، أوضح الخمليشي أنه من الممكن من حيث المبدأ أن تظهر في حديث ما علة ولم تظهر من قبل، فمن وسائل التحقيق والبحث التي تستعمل اليوم، الرجوع إلى التاريخ لنتأكد من الوقائع المتعلقة بالرواة، متى ولدوا، ومتى توفوا.. الخ، وكذلك ممكن أن نستعمل ما يعرف اليوم بـ«تاريخ المصطلحات»، فربما وجدت بعض الأحاديث استعملت مصطلحات لم تكن موجودة في حياة الرسول الكريم، مثل هذه الوسائل العلمية، أعتقد أنها مجرد إغناء للوسائل التي قام بها السابقون، وفي هذا لا يعتبر خروجا عن المنهج العام للعاملين والمشتغلين بعلم الحديث منذ العصر الأول للإسلام، لأن إضافة ـ قيد السلامة من العلة ـ يجعلنا قادرين على إعادة البحث والتدقيق، لأن أية مراجعة لا تأخذ بهذا المعيار الذي وضعه السابقون لا يكون سليما. فلا يمكن فقط أن نقرر باسم المسلمين جميعا، أن هناك أحاديث غير ملائمة للواقع فنقوم بحذفها أو تفسيرها تفسيرا خاطئا. فعلى جميع الباحثين في علم الحديث أن يضيفوا إلى ما قاله السابقون في محاولة التمييز بين الحديث الصحيح والموضوع، وهذا الأمر يختلف عن رفض حديث ما لأنه لا يعجبنا أو أن ظروف الحياة المعاصرة تقتضى أن نستبعده.

وحول وجود أحاديث قيلت فقط لتصلح وتعالج واقعة معينة دون غيرها، بحيث يمكن الاستغناء عنها في عصرنا الحاضر، قال الخمليشي: بالنسبة للأحاديث من هذه الناحية، هنالك أحاديث بأحكام شرعية، والتي هي جزء من الوحي. وفي الجانب الآخر، هناك أحاديث سواء كانت قولية أو فعلية، تتعلق بتسيير وتدبير الحياة اليومية، قال عنها الفقهاء إنها مرتبطة بظروف صدورها، والأصوليون ربطوها بمبدأ أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، مثلا الحديث المتعلق باللقطاء، وحكمها هو النداء عليها في الأسواق والمساجد لمدة سنة، وفي ظروفنا الحالية، توجد وسائل فعالة لإعادتها إلى صاحبها، لأن الغرض من الحديث أصلا هو إيصالها إلى صاحبها، وهذا ليس إنكارا للحديث، ولكنه تطبيق لروح الحديث، فإذن هناك بعض الأحكام ـ وهي قليلة بالتأكيد ـ مرتبطة بظروف خاصة وتحقق المصلحة، ومن أجل هذا قال الأصوليون: إن الحكم أن ينظر فيه ما له في التطبيق.

وعلى مستوى الدول وتعامل كل دولة إسلامية مع النصوص والأحكام الدينية وفقا لظروفها وأوضاعها، يرى الخمليشي أنه من ناحية قد تكون هنالك أحكام إسلامية تختلف من بلد إسلامي إلى آخر، ومثلا لا يمكن أن نقول للناس إنه يجب أن تكون عقود الإيجار والعمل والشركات، متطابقة في جميع الدول الإسلامية، ولذلك بعض الأحاديث المتعلقة بالمعاملات، قد نجد في بعضها اختلافا بين بلد إسلامي وآخر، لأن الأحكام مرتبطة بحكمها والغايات التي جاءت من أجلها. وفي هذا ليس خروج على الدين ما دامت الأحكام وضعت من أجل تحقيق مصلحة وتفادي مفسدة، ولكن هناك أحكاما أساسية أخرى، ينبغي إلا تكون مختلفة بين الأقطار الإسلامية، مثل وجوب تحقق المساواة بين المواطنين والعدالة في العقود، لأنها تعتبر أحكاما جوهرية في الإسلام، وليس كل قانون موجود في دولة إسلامية بالضرورة يكون لدى الأخرى، فقد يوجد ما يعرف بالقانون البحري في دولة ما وهناك دول إسلامية لا يحدها أي شاطئ، فهي ليست في حاجة لهذا القانون. فإذن يجب أن ننطلق من المبادئ ونبحث عن جوهر الأشياء، ومن ثم يجب أن نميز بين المبادئ وبين الخطأ في تطبيقها، فقد تكون المبادئ سليمة، ولكنها من حيث التطبيق خاطئة، وهنا يقع الإفراط والتفريط.

أما الدكتور محمد عبد المنعم البري، أستاذ التفسير والحديث بجامعة الأزهر ورئيس جبهة علماء الأزهر السابق، فيرى أن هناك فرقا بين الاجتهاد وتجديد فهمنا للدين وفق مقتضيات العصر مع الحفاظ على الثوابت، وبين تجديد الدين والمساس بالثوابت الأساسية. مؤكدا أن هذا التجديد الذي يمس الثوابت الدينية غير مقبول وغير محمود وفيه شطط كبير، مشيرا إلى أن الدعوة إلى تنقية السنة من الأحاديث الدخيلة أمر محمود، لكن العبث ببعض الأحاديث، كحذف الأحاديث التي تؤكد على إقامة الحدود بحجة حفظ الأمن في المجتمع، وكذلك الأحاديث الخاصة بالمرأة بحجة أنها تمثل قيدا على حرية المرأة يعد هذا عبثا بالدين، لأن التشريعات الإسلامية بنيت على قواعد أساسية تهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية. وبالتالي فإن الأحاديث الخاصة بالمرأة سواء في الميراث أو طلب العلم وغير ذلك كان الهدف منها حفظ حقوق المرأة وصيانتها وليس ظلم المرأة كما يدعي البعض. وقال الدكتور البري إن أي محاولة أو مشروع يتعلق بالاجتهاد في بعض القضايا في الدين، يجب أن يعرض على علماء الأمة في المجامع الفقهية الإسلامية لبحثها وتمحيصها والخروج فيها برأي جماعي يجمع المسلمين لا يفرقهم، لأن التصرفات الفردية كثيرا ما تضر بالمسلمين في هذا العصر. ويؤكد الدكتور محمد السيد الدسوقي، أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، أن قضية التجديد في فهم الدين شغلت كثيرا من العلماء والمفكرين في العصر الحديث، وأن هذا الاهتمام بهذا الموضوع يعد ظاهرة صحية لأنه يعبر عن رغبة طيبة في أن تظل للدين الهيمنة على الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المختلفة. ومن ثم أرحب بتجديد المفاهيم في إطار الثوابت الأساسية في الإسلام وعدم المساس بها، وذلك لأن الإسلام دين الحياة ولهذا يعترف بالحقائق ولا يخرج على السنن الكونية ولا يضيق صدرا بالإصلاح. لذا كان هذا الدين صالحا لكل زمان ومكان. فالتجديد في فهم الدين ضرورة لتأكيد أنه دين صالح للتطبيق الدائم وأن الوحي المعصوم يتسع صدره للتجديد على خلاف ما يتوهمه البعض لأن هذا الوحي يحض على التجديد وينهى عن التقليد. واختتم الدكتور الدسوقي حديثه قائلا: «إذا كان البعض ينطلق فيما ينادي به عن التجديد من اعتقاد بأن التجديد معناه فتح الأبواب لكل جديد بدعوى أن الجديد دائما يمثل التقدم والرقي، والقديم يمثل التخلف والانحطاط، فهم بذلك الفهم مخطئون في فهم التجديد، لأن التجديد في جوهره ليس تصرفا بشريا خالصا، وإنما هو جهد عقلي واع على قدر الوسع والطاقة في إطار ضوابط وقواعد شرعية». ويرى الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، أن الدعوة إلى تجديد الإسلام بما يتوافق وروح العصر تحتاج إلى توضيح أكثر. فإن كان يقصد بها تجديد المسلمين لفهم الإسلام في ضوء الثوابت الأساسية ومواصلة الاجتهاد والأخذ بكل جديد لا يتنافى مع قواعد الإسلام يكون التجديد حينئذ جائزا بل مطلبا أساسيا للمسلمين في هذا العصر. أما إذا كان المقصود بهذا التجديد إدخال للإسلام بما ليس فيه، أو حذف أحاديث معينة في السنة، أو تعطيل العمل بها بحجة أنها غير مناسبة لهذا العصر، فهذا غير جائز لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي».