إنصاف الغرب لا يعني اتباعه

د. عائض القرني

TT

كتبت مقالتي (نحن العرب قساة جفاة) عن مشاهداتي في باريس، ولا أجدني ابتعدت عن الصواب؛ فقد ذكرتُ جانباً من جوانب حياتهم، وقد تجتمع في الشخص والدولة والشعب والأمة حسنات وسيئات ومناقب ومثالب، وأذكرُ هنا مسائل: 1 ـ لا يجوز التعريض بالدعاة وطلبة العلم بأنهم لم يفهموا الواقع، ولم يطلعوا على حضارة الغرب ونحو هذه النغمة السائدة، وأنا قد سافرت إلى أوروبا وأمريكا مرات من قبل هذه الزيارة، ووالله ما سافرتُ من السعودية إلى فرنسا إلا وقد اطلعتُ على تاريخ فرنسا الحديث مع كثير من كتب مفكريها ومثقفيها، ولي إلمامٌ بتاريخ الثورة الفرنسية وصولاً إلى شارل ديغول، الثوري الرمز، مروراً بالرئيس جورج بومبيدو السمين الضخم، تعريجاً على الرئيس المتألق فالري جيسكار ديستان، تطويفاً على الرئيس الغامض النابه، فرونسوا ميتران، وصولاً إلى الرئيس المنظر، جاك شيراك، وأخيراً الرئيس المستعجل المطفوق نيكولا ساركوزي، فهل يُظَن أني كتبتُ المقال بناءً على مروري في شارع «شونزي إليزي» وهذا لم يحصل. 2 ـ إن منهج الوحي كتاباً وسُنة يقوم على الإنصاف والعدل حتى مع غير المسلمين، وقد أنصفَ اللهُ النصارى في كتابه فقال: «لَيْسُواْ سَوَاء منْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمةٌ قَآئِمَةٌ»، وقال: «وَلَتَجِدَن أَقْرَبَهُمْ موَدةً للذِينَ آمَنُواْ الذِينَ قَالُوَاْ إِنا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَن مِنْهُمْ قِسيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ». وفي صحيح مسلم، أن رسول الله قال: «لا تقوم الساعة إلا والروم أكثر الناس»، والروم هم أجداد الأمريكان والأوروبيين. وعلق عمرو بن العاص على هذا الحديث بمدحهم ثم قال: «هم أمنعُ الناسِ للظلم»، فلماذا لا ننصفهم في هذا الجانب كما أنصفهم الله ورسوله والصحابة 3- قبل أن أزور باريس بأيامٍ، نقلت قناتا «العربية» و«الجزيرة» مشهداً مؤثراً للرئيس ساركوزي وهو يصافح فلاحين، فمد يده إلى أحدهم مصافحاً ومسلماً، فقبض الفلاح يده وصاح في وجه الرئيس: «أنا لا أصافحك، أنت رئيس كذاب!!»، فرد عليه الرئيس بقوله: «وأنت أحمق»، فمال الرأي العام كله مع الفلاح ضد الرئيس. وهاجمت الصحافة الرئيس، ونقصت شعبيته بسبب هذه الحادثة، فبالله لو قام فلاح عربي بنفس التصرف مع رئيس عربي من الأنظمة الثورية القمعية الاستبدادية، فماذا ستكون النتيجة طبعاً سوف ينادي الزبانية والجلادين بقوله: «خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلُّوه»، فلماذا لا ننصفهم كما أنصفهم عمرو بن العاص في هذه المسألة.

4- حاضرتُ أنا والدكتور سعد البريك والدكتور عبد العزيز المقحم والدكتور عبد الله الحارثي في مساجد باريس وليون (فرنسا)، وبروكسل (بلجيكا) ومدريد (إسبانيا) وغيرها من المدن. وحضر الكثير من أبناء الجالية العربية التي فر أغلب أفرادها من السجون والمعتقلات العربية من أنظمة قمعية ثورية استبدادية انقلابية ترفض تحكيم الشريعة الإسلامية، فتعلموا في أوروبا الطب والهندسة والطيران والتكنولوجيا، ومارسوا الدعوة في المراكز الإسلامية والمساجد ووسائل الإعلام، فهل تسمح لهم كثير من الأنظمة العربية بذلك فلماذا لا ننصفهم في هذا الجانب 5- أننكِرُ أن الحضارة ـ ولو كانت مادية ـ ترقق الطباع، وهذا أمر معلوم متعارف عليه شرعاً وعقلاً. وفي حديث حسن يقول (: «من بدا جفا»، والمعنى: من سكن البادية وابتعد عن الحضارة صار في خُلُقه جفاء وفي طباعه قسوة. ولما سافرتُ إلى أمريكا مع الدكتور عبد القادر طاش وشاهدنا اصطفاف الناس بانتظام مع حسن الترتيب والنظام في الأخذ والعطاء التفت إليَّ، وقال: «الحضارة ترقق الطباع»، فلماذا لا نلمح هذا الجانب ولماذا لا نتذكر قسوة كثيرٍ منا وأدلة هذه القسوة موجودة فمنها آثار الكدمات واللطمات في جباه بعضِنَا من آثار التضارب والتقاتل فيما بيننا، ومنها كثرة الصدمات في السيارات نتيجة للعنف الاجتماعي.. وهل ننكر أن الكثير منا يحمل عصاً وهراوة في سيارته لوقت الطلب والمنازلة 6- أنا لا أنكر أن فرنسا احتلت الجزائر، وأيدت إسرائيل، ولكنني لا أنكر ما وصلوا إليه من رقيٍّ ماديٍّ وتفننٍ في أساليب الحياة، كما قال تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا منَ الْحَيَاةِ الدنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»، أليس في حياتهم الدنيا التداول السلمي للسلطة بلا قتل ولا انقلاب ولا غدر ولا خيانة أليس في حياتهم الدنيا الطب الراقي والصناعة الناجحة والتنظيم والترتيب مع جودة البناء وسرعة القطارات وإتقان الطائرات ونحوها من الأمثلة.